لم يكن حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته لـ"تطهير" غزة التي وصفها بأنها "مكان مدمر" إلا محاولةً لمنح إسرائيل ما أخفقت في تحقيقه بالسلاح على مدار 15 شهرًا، وذلك من خلال فرض واقع سياسي وأمني يضمن لدولة الاحتلال "الأمن المستدام" الذي لا يمكن تحقيقه في ظل وجود مفرزة لفصائل المقاومة التي تهدد استقرار الدولة العبرية.
هز طوفان الأقصى ثقة دولة الاحتلال في قدرات جيشها وأجهزتها الأمنية والاستخبارية على حفظ أمن الشعب الإسرائيلي الذي تابع عبر الشاشات كيف نجحت مجموعات من المقاتلين الفلسطينيين في اجتياح مستوطنات غلاف غزة، وإلحاق هزيمة مذلة ومهينة بقوات "الجيش الذي لا يقهر".
بعد وقائع ما جرى في السابع من أكتوبر، تمنى قادة دولة الاحتلال مسح غزة من على الخريطة ولو بضربها بقنبلة نووية، وهو ما أثار حينها عاصفة من ردود الأفعال الدولية الغاضبة، فما كان من حكومة اليمين الديني الصهيوني في إسرائيل إلا اللجوء إلى عملية عسكرية طويلة حوَّلت القطاع إلى مساحة جغرافية غير قابلة للحياة.
تدمير غزة كان الهدف غير المعلن من العدوان الإسرائيلي، إلى جانب الأهداف التي أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وتمثلت في إعادة المحتجزين عبر الضغط العسكري، والقضاء على حركة حماس وباقي فصائل المقاومة، وتحويل القطاع إلى مكان لا يمكنه تهديد أمن إسرائيل لعدة أجيال.
فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه المعلنة، فالضغط العسكري لم يُعِد أحدًا من غزة، بل صفقتا التبادل مع حماس التي أثبتت أن قدراتها العسكرية والسياسية لا تزال متماسكة، رغم تعرضها لضربات مؤثرة نالت من قادتها وصفوف مقاتليها ومقدراتها القتالية.
أثبتت الأسابيع الأخيرة في الحرب، خصوصًا في شمال القطاع، أن فصائل المقاومة الفلسطينية قادرةٌ على التكيف والقتال بأقل الإمكانات، وهو ما مكَّن مقاتليها من خوض معارك ضارية أسفرت عن خسائر كبيرة في صفوف جيش الاحتلال، ما أفشل "خطة الجنرالات" التي كانت الورقة الأخيرة التي حاول نتنياهو اللعب بها قبل نهاية تلك الجولة.
الشرق الأوسط كما يراه ترامب
بعد أن دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ظهر مقاتلو الفصائل وموظفو الإدارة المدنية والشرطية التابعون لحماس بزيِّهم العسكري الرسمي في شوارع القطاع، في مشاهد مثَّلت، إلى جانب صور عملية التبادل ومسيرات عودة النازحين الفلسطينيين إلى الشمال، "استسلامًا إسرائيليًا كاملًا" على حد تعبير إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي المستقيل، الذي وصف مشهد العودة بأنه "إهانة إضافية" ودليل على انتصار حماس وهزيمة إسرائيل.
بعد فشل إسرائيل في إعادة محتجزيها والقضاء على حماس، وكسر إرادة الشعب الفلسطيني في غزة ودفعه إلى اليأس ليس من فكرة المقاومة وحسب، بل من الحياة في القطاع بعد تدميره، أَخْرج الرئيس الأمريكي من جعبته مخطط تهجير الغزيين إلى مصر والأردن، وهو السيناريو الذي قاومته القاهرة وعمَّان وباقي العواصم العربية علنًا وفي الغرف المغلقة، منذ أن لوح به مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون في بداية العدوان.
تأخر رد القاهرة على تصريحات ترامب نحو 20 ساعة أعدَّت خلالها الأجهزة تقديرات موقف
إنقاذ ترامب إسرائيلَ من مستنقع الفشل الذي تورطت فيه لأكثر من عام، لم يتوقف عند إجباره حكومةَ صديقه نتنياهو على قبول صفقة التبادل ووقف إطلاق النار قبل وصوله إلى البيت الأبيض. فصاحب صفقة القرن الذي أحاط نفسه في فترة الولاية الثانية بدائرة صهيونية يمينية لا تختلف في توجهاتها وعقيدتها السياسية عن أحزاب اليمين الإسرائيلي، طرح عقب عودته إلى البيت الأبيض بأسبوع خطة لـ"تطهير" غزة بعد نقل سكانها بشكل "مؤقت أو طويل الأجل" إلى مصر والأردن وبناء مساكن جديدة لهم حتى يمكنهم العيش بسلام.
رجل الصفقات أراد أن يحقق لشركائه في تل أبيب أمن واستقرار بلادهم دون أن يكلفهم ذلك نقطة دم في أي مواجهة عسكرية في المدى المنظور، وبما يضمن عدم الضغط مجددًا على ميزانية الولايات المتحدة التي موَّلت الحرب الأخيرة فقط بنحو 30 مليار دولار.
لم يُكشف بعد عن كل بنود النسخة الجديدة من صفقة القرن التي تخطط الإدارة الجمهورية الجديدة لفرضها على الشرق الأوسط، فما طرحه ترامب، وهو على متن الطائرة الرئاسية قبل أيام، لم يكن إلا بندًا واحدًا من صفقة متكاملة، أزاح هو ودائرته المقربة الستار عن بعض ملامحها خلال حملته الانتخابية، بدءًا من ضرورة توسيع مساحة إسرائيل "لأنها تبدو صغيرة جدًا على الخريطة"، وصولًا إلى تطبيع علاقة الدولة العبرية مع باقي دول الإقليم، وهو ما يستدعي إزالة العقبات التي تحول دون ذلك.
العقبة الأكبر حسبما كشفت مجريات الحرب الأخيرة هي غزة؛ هذه المساحة الضيقة التي يقطنها أكثر من مليوني فلسطيني أفسدوا بصمودهم ومقاومتهم كل مخططات وأد القضية الفلسطينية، "على إسرائيل ترحيل المدنيين لتطهير قطاع غزة من المقاومة الفلسطينية، إلى صحراء النقب، أو مصر"، قال صهر ترامب جاريد كوشنر في مارس/آذار الماضي، موضحًا أن "الواجهة البحرية لغزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة، ويمكن استغلالها إذا ركز الناس على بناء سبل العيش".
تمكنت إسرائيل ولو مؤقتًا من تأمين جبهتها الشمالية، بعد إضعاف حزب الله الذي قُيِّدت قدراته العسكرية خلال المواجهة الأخيرة، وأُغلِقت مسارات إمداده بالسلاح إثر سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتأسيس نظام جديد هناك يطرح نفسه صمامَ أمانٍ لإسرائيل والولايات المتحدة. أما الجبهة الجنوبية فلا تزال شوكةً في حلق الدولة العبرية وعقبة في مسار إعادة تشكيل معادلة الشرق الأوسط وفق المخطط الترامبي.
ننتظر التبعات ونتأهب لها
قبل نحو ثلاثة شهور من الانتخابات الأمريكية، أكد مسؤول مصري كان لا يزال في الخدمة وقتها أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض سيدفع الشرق الأوسط إلى حافة الجحيم، ولفت في حديث مع كاتب هذه السطور إلى أن القاهرة ستكون أكبر الخاسرين في حال نجاح المرشح الجمهوري "ثبت لنا أن بإمكاننا التفاهم مع الديمقراطيين وتغيير سياساتهم تجاه المنطقة".
وأشار المسؤول، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إلى أن ترامب يحمل أجندةً للشرق الأوسط تتماهى مع تصور اليمين الإسرائيلي، وبسؤاله ماذا سنفعل في حال أعاد طرح مخطط التهجير مجددًا فقال "التهجير بالنسبة لمصر خط أحمر.. فالقبول به هو ما سيفتح أبواب الجحيم على مصر وباقي دول المنطقة".
وبعد تصريحات ترامب الأخيرة تأخر رد القاهرة الرسمي نحو 20 ساعة، استعرضت خلالها الأجهزة والمؤسسات التداعيات وأعدَّت تقديرات موقف لكل السيناريوهات، وفق مسؤول مصري آخر مطلع على هذا الملف، إلى أن أعلنت الخارجية المصرية رفضها المساس بحقوق الشعب الفلسطيني "غير القابلة للتصرف، سواء من خلال الاستيطان أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها من خلال التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، سواء كان بشكل مؤقت أو طويل الأجل".
صدر البيان الرافض لمخططات الإدارة الأمريكية الجديدة، بعدما أيقنت القيادة السياسية أن الشعب المصري بكل فئاته يدعم هذا القرار وعلى استعداد لتحمل تكلفة تداعياته "الأمر ليس سهلًا وستكون له تبعات على مصر والمنطقة"، يضيف المسؤول الحالي لكاتب السطور "إلا أن تلك التكلفة ستكون هينة أمام تداعيات قبولنا بتلك الخطة".
ويتابع "لن تكون مصر هي المعول الذي تُضرب به القضية الفلسطينية، فتبعات ذلك على النظام السياسي ستكون كارثية"، مضيفًا "عقيدة مؤسسات الدولة المصرية لا تتناغم مع ذلك الطرح".
ضمن ما لفت إليه المسؤول أن هذا المخطط من شأنه إذا حدث أن يحوِّل شبه جزيرة سيناء ساحةً لشن هجمات على إسرائيل، التي ستندفع وتستهدف مواقع في الداخل المصري، ما يدفعنا إلى الرد والدخول في حرب مباشرة تشعل الشرق الأوسط بالكامل، أو تقبل الإهانة وتغض الطرف وهو ما لا يقبله مصري.
في لقائه مع نظيره الكيني، اليوم الأربعاء، شدد الرئيس السيسي على موقف مصر من قضية التهجير بـ"صراحة وحسم"، في إطار الثوابت التاريخية المصرية بشأن القضية الفلسطينية. وأكد أن ترحيل أو تهجير الشعب الفلسطيني ظلم لا يمكن لمصر أن تشارك فيه "الشعب المصري لو أنا طلبت منه هذا الأمر (قبول تهجير الفلسطينيين) هيخرج كله في الشارع المصري يقول لأ، لا تشارك في ظلم".
ولفت السيسي إلى أن مصر لن تتساهل أو تتسامح تحت أي ظرف مع ما يتردد عن تهجير الشعب الفلسطيني لتأثيره على الأمن القومي المصري، مشيرًا إلى أن القاهرة عازمة على العمل مع الرئيس الأمريكي للوصول إلى السلام المنشود القائم على حل الدولتين.
بعد ما بدا من إجماع شعبي ورسمي، لا يمكن لمصر أن تتراجع عن موقفها الرافض لهذا المخطط، أيًا كانت الضغوط السياسية والاقتصادية التي من المتوقع أن تفرض عليها، لكن لا يُعرف على وجه التحديد كيف ستتعامل القاهرة في حال استخدمت واشنطن وتل أبيب أسلحة الإغاثة والمساعدات وإعادة الإعمار، التي من المفترض أن تُثبِّت الشعب الفلسطيني في أرضه، وتوفر له سبل الحياة، قبل أن ييأس ويضطر إلى الرحيل الطوعي؟