بتنا على موعد يومي مع هذا السؤال الذي يطرحه الفلسطينيون وهم يخرجون كالأشباح من تحت أنقاض المباني التي قصفها جيش الاحتلال الصهيوني في مختلف مدن قطاع غزة، تغطي أجسادَهم الرمالُ وتسيل من وجوههم الدماء. كلما سمعت السؤال تزيد مشاعري بالخزي والعجز وقلة الحيلة. وأردد بدوري: نحن معكم. نعم. وينكم يا عرب؟
وإذا كنا على يقين من أنَّ القوى العظمى في العالم، على رأسها الولايات المتحدة، شريكة لإسرائيل في هذه الحرب المذهلة في استهتارها بأرواح البشر، بمنحها الضوء الأخضر لمواصلة قتلها اليومي للفلسطينيين، يبقى التساؤل ماذا بإمكان العرب القيام به لوقف هذا الكابوس، ولماذا ينتهي الأمر بهم دائمًا إلى اجتماعات تصدر عنها قرارات ساخنة لا يُنفَّذ شيء منها؟ وكيف تمكّنت الولايات المتحدة، رغم من مصالحها المتشابكة مع الدول العربية، من التصرّف بعدم اكتراث لحالة الغضب العارم التي تهيمن على الشعوب العربية، ومؤيدي الحقوق الفلسطينية من دعاة العدالة والمساواة وحقوق الإنسان حول العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها؟
على المستوى الشعبي يعرف الغزّيون أنَّ كلَّ القلوب العربية تُدْمَى لما يتعرضون له، عدا قلة قليلة تسعى وراء الرزق أو الشهرة. وأنّ الشعوب العربية لو تُركت لها الحرية لمضت نحو فلسطين المحتلة سيرًا على الأقدام دعمًا لأهلها المنكوبين.
وحدتنا في مقابل انقسامهم
وإذا كانت دولة الاحتلال تستقبل القاطنين الجدد من الصهاينة في أرجاء العالم، وتُدخلهم في مسار طويل للتكيف مع الهوية الجديدة التي يفترض بهم اكتسابها، واللغة الجديدة التي سيتعين عليهم التحدث بها، فإننا نحن، جيران فلسطين في مصر والأردن وسوريا ولبنان، لا نحتاج طائرات للنقل ولا دورات لتعلم اللغة.
وفي الجزيرة العربية والعراق والمغرب العربي، يُشكِّل دعم فلسطين جزءًا من الهوية الوطنية، وربما تتشدد شعوب تلك الدول في مواقفها أكثر من الشعوب المجاورة لفلسطين نفسها ممن كانوا يُسمَّون يومًا ما بـ"دول الطوق" أو "دول المواجهة"، ففلسطين جزء من واقعنا، وعلى وقع مأساتها تشكَّل تاريخنا الحديث، ودفع الفلسطينيون ثمن هواننا وهزائمنا منذ 1948.
هذه الحقائق تجعل الالتزام نحو فلسطين وشعبها أمرًا لا يمكن التنصل منه، حتى لو كانت المسؤولية تقع أساسًا على عاتق حكامنا الذين تولوا زمام بلادنا منذ نيل الاستقلال من الاحتلال العسكري الأوروبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
فلو كانت الجيوش العربية الناشئة خرجت منتصرة من حرب 1948 على العصابات الصهيونية، لما نشأت دولة إسرائيل من الأساس. ولو كانت تهديداتنا بإغراق إسرائيل في البحر والوصول إلى قلب تل أبيب تحققت في عام 1967، لما استكمل الكيان الصهيوني احتلال بقية فلسطين مع سيناء والجولان.
ولو كان الحكام العرب تصرفوا ككتلة موحدة في دعم الفلسطينيين، وتوقفوا عن التآمر على بعضهم البعض تحت مسمى دعم قضيتهم، لما استطاع الكيان الصهيوني التملص من التزامات أوسلو، التي كانت تقضي بفترة انتقالية لخمس سنوات فقط، تخرج بعدها دولة فلسطين إلى الوجود رسميًا.
مقابل ذلك، تعيش إسرائيل حالة تحدٍّ دائم منذ نشأتها، لتدمج كلَّ هذه الجاليات الأجنبية المتعددة التي تعيش فيها، ويتمسك بعضهم بلغتهم الأم بدلًا من العبرية، وينقسمون بين يهود غربيين وشرقيين، ويهود متدينين وعلمانيين. الانقسامات بشأن تحديد الهوية الإسرائيلية وطبيعة الدولة هي ما تجعلها في حاجة مستمرة لقضية توحد شعبها.
كلُّ حكومة عربية مشغولة بعلاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أكثر من أي شيء آخر بما في ذلك فلسطين
وفي هذا الصدد لا يوجد أفضل من تضخيم الخطر الوجودي الذي يهدد استمرار الدولة من الأساس، والكذب بشأن "واحة الديمقراطية" التي تعيش في محيط من العرب الهمج، إلى جانب ابتزاز الغرب الذي لم يحمِ اليهود من المحرقة النازية، بالحديث المستمر عن خطر الفناء والتعرض لـ"هولوكوست" جديد.
ويتجاهل ويتناسى الجميع أن هذا "الهولوكوست" لم يكن للعرب دور أو مساهمة فيه، ولكن رغبة الأوروبيين في التخلص من الشعور بالذنب نحوه دفعتهم لقبول ودعم مشروعهم الاستعماري في فلسطين.
هذا الابتزاز الصهيوني هو ما سمح لإسرائيل بالحصول على أحدث وأفضل أنواع الأسلحة في العالم من راعيها الرسمي، الولايات المتحدة، وحلفائها الأوروبيين، بما في ذلك الأسلحة النووية، وبانتزاع الالتزام الأمريكي العلني بضمان تفوق القدرات العسكرية لتل أبيب على كل الدول العربية مجتمعة.
وتعتبر إسرائيل أنَّ الاحتفاظ بذلك التفوق العسكري، واستخدام القوة المفرطة التي لا تضع أيَّ اعتبار لقيمة أرواح البشر من الفلسطينيين والعرب، اعتمادًا على الدعم الأمريكي الأعمى اللا مشروط، من الضمانات الرئيسية لبقائها.
استراتيجية كيسنجر الباقية
ولكنَّ جزءًا رئيسيًا من الاستراتيجية الإسرائيلية والأمريكية لضمان بقاء الدولة الصهيونية، يستغل تناقضات وانقسامات الحكام العرب أنفسهم، الذين يضع أغلبهم ضمان استمراره على كراسيه أولوية عن أيِّ قضية أخرى مهما بلغت قدسيتها، بما في ذلك قضية فلسطين وتحريرها وإنهاء معاناة شعبها.
بل إنَّ بعض الحكام العرب من جيل صدام حسين ومعمر القذافي وحافظ الأسد اعتبروا أنَّ بقاءهم فقط هو ما يضمن استمرار معركة تحرير فلسطين، حتى لو كان ذلك يعني دعم فصائل فلسطينية متناحرة يتغذى العدو الصهيوني على انقسامها واقتتالها.
وبينما هي مصادفة قدرية عجيبة أن يتوفَّى الله الثعلب الماكر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق عن 100 سنة، مع إعلان إسرائيل استئناف قتل الفلسطينيين بعد الهدنة المؤقتة التي استمرت أسبوعًا، فإن إحدى القواعد الرئيسية التي وضعها لتعامل واشنطن مع العرب منذ ستينات القرن الماضي لا تزال حية لم تمُت، وغالبًا لن تموت.
في كتابه الأزمة، الذي ترجمه كاتب هذه السطور بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على حرب أكتوبر، ذكر كيسنجر أنَّ إحدى النصائح المهمة التي قدَّمها للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون كانت ألَّا يقبل الاجتماع مع قادة أو وزراء خارجية عرب مجتمعين، بل الأفضل أن يلتقي كلَّا منهم على حدة.
وعندما اضطر نيكسون إلى لقاء وفد عربي مشترك أثناء حرب أكتوبر 1973، نصحه كيسنجر بالإدلاء بتصريحات عمومية لا تتضمن أيَّ التزامات ولا تتطرق لأيِّ تفاصيل، على أن يرتب له بعد اللقاء الجماعي لقاءات منفردة مع كل مسؤول عربي على حدة، يثير معه خلالها ملفات تتعلق باستقرار وأمن حكومته، والمؤامرات التي يحوكها ضدها جيرانه من الحكام العرب، فيخرج بعد ذلك بالتزامات منفردة من كل وزير، قد تتناقض تمامًا مع الموقف الجماعي الذي جاء الوزراء العرب لإخطار الأمريكيين به.
هذه الاستراتيجية الكيسنجرية لا تزال قائمة وفاعلة حتى الآن، وغالبًا هي السبب الرئيسي في أنَّ العرب "لم يقدِّموا ما يبيض الوجوه عند الله وفي سجلات التاريخ" كما صرح الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر في بيانه منتصف الشهر الماضي، بعد استشهاد مئات الفلسطينيين في قصف صهيوني وحشي لمدارس تابعة للأمم المتحدة في غزة.
ولذلك، فإنَّ الإجابة الوحيدة المباشرة عن سؤال الفلسطينيين "وينكم يا عرب"، هي أنَّ كلَّ حكومة عربية مشغولة بهمومها وبقائها وعلاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أكثر من شيء آخر، بما في ذلك فلسطين ومصالح الشعوب العربية نفسها. وحتى يتغير ذلك الواقع المرير، فسنبقى متسمرين أمام شاشات التليفزيون نتابع بذهول وأسى الإبادة الجماعية للفلسطينيين، ونحن نردد معهم "وينكم يا حكام العرب؟".
لنا الله، وليس لنا سواه.