منذ انطلاق حرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة، تتوالى التلميحات بقبول مصر صفقة لاستقبال لاجئين فلسطينيين، والاتهامات للحكومة المصرية بالتقصير في بذل الجهد المطلوب لرفع الحصار المفروض على القطاع، والمطالب بأن تُدخل مصر المساعدات عنوةً إلى غزة بغض النظر عن موقف الجانب الإسرائيلي.
وفي ضوء العداء الدفين والشخصي الذي يكنه أنصار الإخوان المسلمين للنظام، تجددت على المنابر الإعلامية المقربة من الجماعة مزاعم اتفاق الحكومة سرًا مع العدو الصهيوني والولايات المتحدة على القبول بتهجير الفلسطينيين مقابل المساعدة على الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الحكومة، خاصة بعدما نشرت صحف أمريكية تقارير مصورة عن بناء الجيش منطقة عازلة محاطة بالأسوار على الحدود مع غزة لاستقبال النازحين، الأمر الذي نفته القاهرة.
تشكل هذه المزاعم امتدادًا لأخرى سبقتها في الأسابيع الأولى للحرب، عندما تحدثت تقارير عن قبول مصر توطين لاجئين مُهجّرين من غزة مقابل إعفائها من دفع أقساط الديون المستحقة عليها، عززتها مقابلة أجراها السياسي مصطفى الفقي، المستشار الأسبق لمبارك، والمقرب من كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر بما فيها النظام الحالي، قال فيها إنه قد يتم النظر في منح الفلسطينيين 15 كيلومترًا في سيناء إذا أقدمت الولايات المتحدة على حل قضية الديون وساهمت في إنهاء الخلاف مع إثيوبيا بشأن سد النهضة.
مزايدات في موقف معقد
مع الوضع في الاعتبار أن كل النظم العربية الرسمية امتنعت عن اتخاذ موقف موحد يضغط على الولايات المتحدة لإجبار إسرائيل على وقف مجازرها بحق الشعب الفلسطيني كما حدث في حرب أكتوبر 1973، وهو ما تبدَّى بوضوح في مؤتمر القمة العربية-الإسلامية الذي عُقد في الرياض بعد أكثر من شهر من العدوان مكتفيًا ببيان الإدانة التقليدي، يظل الموقف المصري هو الأكثر أهمية، في ضوء أننا الدولة الوحيدة التي تحتفظ بحدود مشتركة مع قطاع غزة لا تخضع لاحتلال الجيش الصهيوني.
هذه الحدود المشتركة، ومنذ بدء الحرب، تحولت إلى المنفذ الوحيد من أجل إدخال المساعدات عبر معبر رفح، مع استهتار وتجاهل رئيس الحكومة المتطرفة بنيامين نتنياهو للضغوط الأمريكية بفتح معابر أخرى.
اللافت أنَّ هذه الاتهامات التي تتوالى من خصوم النظام، بتحميله مسؤولية عدم إدخال ما يكفي من مساعدات إلى غزة، لم تأتِ من أيٍّ من المنظمات الإنسانية الدولية التي تعمل على الأرض هناك، وبعضها لا يحمل الكثير من الود تجاه النظام المصري.
أما وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن جريفيث، فأكد مرارًا وتكرارًا في الإحاطات التي يقدمها لمجلس الأمن، أنَّ المشكلة تكمن في استمرار القصف الإسرائيلي العشوائي لمختلف المناطق في غزة، ما يمنع حركة الطواقم الأممية من إيصال المساعدات.
كان هذا هو نفس موقف عضو مجلس الشيوخ الأمريكي كريس فان هولن الذي زار معبر رفح مع زميله السيناتور جيف ميركلي، مطلع شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وقال صراحة إن مسؤولية تعطيل المساعدات تقع كاملة على عاتق إسرائيل التي تتبع إجراءات شديدة التعقيد للسماح بدخول كل شاحنة وترفض العديد من المواد بزعم أنها يمكن استخدامها بشكل مزدوج بما في ذلك مساعدات طبية ضرورية.
مهما بلغت درجة الخلاف مع النظام دور المعارضة الوطنية الآن هو دعم مواقفه الرسمية المعلنة وإلزامه بها
وأشار فان هولن إلى أن سلطات الاحتلال تستخدم الطائرات المسيرة لمراقبة الشاحنات التي تتجمع في الجانب المصري من رفح بعد تفتيشها، وأنه لو غادر أحد السائقين سيارته لشرب كوب من الشاي، فإن سلطات الاحتلال تفتش الشاحنة مرة ثانية، إلى جانب إغلاق المعبر أيام عطلة نهاية الأسبوع.
وقبل تمرير مجلس الأمن قراره في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي بدعوة جيش الاحتلال للسماح بفتح ممرات إنسانية لدخول المساعدات، فإن الوفد المصري في الأمم المتحدة بذل جهودًا حثيثةً لتتولى الأمم المتحدة منفردةً مسؤولية تفتيش شاحنات المساعدات. لكن إسرائيل رفضت ذلك بقوة، وأصدر ممثلها بيانًا بعد صدور القرار يشكر فيه الولايات المتحدة أنها "حافظت على الخطوط الحمراء" الإسرائيلية المتمسكة بحقها منفردةً في تفتيش الشاحنات.
وينسى الكثيرون ممن يقولون إنه على مصر إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة عنوةً، ودون أي تنسيق مع الجانب الإسرائيلي، أن ذلك عمليًا مستحيل، وذلك لأن غزة بأكملها منطقة حرب نشطة. وإذا كانت ثلاث شاحنات مساعدات تابعة لمنظمة الأونروا تعرضت للقصف الإسرائيلي المباشر منذ بدء الحرب، فهل المطلوب من مصر أن تقدم سائقي شاحنات استشهاديين يقبلون بقصفهم فور تجاوزهم الحدود؟ لو كان إخوان تركيا وأبواقهم مستعدين لقيادة الشاحنات بأنفسهم، فليتفضلوا لنيل الشهادة.
إلزام النظام بموقفه
لا يريد أحد أن تدخل مصر مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، لا النظام ولا أي من الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة. ورغم التضامن الواسع مع الشعب الفلسطيني، فإنَّ أقصى ما ذهبت له أحزاب المعارضة المصرية هو المطالبة بتجميد أو إلغاء كامب ديفيد وطرد السفير الصهيوني من مصر، ولم يتحدث أحد عن خوض حرب جديدة.
دعم الشعب الفلسطيني والشعور بالخذلان لعجزنا عن تقديم ما يكفي لوقف الحرب في ظلِّ ظروف دولية شديدة التعقيد، إلى جانب خشية بعض الدول العربية من دعم حماس مباشرة في الحرب الحالية لأنه يعني دعمًا غير مباشر لدور إيران في المنطقة، لا ينبغي أن يدفعنا للتشكيك في وطنية الجيش المصري والحديث الممجوج عن الاستعداد لقبول صفقات ستبقى رخيصة مهما بلغت الاستفادة منها، إذا كانت ستؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية والسماح بوقوع نكبة جديدة.
هذه المواقف الوطنية ثابتة لدى جموع المصريين، ومهما بلغت درجة الخلاف مع النظام الحالي وسياسة القبضة الحديدية التي يتبعها في التعامل مع معارضيه، فإن دور المعارضة الوطنية في هذه الحالة يجب أن يكون دعم المواقف الرسمية المعلنة للحكومة المصرية الرافض للتهجير والتوطين وتصفية القضية الفلسطينية، وإلزامه بهذه المواقف.
وإذا كانت قطاعات واسعة من الشعب المصري تظاهرت ورفضت اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير مع السعودية، التي لم تُنفَّذ حتى الآن، فهل يمكن تصور رد الفعل الشعبي الغاضب لو تورط النظام في أيِّ إجراءات يبدو منها تخليه عن القضية العادلة للشعب الفلسطيني؟
نظامنا الحالي، مهما بلغت درجة انفراده بالقرارات، يعرف حدوده في هذه المسألة جيدًا، وحدود المؤسسات الوطنية التي تدير هذا البلد وحدود ما قد يتحمله الشعب المصري الذي دفع ثمن ضريبة الدم في أربع حروب ضد العدو الصهيوني.
وبالتالي تجب التفرقة بين الدعاية السياسية الرخيصة بدافع العداء العميق للنظام الحالي، التي لا تخدم الفلسطينيين أنفسهم، وما يحدث عمليًا على الأرض وما تعانيه مصر من أجل وقف الحرب وقتل الفلسطينيين والسعي لإدخال المساعدات العاجلة للشعب الفلسطيني، والتوصل لاتفاق جديد لتبادل الأسرى.