البيت الأبيض- فليكر
من لقاء الرئيسين السيسي وترامب على هامش قمة G7 عام 2019

معارك ترامب المجنون قد تلهيه عن كابوس التهجير

منشور الثلاثاء 4 فبراير 2025

يرى كبار مساعدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن أحد عوامل قوته، تكمن في أن العالم يتعامل معه باعتباره "رجلًا مجنونًا" يمكنه القيام بأي شيء واتخاذ أي قرار لتحقيق ما يراه مصلحة بلاده. وعلى هذا الأساس، فإن الأطراف التي يستهدفها تسارع إلى التنازل وتلبية رغباته، خشية مواجهة تبعات جنونه الذي لا يمكن التنبؤ بها.

غالبًا، يعرف قادة الدول العربية الموصوفة بالمعتدلة والمرتبطة بعلاقات استراتيجية مع واشنطن، هذا الجانب المجنون من شخصية ترامب، وكذلك ولعه بعبارات الإطراء التي تمتدح ذكاءه وقدرته على تحقيق المعجزات. كما تعرف دول الخليج النفطية، وتحديدًا السعودية، تأثير الصفقات التي تتدفق فيها الأموال بلا حساب عليه.

فبعد أيام من وصوله للبيت الأبيض، قال ترامب إنه مستعد لأن تكون المملكة السعودية أول دولة يزورها بعد توليه منصبه، لو استثمرت 500 مليار دولار في بلاده، على غرار ما حدث في ولايته الأولى عندما اختار الرياض لتكون زيارته الرئاسية الأولى عام 2017، بعد تعهدها باستثمار 400 مليار دولار. هذه المرة، رد عليه ولي العهد السعودي أنه ينوي استثمار 600 مليار، الأمر الذي أنعش أسارير الملياردير ترامب وقال إنه كان يود أن يطلب من السعودية استثمار تريليون دولار.

الخبراء الاقتصاديون استبعدوا أن تنفق السعودية 500 أو 600 مليار وبالتأكيد تريليون دولار خلال سنوات حكم ترامب الأربع، لأن هذا مستحيل عمليًا كون المملكة لا تمتلك مثل هذا الفائض الضخم من الأموال لتستثمرها في الولايات المتحدة. ولكن من أجل إرضاء "المجنون" ترامب، لا بأس من تشنيف أذنيه بالحديث عن أنهار متدفقة من الأموال لأن هذا يدعم موقفه داخليًا ويؤكد للأمريكيين زعمه أنه الوحيد القادر على تحقيق المعجزات وتحسين أوضاعهم الاقتصادية.

الاعتدال يواجه الجنون

والخشية من جنون ترامب كانت السبب غالبًا وراء اللهجة المعتدلة التي تبناها البيان الذي صدر عن وزراء خارجية الدول العربية الخمس، حلفاء واشنطن، بعد اجتماعهم في القاهرة يوم السبت، رغم حالة الغضب العارم من تصريحات ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة التي ظل يكررها بمعدل يومي تقريبًا. إذ أكد البيان "التطلع للعمل مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، وفقًا لحل الدولتين".

اجتماع وزراء خارجية مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر، وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأمين عام جامعة الدول العربية، بالقاهرة، 1 فبراير 2025

وطالب البيان أيضًا بتنفيذ خطة إعادة إعمار قطاع غزة التي نصَّ عليها اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الذي دخل حيز التنفيذ قبل أكثر من أسبوعين "بشكل يضمن بقاء الفلسطينيين على أرضهم" من دون الإشارة إلى مقترحات الرئيس الأمريكي الخزعبلية بشأن ترحيل سكان غزة حتى يتم إعادة بناء القطاع.

كما تبنى الوزراء العرب نفس لهجة بيان وزارة الخارجية المصرية الذي صدر في أعقاب أول تصريح لترامب بشأن تهجير الفلسطينيين، بتأكيد التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف "سواءً من خلال الأنشطة الاستيطانية، أو الطرد وهدم المنازل، أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها من خلال التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم بأي صورة من الصور أو تحت أي ظروف ومبررات".

كذلك كان الحال في البيان الذي أصدرته رئاسة الجمهورية في أعقاب المكالمة التي تلقاها السيسي من ترامب يوم السبت، ولم ترِد فيه أي إشارة مباشرة إلى الموقف المصري الرافض بشكل صارم لمقترحه بشأن تهجير الفلسطينيين، مكتفيًا بالإشارة إلى تأكيد السيسي على "أهمية التوصل إلى سلام دائم في المنطقة، مشيرًا إلى أن المجتمع الدولي يعول على قدرة الرئيس ترامب على التوصل إلى اتفاق سلام دائم وتاريخي ينهي حالة الصراع القائمة بالمنطقة منذ عقود، خاصة مع انحياز الرئيس ترامب إلى السلام، وهو الأمر الذي أكد عليه الرئيس ترامب في خطاب تنصيبه بكونه رجل السلام، وشدَّد السيد الرئيس على ضرورة تدشين عملية سلام تفضي إلى حل دائم في المنطقة".

المثير للاستغراب أن ترامب، ورغم اطِّلاعه بالتأكيد على مواقف مصر والأردن، استمر في التأكيد على أن البلدين سيقبلان باقتراحه تهجير الفلسطينيين، وكأن أحدًا لم يعترض أو ينظم تظاهرات شعبية في رفح للتأكيد على دعم المصريين للموقف الرسمي للنظام الرافض للتهجير.

آدم بوهلر مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخاص لشؤون الرهائن، حاول التخفيف قليلًا من وطأة تصريحات رئيسه، مشيرًا إلى أن ما ذكره كان مجرد اقتراح، على من يرفضه التقدم بمقترحات بديلة، من أجل التمكن من تنفيذ مهمة إعادة إعمار غزة شديدة الصعوبة.

المشكلة في مقترح ترامب أنه ليس جديدًا، بل بدأ الترويج له بدأ منذ ولايته الأولى، عندما تقدَّم بمشروعه المعروف باسم "السلام من أجل الازدهار" وما تلاه من اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية مع الإمارات والمغرب والبحرين والسودان. فالملياردير ترامب الذي بنى ثروته من تجارة العقارات كان معجبًا بمقترحات صهره مطور العقارات جاريد كوشنر، التي تنطلق من افتراض أن تحسين أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية في غزة والضفة الغربية عبر بناء المشاريع الاستثمارية على أرضهم، من شأنه أن يدفعهم لتجاوز مطلبهم بإقامة دولتهم المستقلة.

وقبل عام واحد فقط، عاد كوشنر لتكرار هذه المقترحات في مؤتمر شارك فيه بجامعة هارفارد، وقال إنه في ضوء الدمار الواسع الذي لحق بقطاع غزة، فإن الحل يبقى تهجير سكانه للبدء في إعادة إعماره. ولكنه بدا أكثر مرونة من  ترامب عندما اقترح على إسرائيل بعد رفض مصر فتح باب اللجوء أمام الفلسطينيين، أن تنقل الغزاويين إلى النقب، كما صرح الرئيس السيسي من قبل في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولكن كوشنر أكد، كما الوزراء المتطرفين في حكومة نتنياهو، أن تحقيق الاستقرار في غزة يتطلب التخلص من نصف سكانها.

هل يفلح الإلهاء؟

ياسر عرفات وإسحق رابين وبيل كلينتون أثناء توقيع تفاهمات أوسلو في البيت الأبيض

يمكن في الواقع تتبع هذه الأفكار الاستعمارية العنصرية التي تقلل من جدية مطالب الفلسطينيين بإنهاء الاحتلال والحق في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، إلى مقترحات رئيس وزراء إسرائيل ووزير خارجيتها السابق شيمون بيريز، الذي لعب دورًا محوريًا في التوصل لاتفاق أوسلو، وكان يروج وقتها لما أسماه بمشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو مشروع جوهره تنمية المنطقة اقتصاديًا بالتعاون بين العرب وإسرائيل، وأن هذا بمفرده سيكون كافيًا لإنهاء الصراع والكراهية القائمة بين الطرفين.

للأسف الشديد فإن المخرج الوحيد من جنون ترامب ومقترحاته التي لا يمكن سوى أن تؤدي إلى إشعال المزيد من الحروب في المنطقة، هو أن يتورط في أعمال مجنونة في أجزاء أخرى من العالم، قد تشغله عن تنفيذ مقترحاته العبثية بتهجير الفلسطينيين قسرًا من غزة. فترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض لينتقم، لديه العديد من المعارك الداخلية ضد خصومه من الديمقراطيين ومن يصفهم بالبيروقراطيين أنصار الدولة العميقة، الذين سعوا لتعطيله طوال فترة رئاسته الأولى، وملاحقته قضائيًا لمنعه من الترشح ثانيةً بعد هزيمته من بايدن في انتخابات 2020.

كما أنه لم يكد يمضي أسبوعان على وصوله للبيت الأبيض، حتى فتح معارك مع المكسيك وكندا والصين. كما غيَّر اسم خليج المكسيك إلى "خليج أمريكا"، واقترح على الكنديين التخلي عن استقلالهم ليصبحوا ولاية أمريكية، إلى جانب خططه الطموحة للاستيلاء على قناة بنما وجزيرة جرينلاند الدنماركية.

هذا الكم الكبير من الصراعات الداخلية والخارجية التي قرر ترامب خوضها، ربما يكون الأمل الوحيد ليعيد النظر في مقترحاته المجنونة بخصوص تهجير سكان قطاع غزة، بجانب الاستفادة قدر الإمكان من مقترحات الاستثمار السعودية السخية بمئات المليارات من الدولارات لو أرادت الرياض بالفعل أن تلعب هذا الدور بجانب الإمارات وقطر. وإن كانت التجربة العملية أثبتت أن كل دولة عربية تضع مصالحها وترتيباتها مع الحليف الأمريكي أولًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.