في نهايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بالتزامن مع مذبحة غزة، عُقد اجتماع سري في فندق فاخر ومنعزل بأحد ضواحي برلين، حضره ممثلون عن حزب "بديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، والصاعد جماهيريًا، وآخرون عن مجموعات من النازيين الجُدد، ورجال أعمال. ظلَّ الاجتماع سريًا حتى تسربت أخباره للصحافة بدايات العام الجديد.
كان هدف اللقاء محددًا وواضحًا، البحث فيما يمكن تسميته بـ"إعادة تطهير ألمانيا"؛ مخطط سياسي مستقبلي لإعادة تهجير طالبي اللجوء والمهاجرين والألمان من أصول غير ألمانية لخارجها، سواء بإعادتهم لبلدانهم الأصلية، أو لمكانٍ ما في شمال إفريقيا، لتستعيد ألمانيا "جوهرها النقي".
أخلاقية الأبيض والأسود
منذ بداية عملية الإبادة العرقية الحالية في غزة، نراقب المواقف الأوروبية الداعمة في أغلبها لإسرائيل، والمتطرفة في رؤية مذبحتها الحالية وكأنها عملية مشروعة للدفاع عن النفس ضد "الإرهاب الفلسطيني". وتستقطب ألمانيا بالذات نظرات الفزع العربي أكثر من غيرها، بسبب مواقفها الداعمة بثبات لإسرائيل، وملاحقتها لمحاولات الاحتجاج على المذبحة والتضامن مع الشعب الفلسطيني، ومقترحات القوانين الجديدة التي تفرض على طالبي الإقامة في بعض الولايات الاعتراف بدولة إسرائيل قبل حصولهم على أوراق الإقامة، والمساواة بين نقد إسرائيل ومعاداة السامية.
الخير والشر والأبيض والأسود والجنوب والشمال ثنائيات لا تصلح لفهم تباين مواقف جنوب إفريقيا وألمانيا فيما يخص غزة
تناسينا مؤقتًا الانحياز الأوروبي لإسرائيل مع تصاعد وتيرة المذبحة، وصمود المقاومة وأهل غزة، وكأننا نكفي أنفسنا ولا نريد شيئًا من أحد. أو كأننا نردد جماعيًا ورمزيًا جملة ياسر عرفات يا وحدنا. لكننا عُدنا وتنبهنا لهذا الانحياز من جديد مع دعوة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، كأننا ندرك من جديد أهمية التحركات الدولية، وتأثيرها على الرأي العام الدولي.
التدخل الجنوب إفريقي الذي أسعد ملايين كثيرة من العرب، وأعاد للأذهان نيلسون مانديلا، وجعلنا نُبدع بوسترات الشكر والترحيب، تسبب وبمجرد حدوثه في استعادة الحالة الألمانية بمواقفها وماضيها. فكلتاهما، جنوب إفريقيا وألمانيا، يتلاقى تاريخاهما الحديثان في جانب مشترك، ألا وهو النظام العنصري المبني على فكرة تفوق جنس على آخر.
نزعت بعض المقارنات لتفسير الاختلاف في مواقف البلدين مما يحدث في فلسطين لباب الصدفة. وذهبت بعض الرؤى الأخلاقية لتفسيرات يشوبها بعض الابتذال التاريخي، لتفسر الاختلاف في المواقف بأن هؤلاء سود وجنوبيون، وهؤلاء شماليون وبيض. وهو ما يقودنا بالتالي لوهم ثنائية الأبيض الشرير، والأسود الطيب الذي كان في الأصل ضحية، بكل ما تحمله من مشاعر مظلومية تاريخية مريحة.
لكنَّ الخير والشر، والأبيض والأسود، والجنوب والشمال، ثنائيات لا تصلح لفهم الفروق في المواقف الآنية فيما يخص غزة، أو لفهم موقف البلدين من جوهر المشروع الإسرائيلي. فكلٌّ منهما دولة لديها حساسية بالغة تجاه المسألة العنصرية، تدفعهما لطريقين متناقضين، واحدة تدعم إسرائيل بمشروعها العنصري الذي يتلاقى في جوهره بالمشروع الهتلري النازي، والأخرى ترى تماثلًا بين ماضيها في الفصل العنصري الاستيطاني وممارسات إسرائيل مع الفلسطينيين.
عقدة الذنب بسبب الهولوكست، الألمانية بالدرجة الأولى والأوروبية بالدرجة الثانية، لا تكفي مفتاحًا سحريًّا يجلب معه تفسير الانحياز لإسرائيل، حتى وإن كانت تلعب دورًا في نفسية وعقلية المواطن الألماني البسيط الجاهل بالسياسة، ليتم ابتزازه وكأنه مسؤول بالوراثة عن المحرقة، وعليه أن يدفع ثمن ما اقترفه أسلافه مع اليهود. لكنَّ دوائر صنع القرار الألمانية والأوروبية، والطبقات الحاكمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعلم جيدًا مثلما تعلم إسرائيل أنَّ عقدة ذنب المواطن الألماني/الأوروبي الساذج مخترعة عن قصد، وأنها غير طبيعية أو منطقية.
هذه الطبقات الحاكمة نفسها لا تشعر بأي ذنب تجاه اليهود، وتعلم أنَّ نظراءها من الأغنياء اليهود الأوروبيين لم يُقادوا للمحرقة. والأهم، أنها تعي مصالحها جيدًا، وتعلم أن مشروع دولة إسرائيل هو مشروع أوروبي استعماري ورأسمالي سابق على المحرقة. وأن المشروع الصهيوني خُلق لحلِّ عدد من التناقضات بين الدوائر الرأسمالية الأوروبية قبل الحرب العالمية، بجعل إسرائيل قاعدة متقدمة أو امتدادًا للرأسمالية الأوروبية والأمريكية في الشرق، مع نهاية زمن الاستعمار التقليدي القديم.
عليَّ هنا طرح جملة اعتراضية طويلة عنوانها أحمد صادق سعد، للفت أنظار القراء لهذا المناضل والمفكر والمؤرخ والباحث الماركسي المصري، من أصل يهودي، وكتابه فلسطين بين مخالب الاستعمار، المنشور عام 1946، وأعاد "مدى مصر " مؤخرًا نشر ثلاث حلقات منه بمناسبة المذبحة في غزة. فهو إحدى الإسهامات المهمة المبيّنة لموقف قطاع مهم من الشيوعيين المصريين والعرب، بمن فيهم اليهود، من إسرائيل، وكيف رأوها مبكرًا مشروعًا رأسماليًّا استعماريًّا أوروبيًّا، دون أن تخدعهم "الزينة الاشتراكية" للكيبوتزات.
الذاكرة التاريخية الجماعية
طبيعة دولة إسرائيل كقاعدة رأسمالية واستعمارية في الشرق، تفسر تعامل أوروبا والولايات المتحدة معها، وبوعيٍّ كامل لمصالحهما ومصالح الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية. وهي جانب ضروري لفهم الفروق بين الكيفية التي ترانا بها ألمانيا والتي ترانا بها جنوب إفريقيا. لكن هناك جانبًا آخرَ شديد الأهمية متعلق بالمجتمعين، ومجتمعات أخرى، وهو الذاكرة التاريخية الجماعية.
التخلص من الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لم يحدث بالفوقية التي جرت في ألمانيا بل عبر عملية طويلة فُتحت فيها كل الملفات
خلعت ألمانيا وجهها النازي بعد حرب عالمية طاحنة استمرت ستة أعوام، وانتهت بانتصار طرف ارتكب بدوره الكثير من الجرائم الكبرى خلالها. لكن، ولأنه الطرف المنتصر، استطاع فرض مرويات الطيب المنتصر والشرير المهزوم.
إنهاء سلطة النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا تم بمجرد تحقيق الانتصار العسكري ودخول جيوش الحلفاء للبلدين. وأقيمت فورًا أنظمة بديلة، تبعتها سنوات من ملاحقة الضباط النازيين والفاشيين ومحاكمتهم، وسنِّ قوانين تجرم أفكارهم. في حين لم تُدشن مجتمعيًا وثقافيًا حالة جادة وعميقة من النقاش والجدل والبحث حول جوهر الفكرة النازية القائمة على تفوق جنس على الأجناس الأخرى، (المتلاقية مع فكرة شعب الله المختار اليهودية)، وتعرض الأساس التاريخي لهذه الفكرة العنصرية للتحليل والتفكيك بجدية، لتدمرها مجتمعيًا تمامًا خلال مدى زمني طويل.
فرضت أوروبا والولايات المتحدة على ألمانيا المدمرة وشعبها المنهك المتطلع لأي مخرج من الدمار والجوع، (وعلى إسبانيا لاحقًا، في منتصف السبعينيات بعد موت الجنرال الفاشي فرانكو)، عملية انتقالية فوقية، تُغلق باب الماضي، دون أن تفتح جراحه الداخلية فعلًا، ودون أن يدخل المجتمع الألماني حقيقة في نقاش عميق وجدي لجوهر الأفكار العنصرية وأصولها في تاريخه، وكيف تحكمت بعقله وروحه ليمنح السلطة للنازيين. فبقي الحال وكأن النازي كان خطأ تاريخيًّا عابرًا وانتهى.
ربما نجد هنا الفرق الجوهري المميز لجنوب إفريقيا. فالتخلص من نظام الفصل العنصري لم يحدث بالفوقية التي حدث بها في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، بل عبر عملية طويلة جدًا من النضالات السياسية والمجتمعية والنقابية والثقافية والمسلحة، وأيضًا الحوار بين كل الأطراف. عملية استمرت عقودًا طويلة وفرضت على شعب جنوب إفريقيا، بتنويعاته الإثنية المختلفة، فتح كل الملفات. ليس فقط ملفات ما سُمي بالعدالة الانتقالية، بل الأهم إعادة بناء الذاكرة التاريخية الجماعية، كضمان حقيقي وجاد لعدم تكرار المأساة، وعامل أساسي من مقومات التغيير، وبوصلة أساسية لرؤية العالم المحيط.
لم تخض أوروبا هذه العملية بعمق وجدية مثلما يتصور البعض. بل إن المفكرين الأوروبيين الذين حاولوا فتح الكثير من هذه الملفات لم يصلوا أبدًا لمراكز صنع القرار. بل فُرض عليهم البقاء في الهامش، يتحدثون مع نخب أو قوى يسارية تشاركهم هذا الهامش، فيما تطغى على أصواتهم ضوضاء المحاكمات الألمانية الشهيرة، أو اتفاقات القوى السياسية لإغلاق جراح الماضي الفاشي الإسبانية، التي توغلت في لحم المجتمع الإسباني لأكثر من 35 عامًا، مضافة لحرب أهلية لمدة ثلاث سنوات، بمنطق "اللي فات مات".
لا يساهم ذلك في تفسير التناقض بين موقفي ألمانيا وجنوب إفريقيا فيما يخص فلسطين فقط، بل أيضًا عودة الحركات اليمينية العنصرية المتطرفة، ومجموعات النازيين والفاشيين الجدد، واكتسابها وجودًا مجتمعيًا واضحًا وبارزًا ومخيفًا في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وبلدان أوروبية أخرى، وهنا لن يعود الاجتماع العنصري الذي عُقد في الفندق الفاخر خارج برلين مثيرًا للدهشة. فهذه الاجتماعات والفعاليات اليمينية والعنصرية، السلمية والعنيفة، بخطاباتها، أصبحت حاضرة وبقوة في أوروبا، سواء في الخفاء أو في العلن.
لكن، ماذا عنا؟! وماذا عن مستقبلنا وذاكرتنا التاريخية الجماعية الغائبة؟! نظن بمنطق التفاؤل التاريخي أنَّ الفلسطينيين سيبنون يومًا دولتهم الديمقراطية العلمانية. لكنَّ السؤال الذي سيجيب عنه المستقبل هو هل سيدخل الفلسطينيون وقتها في عملية لإعادة بناء الذاكرة التاريخية الجماعية مثل جنوب إفريقيا؟! أم سيكتفون بها كيافطة زاهية، معلقة فوق رؤوسهم دون أي مضمون حقيقي، مثل ألمانيا وإسبانيا؟!