تزامنًا مع الذكرى الأولى لطوفان الأقصى وإطلاق ترسانة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، أصدر معهد واطسون بجامعة براون الأمريكية تقريرًا خطيرًا خلص إلى أن إجمالي المساعدات الأمنية والعسكرية الأمريكية لإسرائيل منذ طوفان الأقصى وحتى نهاية الشهر الماضي بلغ نحو 18 مليار دولار، وهو رقم قياسي.
يمثل هذا الرقم الهائل 14% من إجمالي ما قدمته واشنطن من مساعدات عسكرية لتل أبيب منذ 1959، ويزيد بنحو 4 مليارات عن القيمة القياسية السابقة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبنحو 6 مليارات عن المساعدات الاستثنائية التي ذهبت إلى الصهاينة بعد انتصار مصر في معركة العبور عام 1973.
بعد فحص الأرقام بحساب التضخم عبر تاريخ الاقتصاد الأمريكي يتوجب على وزير الخارجية أنتوني بلينكن ألّا يكلف نفسه عناء الجولات المكوكية سعيًا لـ"عدم توسيع رقعة الصراع"، وينبغي علينا ألا نتوقع شيئًا ونحن نتابع جلسات مجلس الأمن، لأن الشعبين الفلسطيني واللبناني صامدان الآن، وحدهما، ليس أمام إسرائيل فقط ولكن أيضًا أمام القوة الأمريكية الغاشمة بكل ما تحمله من صنوف الدمار والتنكيل. فشُرطيُّ العالم ما هو إلا الجلّاد في التراجيديا السوداء التي نعيشها منذ 75 عامًا.
وتنقيبًا عن جذور هذا الاستثمار، نعود إلى أواخر صيف 1948. فأثناء المحاولات الأمريكية الحثيثة لإنهاء حرب فلسطين بصورة تضمن السلام المؤقت، أو على الأقل ترحيل القضايا المهمة إلى ما بعد الاطمئنان إلى تقليم أظافر بريطانيا في الشرق الأوسط، اجتمع السفير الأمريكي الأول في تل أبيب جيمس مكدونالد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن جوريون، ليضعا سويًا النقاط على حروف الكلمة الأولى في مسيرة الدعم الأمريكية اللانهائية للكيان الصهيوني الوليد، إلى حد التماهي أحيانًا والانقياد مرارًا.
تطمينات إسرائيلية وشرذمة عربية
تناسى مكدونالد اغتيال عصابة شتيرن الإرهابية للقنصل الأمريكي في القدس بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب. وعلى عكس الدبلوماسية البريطانية المتغطرسة، قدّمت واشنطن مجموعةً من الأفكار التي وصفها مكدونالد بـ"التجريبية والأولية" لإرساء السلام في الشرق الأوسط، كما يروي بن جوريون في يومياته، منها تبديل أراضٍ مع الأردن، وتنظيم محادثات إسرائيلية عربية حول وضع القدس، وعودة أعداد من اللاجئين الفلسطينيين.
تعكس هذه الأفكار أن الولايات المتحدة كانت تريد في ذلك الوقت التأكد من ثلاثة أمور أساسية:
1- أن هناك قيادة إسرائيلية يمكن التفاهم معها بشكل مباشر والاعتماد عليها، مقارنة بالدول العربية الأخرى.
2- أن إسرائيل قادرة على حماية مكاسبها الحربية بعد الهدنة الأولى التي استغلتها بكفاءة عالية لتحسين موقفها الميداني.
3- الأهم استكشاف مدى شراهة بن جوريون ورفاقه للمكاسب الميدانية والاستراتيجية؛ هل يتحلّون بأي قناعة يمكن التعاطي معها أم أنهم سيمضون قُدمًا وسيصبح من مصلحة أمريكا، وهي تُعدُّ نفسها لحرب طويلة مع الاتحاد السوفيتي على المنطقة، أن تستثمر في هذا الكيان الوليد للسيطرة على المنطقة بما تمثله من أهمية استراتيجية قصوى على مستوى الموارد والموقع.
لا شك أن بن جوريون استطاع التقاط تلك الأهداف كافة، فجاء رده مباشرًا؛ "ليس من مصلحتنا الدخول في هدنة لأن الهدنة لا تقود إلى السلام، بل ستتسبب في غزو الجيوش الأجنبية (يقصد العربية) للبلاد. ولا نقبل بتبديل أراضٍ مع الأردن فأنا لا أفهم لماذا قد يحتاجون إلى صحراء أخرى ولماذا تُغتصب منا أرضٌ نحن وحدنا الذين نحتاجها للتنمية، ونحن فقط القادرون على تطويرها. لن نرحل عن البحر الميت، فنحن وحدنا القادرون على إحيائه وتوفير فرص العمل على ضفافه لليهود والعرب. ولا نقبل بوضعية للقدس لا تضمن ممرًا يهوديًا يضمن ربطها بباقي مناطق إسرائيل".
بعد اللقاء، وفي ظل التفوق الميداني المتصاعد، أصبح مكدونالد والعشرات من السياسيين والدبلوماسيين الأمريكيين أكثر حماسًا من أي وقت مضى للمشروع الإسرائيلي، فتصدوا في الشهور التالية لكل توجه أمريكي متشكك في نوايا إسرائيل حتى لو تبناه البيت الأبيض رأسًا، وحاربوا بكل ما أوتوا من قوة ونفوذ أي سياسة متثاقلة عن تقديم الدعم الكامل لإسرائيل، بدءًا من مساندتها للحصول على عضوية الأمم المتحدة ثم تمرير منحة مالية في يناير/كانون الثاني 1949 وحتى السماح لقيادات العصابات الصهيونية الإرهابية بدخول أمريكا وإبرام الدفعة الأولى من الاتفاقات والمعاهدات التجارية عام 1950.
في ذلك الوقت؛ ماذا كان يفعل العرب؟
لا تكشف الأرشيفات العربية تفاصيل كافية عن طبيعة الاتصالات بالولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما في الفترة بين قرار التقسيم والنكبة. لكن من خلال الشهادات الإسرائيلية والغربية، والقدر اليسير الذي كشفه المؤرخون من أوراق الدبلوماسية المصرية تحديدًا، نرى بوضوح كيف كان لكل طرف عربي مساعيه وأهدافه من الحرب المرتقبة، وكيف أنه، في ظل تنازع القيادة بين مصر والأردن ووجود أطراف طامعة خاضعة تمامًا لألاعيب الغرب واحتمالات الهزيمة، لم يكن ممكنًا التعامل مع الجامعة العربية بجديّة ككيان وحدوي أو تنسيقي.
فمثلًا، رفض الملك عبد العزيز آل سعود تنفيذ قرار اللجنة السياسية لمجلس الجامعة بتوصية الحكومات العربية بوقف تصدير البترول وغلق خطوط الأنابيب، على عكس العراق الذي استجاب للقرار. وفي رسالة وجهها إلى رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي، في فبراير/شباط 1948، نرى الملك عبد العزيز يبرر موقفه هذا بأن "التفكير في قطع أسباب الرزق أو توقيفها أمر عظيم الخطورة ولا يمكن السماح به ليؤثر على هذا المورد الهام من مواردنا"، مطالبًا النقراشي، باعتباره شخصًا موثوقًا وصديقًا، بمراعاة أن تنفيذ القرار يعني "انتحارًا ماليًا".
وثمة إشارة مهمة في هذه الوثيقة الفريدة التي تضمنها كتاب هدى شامل أباظة عن جدها النقراشي، تتمثل في نفي الملك عبد العزيز أن يكون هذا القرار تعبيرًا عن "ميل أو تحيز نحو الأمريكيين أو سواهم"مذكّرًا بأن "حالة المملكة القاحلة المجدبة محدودة الموارد لا تشبه حالة البلاد التي لا يشكل دخل البترول فيها إلا جزءًا ضئيلًا من موازنتها الوطنية".
كانت المساعدات العسكرية الأمريكية حاضرة دومًا كعاملٍ حاسمٍ بلا مواربة في كل لحظة إسرائيلية صعبة
لا بد أن الأمريكيين لاحظوا هذا الرفض السعودي، مثلما لاحظوا أيضًا كيف تتكسّر الجهود المصرية المكثفة، دبلوماسيًا وعسكريًا، لضمان حقوق الفلسطينيين على صخرة الرفض الهاشمي، في الأردن والعراق، لإنشاء حكومة ثورية محلية بقيادة مفتي القدس أمين الحسيني، وانشغال ممثلي الدول العربية بالبحث مع حلفائهم ومستعمريهم البريطانيين عن مستقبل مناسب لصحراء النقب.
وربما كانت تلك الملاحظات المتواترة في الوثائق الغربية، نهاية صيف 1948، من الدوافع المباشرة لقرار بن جوريون التاريخي بغزو النقب، خاصة بعد انسحاب الجيش الأردني بقيادة البريطاني جون جلوب من اللد والرملة.
حينها أنشد الشاعر المصري محمد الأسمر:
بأرض فلسطين على النقب قصةٌ :: ومسألة أنست جميع المسائل
يقوم بها جيشُ الكنانةِ وحده :: بعبءٍ نأت عنه جميع الكواهلِ
فهلّا تكاتفنا جميعا لحمله :: فما كان يومًا حاملون كحاملِ
بيد أن تواضع الطموح ظهر جليًا في السياسة المصرية المُخلصة والخجولة، في آن، إزاء الطموحات الإسرائيلية، والتي ربما كان مرجعها الشعور الرسمي بعدم الاستعداد العسكري الكافي وصعوبة إعلان التعبئة العامة بصورة شاملة لفترة طويلة.
ويكفي أن نقرأ مذكرة الحكومة للدول الأجنبية يوم تحرك القوات إلى فلسطين لاستيضاح ذلك "إن مصر ليس لها من غرض إلا إعادة الأمن والسلم إلى ربوع فلسطين ولحين الوصول إلى الحل العادل. وإن تدخلها ليس ضد يهود فلسطين بل ضد العصابات الإرهابية الصهيونية". ومن العبث مقارنة هذه اللهجة بصرامة وعنفوان البيانات الإسرائيلية في ذلك الوقت.
وهكذا، حلَّت لحظة الحقيقة أثناء انعقاد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس في سبتمبر/أيلول 1948، إذ كانت الرسائل الأمريكية للدول العربية، حسب الوثائق التي استند إليها الأستاذ محمد حسنين هيكل في الجزء الثاني من ثنائية العروش والجيوش، أن إسرائيل باتت أمرًا واقعًا، وعلى كل دولة عربية أن تتصل وتتفاوض معها مباشرة للوصول إلى حلول مرضية.
ونفهم اليوم من تلك الرسائل، عندما نضعها في مواجهة الحلول التي اقترحها مكدونالد و"لاءات" بن جوريون، أن واشنطن أدركت منذ ذلك الوقت أن إسرائيل هي المشروع المناسب والوحيد لتحقيق مصالحها في المنطقة، أمام تشرذم العرب والخلافات العميقة والمتوارثة بين أنظمتهم وتواضع أهدافهم.
رهانات متجددة
لم يعِ العرب أن تلك اللحظات التأسيسية لن تحدِّد مستقبل فلسطين فحسب، بل ستمتد آثارها لإعادة تشكيل المنطقة أكثر من مرة والتلاعب بمراكز الثقل فيها صعودًا وهبوطًا، حسب الأهداف السياسية والاقتصادية الأمريكية في خضم الحرب الباردة ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وكانت المساعدات العسكرية الأمريكية حاضرة دومًا كعاملٍ حاسمٍ بلا مواربة في كل لحظة إسرائيلية صعبة.
فبعد أشهر معدودة من إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، أقرَّت واشنطن أول منحة عسكرية رسمية لإسرائيل عام 1959 وزيدت سنويًا بمتوسط 162 مليون دولار، لتكون أساس تفوقها الكاسح في حرب 1967.
ومع بداية السبعينيات تضاعفت المساعدة العسكرية السنوية إلى 3.2 مليار دولار سنويًا، ثم كانت القفزة الأولى الكبرى والأهم في أعقاب حرب 1973 بحصول الرئيس نيكسون على تفويض من الكونجرس بصرف مساعدات عسكرية طارئة، مع تغيير صفتها من "قرض شكلي" إلى "منح لا ترد".
لم يعنِ هذا الإجراء الأمريكي المفصلي إلا الاعتراف باهتزاز أسطورة إسرائيل كقوة لا تُقهر، وعدم اطمئنانها للتقديرات الاستخباراتية والسياسية الإسرائيلية في ذلك الوقت، خاصة بعد تمسك رئيسة الحكومة جولدا مائير ووزير الدفاع موشي ديان بعدم توجيه الضربة الأولى وثقتهما في صد أي هجوم مصري محتمل عبر قناة السويس.
في السياق التاريخي، نجد في ردة الفعل الأمريكية وجه تشابه آخر بين العبور وطوفان الأقصى. إنه الفزع من انهيار "المشروع" برمته، الذي لم يعد مقتصرًا على إسرائيل وإن كانت في القلب منه، ولكن يشمل تنسيقًا إقليميًا أوسع، بمهام استراتيجية بعيدة المدى مرسومة بعناية.
ولم يعد "المشروع" كذلك قابلًا للتفاوض والمساومة بين المتطرفين والأكثر تطرفًا في دوائر الصهيونية العالمية التي يقودها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
من بين ركام جرائم الإبادة في غزة والضفة الغربية ولبنان، تبدو الإرادة الأمريكية واضحة لمنح إسرائيل فترة كافية لتضميد جراحها الداخلية بمزيد من السياسات العنصرية والإقصائية للفلسطينيين، وتوسيع المناطق العازلة في كل الاتجاهات، والقضاء على ما تبقى من أصوات يسارية وحقوقية في المجتمع الإسرائيلي، يراها نتنياهو ومؤيدوه الخطر الأكبر على مستقبل الكيان.
اليوم؛ يبدو الأمل الصهيوني أكبر من أي وقت مضى في تعجيز المقاومة لأجيال قادمة ليؤتي الاستثمار الهائل في الإبادة أُكُله الشيطاني.
لكن الرهان الأكبر يبقى تكرار ما حدث في عام النكبة حول فلسطين وليس على ترابها فقط: أن تظل الشعوب والأنظمة العربية غير واعية لخطورة ما يُحاك للمنطقة باسم تدمير محور الشر، على وقع التواطؤ وانكسار الطموح، وتباين الأهداف وانكفائها.