فضيحتان مُدوِّيتان هذا الأسبوع كشفتا الأكاذيب الإسرائيلية والأمريكية لتبرير العدوان المتواصل على غزة منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكنهما مرتا مرور الكرام بسبب الانحياز الغربي الفاضح للكيان الصهيوني، سوى من بعض مقالات مهذبة تحاول تفنيد الأكاذيب التي بنت عليها إسرائيل سرديتها لتبرير جرائم الإبادة المتواصلة.
الفضيحة الأولى هي ما تعرَّض له مجمع الشفاء في غزة من عدوان وحشي، بعد أسابيع من الأكاذيب الإسرائيلية التي أوهمت الغرب أنَّ تحته يقع مقرَّ حماس ومخازن أسلحتها، ومكان احتجاز الأسرى الإسرائيليين الذين سقطوا بيد مقاتلي المقاومة وهم يكسرون وهم التفوق الإسرائيلي ويتجاوزون السور المحصن المدجج بالأسلحة حول قطاع غزة، ويسيطرون على عدة مقرات لجيش الاحتلال ومستعمرات قريبة في عملية طوفان الأقصى.
تمخَّض الجبل فولد فأرًا بكلِّ تأكيد، إذ لم يعثر الجيش الإسرائيلي على شيء في المستشفى أو تحته أو فوقه، سوى بعض قطع سلاح فردي مرتبة بعناية، وحذاء وحقيبة، ما أثار شكوك الصحفيين الغربيين الذين رافقوا جيش الاحتلال لتفقد المجمع الطبي، بشأن ما إذا كان الأمر يستحق ارتكاب جريمة حرب بمنع المياه والوقود والأدوية من الوصول للمستشفى، وتهديد حياة مرضاه، بمن فيهم الأطفال المبتسرون الذين اضطرت إدارة المستشفى لنقلهم لجناح أكثر أمانًا، بعد قصف جيش الاحتلال لمباني المستشفى واستهداف من فيه بالقناصة.
ولكنَّ الأسوأ هو التزييف الفج المتعمَّد الذي حاول به جيش الاحتلال إقناع الغرب بأن أكاذيبه كانت حقيقية. ففي أول فيديو بثه جيش الاحتلال لما عُثر عليه داخل المستشفى، لم تكن هناك سوى ثلاثة مدافع رشاشة مرتّبة بعناية في إحدى غرف المستشفى، إلى جوار جهاز رنين مغناطيسي. ولكن مع وصول عدد محدود من الصحفيين الغربيين، من بينهم مراسلا نيويورك تايمز وسي إن إن، فوجئ العالم بزيادة عدد هذه المدافع بقدرة قادر، ما أكد للجميع أنَّ الأمر برمته كان مُرتبًا ومُعدًا من جيش الاحتلال، ولا علاقة له بحقيقة ما عُثر عليه.
وبعد الترويج لوهم الأنفاق تحت المستشفى، التي بنت إسرائيل بعضها أثناء احتلالها القطاع منذ 1967 وحتى انسحابها الأحادي في 2005، لم يعرض المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي سوى فتحة واحدة، زعم أنها تؤدي لأنفاق تحت الأرض، لم يتمكنوا من النزول إليها خوفًا من أن تكون مفخخة بالمتفجرات، فاستعانوا بروبوت عثر على باب لم يتمكن من تجاوزه بزعم أنه محصن.
أيام مضت منذ الاحتلال الإسرائيلي لمباني المجمع الطبي الضخم، دون أن يتمكن أحد أقوى الجيوش في العالم من فتح الباب المحصن، لإثبات أكاذيب وجود مقر قيادة حماس والأسرى تحت المستشفى.
الإنجاز الوحيد الذي تحقق كان ارتكاب جريمة أخرى على مرأى ومسمع من العالم، بإجبار المرضى والأطباء ومئات من النازحين على الخروج عنوة من المستشفى رافعين الرايات البيضاء، متوجهين سيرًا على الأقدام في طرق مدمرة نحو مصير مجهول.
سمحت إسرائيل ببقاء خمسة أطباء فقط بصحبة 120 مريضًا يستحيل نقلهم بسبب خطورة حالتهم الصحية، فاعتبر بايدن ذلك مَعلَمًا من معالم إنسانية جيش الاحتلال، الذي زعم أيضًا أنه وفَّر حضانات للأطفال الذين بقوا على قيد الحياة داخل المستشفى، وهو ما لا يستطع أحد التأكد منه في ظل انقطاع الاتصال الكامل مع العاملين في المستشفى.
فضيحة النيران الصديقة
من ضمن ما عثرت عليه إسرائيل بجوار مستشفى الشفاء جثتي رهينتين، ما أدى إلى تفجير غضب عائلات الأسرى الإسرائيليين الذين يتهمون رئيس حكومة الاحتلال أصلًا بعدم وضع حياة أقاربهم أولوية، ويبحث فقط عن نصر زائف. ولا يستبعد أهالي الأسرى الذين تضامن معهم الآلاف في مظاهرة سارت من تل أبيب إلى القدس المحتلة على مدى خمسة أيام، أن يكون الجيش الإسرائيلي هو من قتل هاتين الأسيرتين أثناء قصفه العشوائي والمتواصل لمباني المجمع الطبي.
الاتهامات الموجهة للجيش الإسرائيلي بقتل مواطنيه تؤدي بنا إلى الفضيحة الثانية، عندما قررت سلطات الاحتلال فجأة، الأسبوع الماضي، تخفيض عدد ضحايا هجوم 7 أكتوبر من 1400 قتيل إلى 1200 فقط، بعد أن اتضح من تحليل الحمض النووي للجثث المتفحمة، التي أقامت آلة الدعاية الإسرائيلية الدنيا ولم تقعدها باعتبارهم مدنيين إسرائيليين أحرقتهم حماس، أن مائتين منها تخص فلسطينيين قدموا من غزة.
وفي مطلع هذا الأسبوع، نشرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية تحقيقًا يعزز تلك الرواية، خلص إلى أن الكثير من الذين قتلوا أثناء حضورهم المهرجان الموسيقي في المنطقة المعروفة بغلاف غزة، لقوا مصرعهم بنيران هليكوبتر إسرائيلية، كانت تطلق النار بشكل عشوائي بعد وصول أنباء هجوم حماس على المنطقة.
بدورها رفعت الشرطة الإسرائيلية تقديراتها لعدد قتلى المهرجان إلى 364 شخصًا، بينهم 17 عنصر أمن، بعد أن كانت الحصيلة السابقة تتحدث عن 270 قتيلًا فقط. وأشارت الشرطة أيضًا إلى أن نحو 40 فقط من المشاركين في المهرجان جرى أسرهم، بعد أن ظلت إسرائيل تروّج لأنَّ غالبية الأسرى الذين يتجاوز عددهم المائتين كانوا من بينهم، في محاولة فاشلة لإثبات نية حماس استهداف المدنيين، وتجاهل أنَّ من بين الأسرى الكثير من الضباط والجنود.
يتجرع نتنياهو السم ويقبل بصفقة "الكل مقابل الكل" أم يزيد فضائحه ويدفع الثمن؟
هذا التخفيض المفاجئ الذي أثار الكثير من التساؤلات، يدعم رواية حماس التي تنفي قيام مقاتليها بإحراق الجثث وقطع رؤوس الأطفال أثناء الهجوم، وتتهم الجيش الإسرائيلي بقتل وحرق كل من كان على الأرض باستخدام قوته الجوية والمدفعية الضاربة، أثناء محاولته استعادة السيطرة على المستعمرات ومقرات الجيش التي سيطر عليها الفلسطينيون.
الحقيقة المُرَّة أنَّ الجيش الإسرائيلي ساهم في قتل وإحراق مواطنيه وهو يستهدف مقاتلي حماس.
هل يفلت نتنياهو من العقاب؟
لكن لا يبدو أن هذه الحقيقة أو غيرها ستؤثر في رخصة القتل الأمريكية البريطانية الألمانية، وبدرجة أقل الفرنسية، الممنوحة لجيش الاحتلال، ليواصل ارتكاب جرائمه بحق الشعب الفلسطيني الأعزل بأطفاله ونسائه. فالكذب الإسرائيلي مباح لتبرير ما تسميه واشنطن وغيرها من حلفاء تل أبيب بـ"حق إسرائيل المشروع بل وواجبها في الدفاع عن النفس".
هذا "الحق" يبرر من وجهة نظرهم كلَّ جرائم الاحتلال، بما في ذلك مواصلة قصف المدارس التابعة للأونروا كما حدث لمدرستي الفاخورة في مخيم جباليا وتل الزعتر في شمال القطاع. هذا "الحق" يُبرر من وجهة نظرهم قصف المستشفيات وقتل الصحفيين والأطباء وفرق الدفاع المدني وسائقي سيارات الإسعاف.
تعتقد حكومة الدواعش والمتطرفين الإسرائيلية أنَّ هذا العدوان الوحشي سيجبر حماس على إطلاق الأسرى. ولكنَّ ما كشفته فضيحتا هذا الأسبوع، أنَّ استمرار القتل الهمجي بهذا الشكل، والتمسك بخطط مهاجمة جنوب القطاع بعد تسوية شماله بالأرض، سينتهان غالبًا بمقتل كلِّ الأسرى الإسرائيليين.
حينها سيكون حساب نتنياهو عسيرًا، ولن يقتصر على إقالته، بل قد ينتهي به الأمر في السجن، بسبب فشله الذريع في منع هجوم 7 أكتوبر، ثم فشل قواته في صدّه بل قتلت مواطنيها بدلًا من إنقاذههم، وأخيرًا مقتل من أُسر منهم.
يوافق كثير من الإسرائيليين اليوم على صيغة "الكلّ مقابل الكلّ"؛ كلّ الأسرى الإسرائيليين مقابل كلّ الأسرى الفلسطينيين، الذين يتجاوز عددهم 6500، في سجون الاحتلال، يضاف إليهم أكثر من ألفي فلسطيني اعتقلتهم قوات الاحتلال في الضفة الغربية منذ بدء هذه الحرب الغاشمة. فهل يتجرع نتنياهو السم ويقبل بهذه الصفقة، أم يزيد فضائحه ويقتل جنوده ومواطنيه الأسرى في غزة؟