لا تختلف دراسات الرأي العام على أنَّ أوقات الحروب تخلق مناخًا مهيئًا لتعبئة الناس وحشدهم، فوقتها تكون الأعصاب ملتهبة والأذهان مشدودة إلى كل ما يأتي من الميدان، بحثًا عن نصر، أو خوفًا من هزيمة، أو حتى اكتفاءً بصمود، ومثل هذه الحالة يصنفها علماء النفس على أنها "استهواء"، يشتد مع احتدام المعارك، فتتفتح الأذهان أمام أي شيء، حتى لو كان مجرد دعاية عابرة، قد تنطلق من حقيقة ضئيلة، لتضاف إليها وتُبنى عليها الكثير من الأكاذيب.
ويزيد كل هذا إن كنا أمام حرب عقائدية، حقيقيةً أو متصورةً، فوقتها يُستدعى كلُّ ما للعقيدة من منزلة في النفوس، وما دار معها ولها وحولها من حمولات فكرية ووجدانية وذوقية، ليُلقى في مجرى التعبئة العامة، التي قد لا تعدو أحيانًا أن تكون مجرد حالة من التهييج اللا عقلاني، الذي ينشأ حين تتوفر لكل شخص على حدة شروط التمعن فيما يجري حوله، ويتبين الصدق فيه من الكذب.
ولعل الحرب التي دارت رحاها على أرض أفغانستان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من أكثر الحروب التي تنطبق عليها هذه الحالة. فأطرافها متدرجون بدءًا من قمة النظام الدولي، عندما كان الصراع الأمريكي السوفيتي على أشده، نزولًا إلى قاع المجتمعات الفقيرة في دول عربية إسلامية نامية، وقُدِّمت المعركة للناس باعتبارها حربًا بين "الإيمان" ممثلًا في المجاهدين ومن خلفهم الولايات المتحدة، و"الكفر" ممثلًا في اليسار الأفغاني وداعمه السوفيتي.
إعلام الحشد وإعلام المعرفة
لعب الإعلام دورًا كبيرًا في هذه الحرب، فالولايات المتحدة التي كانت تحرك كل شيء من خلف الستار، لم يكن صعبًا عليها إيجاد حلفاء إقليميين في هذه المعركة، يوظفون ما لديهم من قدرات إعلامية في التعبئة والحشد. ويعرف من عاش في هذه المرحلة كيف صَورت التغطية الإعلامية الحرب كصراع عقائدي، مع تغييب بقية الأصوات التي حاولت فهم الخلفيات والأهداف الحقيقية لهذه الحرب.
https://www.youtube.com/watch?v=bnLvnVyIxi8
في هذه الأثناء، كان العالم العربي مستهدفهًا بقوة من تلك الحملة الإعلامية، باعتباره مخزنًا لشباب يمكن تجنيدهم والدفع بهم إلى ساحة المعركة. وهنا برز بعض الإعلاميين ليلعبوا دورًا واسعًا في تسويق الحرب وتسويغها للمواطنين العرب، وتصويرها على أنها حرب دينية بحتة، وأن كل من يصطف مع من أُطلق عليهم "المجاهدون" وقتها هو الفائز، وأنَّ كلَّ من يقف ضدهم أو يشكك في نواياهم سيكون من الخاسرين.
هؤلاء كانوا كثيرين، توزعوا تقريبًا على كل البلاد، منقسمين إلى فريقين، الأول، لا يرتبط بما يسمى "الإسلام السياسي" إنما يؤدي دوره الاعتيادي في الانتصار للمسلك الذي انتهجه كل نظام حكم حليف للولايات المتحدة في أي بلد عربي أو مسلم وليس أمامه سوى الدفاع عن توجهها. والثاني ينتمي تمامًا إلى جماعة أو تنظيم يوظف الإسلام في تحصيل السلطة السياسية، وهؤلاء كانوا أكثر حرصًا، وأنشط عملًا، في سبيل حشد الناس وراء ما سمى وقتها بـ"الجهاد الأفغاني".
ولم تقتصر التعبئة خلال هذه الحرب على الإعلام الرسمي المتعارف عليه ممثلًا في الإذاعات ومحطات التلفزة والصحف، بل دخلت أشكال أخرى مثل "الكاسيت" الذي كان على أشده أيامها، لا سيما بعد الدور الكبير الذي لعبه في الثورة الإيرانية 1979، كما استُخدمت منابر المساجد بإفراط شديد، وكذلك المطبوعات الصادرة عن الهيئات والمؤسسات الدينية والاجتماعية، وأيضًا دور النشر التي أصدرت كتبًا كانت توزع أحيانًا مجانًا، تتحدث عن البطولات المذهلة التي يحققها "المجاهدون" في الحرب ضد السوفيت على الأرض الأفغانية.
على النقيض من ذلك تأتي الصحافة الاستقصائية، التي تعتمد على بناء الأدلة والإثباتات المسندة إلى مصادر جيدة وموثوقة، يجري التعامل معها بدرجة عالية من الاحتراف والمهنية، عبر فحصها ودرسها وتقصي حقيقتها، وإثارة التساؤلات حولها للوقوف على مصداقية المصادر، وعدم البوح بها، وتوسيعها وتجديدها، والاطمئنان إلى دقة الوثائق.
كيف نعرف الحقيقة؟
يتبنى الصحفي هنا دور المحقق، الذي قد يقضي شهورًا أو سنوات يسعى وراء المعلومات، إذا كان يحقق في موضوع مهم مثل الجرائم الخطيرة أو الفساد السياسي أو تجاوزات رجال أعمال أو شركات. من ثَمَّ يعد هذا النوع من الصحافة مصدرًا رئيسيًا للمعلومات.
هذا النوع من الحشد الإعلامي وجدناه حتى في دول ديمقراطية أثناء طوفان الأقصى
والصحفي الاستقصائي يجب أن يمتلك قدرة على الحفر عميقًا عبر السعي الدائب والصبور والدقيق خلف قضايا مهمة، ومعرفة واسعة بالقوانين، وإلمامًا بأساسيات العمل الصحفي وألوانه، والتحلي بالتفكير العلمي، والتمسك بالحياد والنزاهة، وفهم طبيعة التحديات التي تواجهه ومنها الرقابة السياسية، والتمويل.
من أجل ذلك تبدو هذه المهمة خطرة في أماكن الصراعات والحروب، أهلية أو نظامية، حيث تحتاج إلى دأب شديد، ونفَس طويل، ابتداءً من وضع السؤال الأساسي أو فرضية التحقيق، ثم انتهاج طرق متقدمة للبحث، وبناء القصة أو أسلوب السرد، والحصول على المصادر وتدقيق الوثائق، وانتهاء بالخلاصات أو النتائج.
فهل التزم من كانوا يغطون الحرب الأفغانية، من الصحفيين المنتمين للجماعات الدينية السياسية، بأيٍّ من هذه الشروط؟ أم أن ما كان يعنيهم هو نصرة قضيتهم على حساب الحقيقة؟ وهل أخذت هذا النصرة صيغة التعبئة أو الحشد، أم لا؟
والإجابة التي تأتي للوهلة الأولى هي أنَّ إعلام هذا التيار في أيام الحرب الأفغانية دار حول "الحشد" أو التعبئة التي هي عملية استنهاض للجماهير كي تؤيد طرفًا، أو تعارض آخر، أو حتى تعبر عن نفسها، في الانتخابات أو الأحداث السياسية أو الحروب، وهي تختلف وفق نوعية النظام السياسي الحاكم، فإن كان نظامًا شموليًا أو مستبدًا فإن التعبئة تتسم بالإكراه والأحادية. أما في الأنظمة الديمقراطية فإنها متعددة وتعتمد على الطوعية.
لكنَّ الحقيقة أن هذا النوع من الحشد الإعلامي لا يخص "الحالة الأفغانية" بل وجدناه في حالات أخرى، حتى في دول ديمقراطية، مثلما رأينا تعامل الإعلام الغربي مع الحرب الأوكرانية، ثم تعامله مع "طوفان الأقصى" لا سيما في أيامه الأولى، قبل أن تفضح السوشيال ميديا الكثير من الدعايات الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية، خصوصًا حركة حماس.