لو أنَّ هناك عدالةً حقيقيةً في النظام الدولي المختل الذي نعيش فيه، لكانت محكمة العدل الدولية أمرت يوم الجمعة الماضي، إسرائيل، بالوقف الفوري لأعمال الإبادة الجماعية التي تقوم بها بلا هوادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، على مدى الشهور الأربعة الماضية.
فإذا لم يكن قتل أكثر من 25 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، وإصابة ما يقارب السبعين ألفًا وتدمير أكثر من نصف مباني غزة وفرض حصار خانق يمنع الدواء والغذاء والوقود، أعمال إبادة جماعية متعمدة وممنهجة، فما الوصف الذي يمكننا إطلاقه على هذه الممارسات، وفقًا لقوانين المحكمة واتفاقية منع ومعاقبة أعمال الإبادة الجماعية، التي أُقرِّت في أعقاب الحرب العالمية الثانية؟
ولكن لأن العدالة ليست من يحكم عالمنا، بل توازنات القوة والمصالح والانحيازات العنصرية، جاء قرار المحكمة على عكس ما كان يتمناه الملايين من أصحاب الضمائر الحية في العالم. لم تأمر المحكمة إسرائيل بالوقف الفوري لأعمال القتل الممنهج والسعي الحقيقي لإبادة الشعب الفلسطيني، بل وربما محوه من الوجود كما تمنى وزير التراث في حكومة الدواعش الإسرائيلية، عندما أصابته اللوثة فطالب بإسقاط قنبلة نووية على القطاع المكتظ بأكثر من مليوني إنسان، كحلٍّ نهائيٍّ وحيدٍ لحسم الصراع الممتد منذ أكثر من سبعة عقود.
مكاسب فلسطينية مهمة
غير أنَّ الإحباط وخيبة الأمل من قرار المحكمة، لا يجب أن يقودانا إلى رفض كلِّ ما ورد فيه، بل علينا الاستفادة من جوانب إيجابية كثيرة أقرها قضاة المحكمة بشبه إجماع، حتى أنَّ القاضي الإسرائيلي الذي عينته تل أبيب بصفة مؤقتة بناءً على قواعد العمل في المحكمة وافق على اثنين من التدابير المؤقتة الستة التي أمرت بها المحكمة، حتى الفصل النهائي في القضية، من بينهما الدعوة إلى الإسراع في إدخال المساعدات الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل لسكان القطاع المنكوب.
ومن المؤكد أنَّ القرار مثَّل صفعة قوية لحكومة الدواعش التي يقودها "ملك إسرائيل العاري" بنيامين نتنياهو، بدعمٍ عسكريٍّ ودبلوماسيٍّ مباشر من الإدارة الأمريكية وحكومتي بريطانيا وألمانيا، وزاد من عزلة الكيان الصهيوني وفضحه على مستوى العالم.
وبالتالي ينطبق هنا وبقوة المثل الشهير "ما لا يؤخذ كله، لا يترك كله"، ولنا أن نتخيل كمَّ الانتصار والنشوة الصهيونية لو كانت المحكمة قضت بعدم الاختصاص، كما كانت تطالب إسرائيل ويخشى كثيرون، أو أنَّ معاهدة منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية لا تنطبق على ما ترتكبه إسرائيل في غزة، وتأييد مزاعم ممارستها "حق الدفاع عن النفس"، في أعقاب هجوم مقاتلي حماس المذهل والمهين في السابع من أكتوبر، أو تكرار هلاوس استخدام حماس للمدنيين في غزة دروعًا بشريةً، وللمدارس والمستشفيات ودور العبادة مقرات لتنفيذ هجماتها ضد جيش الاحتلال.
التحدي الحقيقي الذي يواجه كلَّ مؤيدي العدالة الإنسانية الآن، هو كيفية الاستفادة من قرار المحكمة والبناء عليه، ليس فقط لوقف الحرب، بل أيضًا لملاحقة القتلة من قيادات الكيان الصهيوني، ومحاكمتهم كمجرمي حرب، بعد أن ركبهم الغرور وظنوا أنهم محصنون من أي حساب، بفضل الحماية التي يتمتعون بها من راعيهم الرسمي الأمريكي.
ويذهب خبراء قانونيون إلى أنه على الرغم من عدم سماعنا الكلمات الذهبية العادلة التي كنا نتمناها، بدعوة الكيان الصهيوني للوقف الفوري للحرب، فإنَّ كافة التدابير المؤقتة العاجلة التي ألزمت المحكمة إسرائيل بتنفيذها حتى الفصل في موضوع القضية، ما قد يستغرق سنوات، لا يمكن أن تتحقق عمليًا إلا بالوقف الفوري لحرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال.
قرار المحكمة يمثل ورقة مهمة في نضال الشعب الفلسطيني الممتد لكن مقاومته هي الأساس
فبدايةً، وهذه نقطة بالغة الأهمية، أقرَّت المحكمة ما كان يرفض قادة الكيان الصهيوني الاعتراف به منذ إنشاء إسرائيل عام 1948، وهو أنَّ الشعب الفلسطيني يمثل "جماعة قومية مستقلة"، و"أصحاب أرض" يحق لهم العيش في وطنهم، وبالتالي تنطبق عليه نصوص اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
وبينما لا تزال إسرائيل تحاول منذ 75 عامًا إقناع العالم بجوهر المشروع الصهيوني؛ أي زعمها بأنها تمثل كلَّ "الشعب اليهودي"، بالرغم من التنوع الكبير في الخلفيات العرقية للمهاجرين اليهود الذين أتوا إلى فلسطين من كل أرجاء العالم، فإنَّ الفلسطينيين، وفقًا لقرار المحكمة، "أصحاب أرض" لا يجوز اقتلاعهم والسعي الحثيث لتهجيرهم عنوة إلى الدول العربية المجاورة.
فعندما تأمر المحكمة إسرائيل بالتوقف عن الأعمال التي قد ترقى لأعمال الإبادة الجماعية، فإنَّ ذلك بكل تأكيد يمثل دعوة للوقف الفوري للحرب. بعض منتقدي القرار رأوا أنَّ المحكمة منحت إسرائيل شهرًا إضافيًا لقتل الفلسطينيين، ولكنَّ خبراء قانونيين آخرين يرون أنَّ فشلها في تنفيذ مطالب المحكمة خلال شهر هو ما سيؤدي إلى إدانتها لاحقًا بـ"الإبادة الجماعية".
ومن المفارقة بالطبع، أنَّ إسرائيل التي ساهمت في صياغة نصوص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بعد الهولوكوست، هي من تقف اليوم أمام المجتمع الدولي، متهمة بارتكاب الجريمة نفسها بحق الفلسطينيين.
ومن الجوانب الإيجابية أيضًا في قرار المحكمة، إقرار ما قدمه فريق الدفاع المتميز لجنوب إفريقيا من تصريحات للمسؤولين في إسرائيل منذ بداية الحرب، من وصف للفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية"، ونفي وجود أبرياء في غزة، وغيرها من تصريحات عنصرية تمثل تحريضًا مباشرًا على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
ورقة مهمة بجانب المقاومة
منذ أن تقدمت جنوب إفريقيا بدعواها معتمدة على تلك التصريحات، أصبحت وسائل الإعلام الإسرائيلية أكثر حرصًا على تنبيه ضيوفها بشأن ما يدلون به من تصريحات عنصرية ستضر بمصالحهم، وفي الوقت نفسه لن تخيف الفلسطينيين ولن تدفعهم للتوقف عن مقاومة الاحتلال.
بل إن العكس هو ما حدث، زادت تلك التصريحات التي مهدت للقتل العشوائي من شعبية حماس، وتحولت أي انتصارات تكتيكية يحققها جيش الاحتلال إلى هزائم استراتيجية، وهو ما حذّر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن نظيره الإسرائيلي جالانت من حدوثه، عندما التقيا قبل أسابيع في تل أبيب.
بالطبع انتصار الفلسطينيين وتمكنهم من تحقيق حلمهم في إقامة دولتهم المستقلة لن يأتيا عن طريق المحاكم الدولية، التي لا تطبق قواعد العدالة بالضرورة، وستبقى مقاومتهم الباسلة وتضحياتها الغالية من أرواح الفلسطينيين هي الأساس، ولكنَّ المؤكد أنَّ قرار محكمة العدل الأخير يمثل ورقة مهمة للغاية في النضال الممتد للشعب الفلسطيني البطل الصامد، الذي لم يهجر أرضه واختار الاستشهاد تحت أركان المباني المهدمة ومعاناة الجوع والمرض، رفضًا للاستسلام وقبول آخر احتلال عنصري بغيض في العالم.
ومن هنا، تأتي أهمية رفع جنوب إفريقيا بالذات، البلد الذي عانى العنصرية والقهر لعقود، هذه الدعوى، فقد كانوا أصحاب قضية عادلة، وقدموا كل ما يمكنهم من تضحيات للخلاص من نظام الفصل العنصري، ما سيمنح الفلسطينيين وكل داعميهم في العالم الأمل بأنَّ النصر سيحالفهم أيضًا في المستقبل القريب. المهم هو استخدام كل الأدوات المتاحة لتحقيق ذلك الهدف، بما في ذلك قرار محكمة العدل الدولية الأخير، مهما بلغت درجة خيبة الأمل حياله.