تحالف الفقر مع الزمن علينا حتى بات من الصعب التفريق بين ملامح الخمسيني والسبعيني، كما حال هذا الرجل الذي جلس مواجهًا لي في المترو ومعه فتاة في العاشرة، يصح أن تكون ابنته لو كان خمسينيًّا، وتصلح حفيدة لو كان سبعينيًّا.
كان بينهما كيس بلاستيكي يوحي اهتراؤه بأنه يلازم الرجل منذ فترة طويلة، ربما كانا معًا قبل مولد هذه البنت. تطل من الكيس ملابس قديمة وسقط متاع. عندما جلست في مواجهتهما كان وجه الرجل نصف مختف بين صفحات جريدة الأهرام. ثم رفع وجهه عن الجريدة وبدا منفعلًا، ثم بالغ في انفعاله ليجرني إلى حوار. وأعطيته ما أراد.
قلت: ماذا في الصحيفة أغضبك إلى هذا الحد؟
قال: مهندسة شابة في الصعيد ضربها القطر. مهندسة معمارية عندها 30 سنة، مهندسة إنت متخيل؟! إزاي مهندسة ومش عارفة تعدي الطريق؟
قلت: اعذرها الناس ماشية تايهة من الهم.
قال: عشان كدا اللي بيحصل هايل، كله هيكون كباري من فوق، شغالين في كل مكان. بعد كدا مفيش حد هيموت تحت القطر.
قلت: يا رب!
قال: لا! الحمدلله، كله ماشي تمام، بس الحرب اللي جنبنا دي مبهدلانا، قناة السويس ما عادش بيدخلها سفن، خسايرها بالملايين، وخساير بالمليارات في الاقتصاد كله.
قال كلامًا كثيرًا في هذا الإطار، وبدا فخورًا لأنه يحاضر فيَّ أمام الفتاة، حتى أنه انتبه إلى وجودها للمرة الأولى وشرع ينظر إليها ليرى صورته في عينيها.
قلت: مش يمكن لو سمينا "الحرب اللي جنبنا" باسم آخر كان وضعنا بقى أفضل؟
قال الرجل مذعورًا: لا أرجوك، نحارب؟! إزاي عايز تنجر للحرب وإنت بتستورد قمحك. عندنا الأرض الخصبة، أطول نهر، لكن فين النتيجة؟ إنت تلاتين سنة ما زرعتش قمحك. هنحارب إزاي؟!
قلت: أنا طلبت حرب؟! ممكن بس شوية كلام. بيانات قوية وإبداء الغضب. يمكن كانت تنهي الحرب أسرع، ومن غير ما ندخلها برضو.
قال: هم كدا كدا مرعوبين منك، إنت عندك أقوى جيش في العالم. وهم خايفين، مرعوبين ميقدروش يهوبوا ناحيك.
بدأ يندمج ويتحدث بتشنج:
- عندك أقوى جيش، بس معندكش قمح. تحارب إزاي؟!
فرحت بالوصول إلى محطتي، فنهضت، وإذا به ينهض ويمضي خلفي يجرجر الصغيرة، والصغيرة تجرجر الكيس الذي تركه لها تحمله. لا أعرف إن كان يريد المحطة نفسها فعلًا أم أن شبقه للكلام جعله يتخلى عن وجهته ويتبعني. شرعت أهرول في فضاء المحطة وهو ورائي يلاحقني. أخذت طريق الصعود من النفق. أقفز درجات السلم فيلاحقني والفتاة في يده على الدرجة الأدنى من درجته والكيس بيدها متدلٍ إلى الدرجة الأدنى من درجتها.
صرت لا أخشى شيئًا سوى أن تتعثر البنت تحت الأقدام فتنخلع ذراعها التي في يده، أو يلتف الكيس على ساق أحدهم فتنخلع ذراعاها الاثنتان، فالرجل الذي يُفترض به أن يكون جدها أو أبوها لم يعد يلتفت إليها، ويواصل ملاحقتي بكلام يطيش بعض شظاياه بعيدًا عني ويصيبني بعضه الآخر، حسب المسافة التي تفصلنا وعدد الآخرين الذين يدخلون الفراغ بيننا.
جعلني إصراره أتوتر وأفترض أن هذا الحوار خدعة تحينًا لفرصة خطف الساعة أو الموبايل من يدي؛ لأنه كان يناور باستماتة ليتفادى الأجساد الأخرى. وبمجرد أن يسيطر على الفراغ ويلحق بي، يستأنف الزعيق:
- عندنا أقوى وأشجع محارب، جندنا مذكور في القرآن.
زعقت أرد عليه: تحيا مصر.
قلتها واثقًا من مفعولها المُجرب كخاتمة وطنية فخمة، لكنه لم يستسلم أو يقتنع بالختام، ظل يلاحقني:
- تلاتين سنة ما زرعتش قمحك وعايز تحارب فجأة كدا؟! ينفع الكلام ده؟!
كل يوم في المترو، في الأوتوبيس، في التاكسي، والميكروباص نقابل رجل الكيس
ليس هناك أي خيال في هذا المشهد، ولا في الحوار الذي حرصت على تسجيل ما تذكرته منه فور اختفائي من طريق الرجل. نسيت مقاطع فكاهية جدًا لا أريد أن أعيد اختراعها هنا، لأنني أضع اللابتوب في حضني الآن لأكتب مقالًا لا قصةً خياليةً.
الرجل غاضب من القتيلة التي لم تتوخ الحذر. ولم يرَ في الحادث الأليم سوى وجه المجد، واتخذه فرصة للإشادة بإنجازات المقاولات. التي سترفع الموت من تحت القطارات إلى فوق الكباري والطرق الموسَّعة بإفراط دون أدنى التفات إلى أمان المشاة أو راكبي المواصلات العامة. ثم كان انتقاله المفاجئ إلى الحرب بمبادرة منه، ليلقي بيانًا حولها راكمته دعايات متناقضة.
بصرف النظر عن الجبن عن تسمية حرب الإبادة على غزة باسمها الحقيقي؛ فتعبير "الحرب اللي جنبنا" يعني أن لا جملًا لنا فيها ولا ناقة؛ فلماذا بهدلتنا هذه الحرب إذن؟
كيف أنها مجرد حرب تدور في الجوار لا تعنينا، لكنها من جهة أخرى تؤثر فينا لأنها تدور في الجوار. في رأس الرجل لا يقود هذا التأثير منطقيًا إلى نتيجة أو فعل علينا أن نقوم به. لأنه يريدها في الحدود المرسومة لاستخدامها: مجرد ذريعة لما يجري من تعثر اقتصادي.
لم أفلح في أن يقبَل الرجل دفاعي عن نفسي بأنني (والله العظيم) لم أطلب الحرب ولست من دعاتها. وحاولت بكل السبل أن أجعله يسمعني لأقول له إنه لا يوجد عاقل يذهب إلى الحرب رأسًا ليحقق أهدافه إن كان بإمكانه تحقيقها بوسائل أخرى.
أردت أن أقول له إن هناك درجات من التصعيد لا تقود إلى الحرب. إعلان الغضب وقليل من التماسك في اللغة، والتذكير بأن إسرائيل تعتدي على كامب ديفيد وهي حريصة على الاتفاقية التي أعادت تأسيسها فعليًا. إذا أسمينا الإبادة باسمها لن تعلن علينا إسرائيل الحرب، وإن أشهدنا العالم على جرائمها فلن نكون قد أتينا بجديد، لأن اليهود الذين يتمتعون بنزاهة الضمير أعلنوا ذلك بوضوح، وإن كشَّرنا عن أنيابنا وقلنا إن معبر رفح يصل أرضًا مصرية بأرضٍ فلسطينية، وليس لإسرائيل أن تتدخل بيننا فسيفهمنا العالم. وإذا كانوا (هم) حقًا يخشوننا فلماذا لا نُكشِّر عن أنيابنا فنخيفهم دون حرب؟ لكن الرجل مُعبأ بالكلام مثل شوال ممتلئ؛ نصفٌ بخوفنا من العدو ونصفٌ بحديثٍ عن خوفه منا!
يقول لي الرجل "أنت لم تزرع قمحك" وهو يقصد مصر بالطبع وليس شخصي الضعيف. هنا يُلقي بالتقصير على الجميع، وفي الماضي البعيد (30 سنة) رغم أن عمر السلطة الحالية عشر سنوات أي عشرة مواسم قمح وفول وعدس، عشرة مواسم ذرة وأرز.
اللُعب ليست خالدة، كل أطفال العالم يخربون الألعاب وكل بلديات المدن تُصلح الألعاب بشكل دوري
أعتقد أن أي قارئ يستخدم المواصلات العامة سيشهد بصدق روايتي لما جرى معي؛ فكلنا نقابل هذا الرجل الذي يعرف أن الكلام أحد وظائف الفم، وبالتالي عليه أن يتكلم؛ أن يستخدم فمه كيفما اتفق.
كل يوم في المترو، في الأوتوبيس، في التاكسي والميكروباص، نقابل رجل الكيس، ونجده يتأفف من الشعب الذي يلقي الزبالة في الشارع. لكنه لم يسافر ليرى مدن أوروبا وهي تتحول إلى مزبلة منتصف ليل العطلة من كل أسبوع، ثم ينام المحتفلون وتستيقظ الإدارة لتبدأ عملها فورًا. وعندما يستيقظ الذين وسخوا الشوارع يجدون مدينة نظيفة، لأن تلك الإدارة تغدق على الكناسين وتدفع أجر ساعتين نظير عمل ساعة واحدة بالليل. لا تطلق الكناسين عند ذروة المرور يتسلون بتحريك القمامة شمالًا ويمينًا بينما يتسولون ليكملوا أكل عيالهم، ثم تُربِّي للمحسنين الذين يعيلون الكناسين من نوافذ سياراتهم عقدة ذنب، وتتهمهم بتلويث الشوارع.
وقد تسمع رجل التاكسي يسب هذا الشعب المتسيب في قيادة السيارة، ثم يرتكب بعد لحظة السلوك الذي أغضبه. وإن سألته وكيف يقود أفراد هذا الشعب عندما يقيمون في دول أخرى تُطبِّق القانون؟ يقول لك يا سلام. لقد عملت في دولة كذا بالخليج، والمرور بالمسطرة.
إن ألقى رجل الكيس باللوم على الشعب بسبب أرجوحة تالفة في حديقة أو كرسي متسخ في قطار، جرِّب أن تقول له إن اللُعب ليست خالدة وكراسي القطارات تبلى وتوسخ كما تبلى وتوسخ مقاعد بيوتنا. كل أطفال العالم يخربون الألعاب، وكل بلديات المدن تُصلح الألعاب بشكل دوري. وكل شركات القطارات تجدد عرباتها وجراراتها حسب الحاجة. لكن رجل الكيس يقاومك ويصرُّ على أن هذه ثقافتنا كـ "شعب"!
تغمرني سعادة باهرة عندما أتمكن من تحقيق كرامة المنطق، وأقنع سائق تاكسي بضرورة ربط المقدمات بالنتائج. أتغاضى عن حقيقة أنه يسايرني لأدفع له جيدًا في نهاية الرحلة. بعض السائقين أكثر عنادًا من رجل المترو. يكون مُعبَّأً ومغلقًا بإحكام؛ فيظل يكرر: لكن هذا شعب! هذا شعب، هذه ثقافة شعب، ماذا ستصنع الدولة لشعب كهذا؟!
التاريخ يعمل كسلسلة. لا يُعيد نفسه كما يتوهم البعض ولكن يُكمل بعضه بعضًا
لا يبتدع رجل المترو خطابه، لكنه يكرر خطاب السلطة والأمن والأمنعلام، الكلام نفسه، لكن تصادف أن رجل المترو بيده كيس بلاستيك وليس ميكروفونًا. وليس هناك من فرق، فجميع من يقبضون على سدة الميكروفونات، كانوا ذات يوم رجال مترو أو أوتوبيس كهذا الرجل. لا أحد يولد وفي يده ميكروفون من ذهب.
ولا بد من الانتباه إلى التاريخ الطويل للهذيان العام. وقد استلزم الوصول إلى هذه الدرجة من التشوش وإهانة المنطق ثلاثة أرباع القرن.
بدأ الأمر بإطلاق الشوفينية المتعالية على أيدي ضباط 1952 الذين استماتوا في إعلاء الذات الوطنية المصرية عبر خطابات الزعيم، والغناء للزعيم والشعب، ونفاق الزعيم والشعب على أوراق الصحافة. حتى النكسة لم تفلح في إفاقة الشعب الخارق، ثم بدأ خطاب التوبيخ على يد ورثة عبد الناصر الذين أرادوا التخلص من إرثه. تقل نسبة التوبيخ أو تزيد حسب متطلبات المرحلة. وهكذا غسل اليد من كامل الإرث يتطلب التوبيخ المطلق والهذيان المطلق!
أكمل التوبيخ عمل التعظيم، لأن التاريخ يعمل كسلسلة. لا يُعيد نفسه كما يتوهم البعض، ولكن يُكمل بعضه بعضًا. وخلال المسيرة الظافرة لسلطة يوليو ضاعت كل كلمة تقول إننا بشر لا أقل ولا أكثر من غيرنا، لأن هناك الملايين من الكلمات تزدري شعبًا أخرق بعد أن مجَّدته لعقود.
يهذي رجل المترو بالمجان، بينما يهذي نجوم الأمنعلام المشهورون بمبالغ طائلة، وتستمر برامجهم الليلية بعد الموعد الرسمي لإغلاق الدكاكين والمقاهي فيساهمون في أزمة الكهرباء، بينما يواصلون حشو أدمغة مشاهديهم بكل ما يخطر على بالهم من القول ونقيضه إلى حد أن يصبح هذيانًا.
لكن الهذيان العام ليس بلا طائل. في النهاية ينتج الجنون معانيه، ويمكن أن نستخلص منه هدفين أساسيين:
الأول: تعميق خجل المصريين من وجودهم، والإيمان بأن الفرد منهم هو المخطئ حتى إذا قُتل.
الثاني: إذا كان من ضرورة للاعتراف بخطأ سلطة، فهي السلطة التي كانت في الماضي، ومن شناعة أخطائها أنها لا تزال تعمل وتُضيِّق خيارات سلطة الحاضر التي يشهد العالم بعبقريتها، وهو نفسه ذات العالم الذي يستهدفها ويستهدف البلاد.
لنلاحظ أن رجل المترو لم يحرص على الكيس ولا على الفتاة، بقدر حرصه على مخاطبتي بـ "أنت" وهو يعني "أنتم" بديلًا لـ"نحن"، من أجل أن يضع نفسه خارج دائرة الإدانة. لكن كل ما قاله لم يعد يهمني.
الحقَّ أقول لكم إن ما يشغلني الآن هو مصير البنت المشبوحة بين كيس سقط المتاع وخُطب الرجل، الذي قد يكون جدها أو أبوها. كل منهما يشدها في اتجاه مختلف.
اكتبوا إليَّ إن رأيتموها في أي مكان.