
جدران بيننا| آفاقٌ للفلسطينيين وبهم
استخدمت في المقال الأول من هذه السلسلة عنوانًا فرعيًا هو "عزلة المهزوم". كان المقصود بـ"المهزوم" نحن جميعًا؛ الفلسطينيين والمنحازين للحق الفلسطيني. وكيف تدفعنا الهزيمة باتجاه العزلة. لكن هذا التعبير يستدعي معزولين آخرين بغير إرادتهم، لا نتحدث عنهم كثيرًا في العادة؛ فلسطينيي الداخل، الموسومين بمسميات مختلفة، بدايةً من هذا التسمية المنتشرة والمناسبة للدعاية الصهيونية "عرب إسرائيل"، وصولًا للتسمية الدقيقة "فلسطينيو الأرض المحتلة عام 1948".
هؤلاء الذين يكاد تعدادهم يصل لمليوني شخص ويحملون أوراقًا ثبوتيةً إسرائيليةً، كانوا ضحايا لقواعد صارمة، وشفوية واعتباطية غالبًا، للمقاطعة، وبالذات الثقافية لإسرائيل، لمجرد أنهم مضطرون لحمل هذه الأوراق، لمجرد أن حظهم كان مختلفًا عن غيرهم من الأقارب والجيران الذين هُجِّروا قسريًا مع النكبة الأولى.
نتجاهل كثيرًا حقيقة أن بعض الدول العربية، وأولها مصر، ترفض في مناسبات كثيرة دخولهم إليها، وتطردهم أحيانًا خارج حدودها، بناء على نوعية المناسبة واللحظة. بينما تسمح للسائح ولرجل الأعمال الإسرائيلي بالدخول والحركة، وتمنحهما الأمان. تجاهل وضع فلسطينيي الـ48 من جانبنا يحدث غالبًا تحت مظلة ما يسمى بـ"الأضرار الجانبية". ففي سبيل رفعة المقاطعة وتماسكها، علينا أن نتجاهل ضحاياها من هذا القطاع من الفلسطينيين.
لعنة الأوراق الرسمية
تتعدى المسألة قدرة هؤلاء على زيارة البلدان العربية المختلفة، والتفاعل مع محيطهم العربي الطبيعي. فمكمَن المرارة أن عشوائية حركة المقاطعة التي بدأت في السبعينيات، بعد مبادرة السادات، ولمواجهتها والاتفاقيات اللاحقة عليها، تركت فلسطينيي الـ48 بمفردهم في مواجهة الأسرلة. ليس فقط بما تتضمنه كعملية من عزل سياسي لهم، بل أيضًا محو لغوي وثقافي وهوياتي، ومحاولة نسف حقيقة أنهم الامتداد الطبيعي للشعب الفلسطيني سياسيًا ونضاليًا.
لم تُراعِ قواعد المقاطعة ضرورة وجود معايير منفصلة لتجنب الإضرار بهذا القطاع من الشعب الفلسطيني. فتكون المفارقة المريرة أن البلدان العربية التي يستطيعون زيارتها، والتفاعل أحيانًا مع مواطنيها، هي تحديدًا البلدان المُطبعة، التي تُرحب أنظمتها بالعدو الإسرائيلي؛ مصر والأردن والإمارات.. إلخ. في حين أنهم حُرموا من إمكانية التواصل الحقيقي مع شعوب كل البلدان العربية الأخرى، بالذات ما سميت بـ"دول الممانعة"، بسبب استحالة دخول هذه البلدان بجواز سفر إسرائيلي من ناحية، وتجريم إسرائيل زيارتها من ناحية أخرى. في المقابل، لم يبحث أحد عن طرق فاعلة ودائمة للتحايل على هذا المنع المزدوج، وألا يكون تجاوزه رهنًا بمناسبات خاصة أو مواسم الحج والعمرة.
المفارقة المريرة المضافة لوضع فلسطيني الـ48 أن عزلة المهزوم تكرست أكثر نتيجة فعل سياسي فلسطيني
في المقال السابق، استعنت بكلام واحدة من هؤلاء، الصديقة الباحثة والناقدة السينمائية سماح بصول، التي تعرف جيدًا كيف يتجنبها، هي وغيرها، الكثير من العرب المعادين لإسرائيل، العاملين في نفس مجالها، رغم كونها فلسطينية، لمجرد أنها تحمل جواز سفر إسرائيلي.
تقول سماح بصول "هناك حالة تصنيف مصحوبة بنوع من الوصم. حالة القطيعة والعزل تعدت مستوى غياب المعرفة والخشية، وأصبحت في أحيان كثيرة اختيارية. لا يمكن في ظل الانفتاح واتساع الفضاء الافتراضي أن يستمر التعامل مع الفلسطيني في مناطق 1948 وكأنه قنبلة موقوتة. لا يتطلب الأمر أكثر من قراءة بضع صفحات في كتب التاريخ التي تتحدث عن بقاء فلسطينيين بأرضهم رغم الاحتلال، ليُطرح سؤال عن إمكانية محاسبة إنسان بناء على ما كُتب في ورقة رسمية، وليس بناء على وجدانه وانتمائه وهويته الفطرية؟!".
المفارقة المريرة المضافة لوضع فلسطيني الـ48، التي تعرفها سماح وغيرها، أن عزلة المهزوم/المحاصر بالداخل، المضطر للتعامل في كل دقيقة مع عدوه الذي يمارس ضده سياسة العزل والتطهير العنصري، تكرست أكثر نتيجة فعل سياسي فلسطيني.
بداية من قبول منظمة التحرير الفلسطينية بحل الدولتين، الوهمي، يترسخ الاستغناء عن هؤلاء تحديدًا، وكأنهم جزءٌ من القربان المقدم لإسرائيل، ليكتفوا بعيشهم كمواطنين من الدرجة الثانية في دولة الاحتلال. ويُطلب منهم بالتالي، ومن أجل إحلال السلام في المنطقة، ولكي "ينعم" به مواطنو دولة العدو ودول الجوار، أن يضحوا بأنفسهم، أن يتعايشوا مع واقع التمييز ضدهم، وأن يقبلوا بالمنظومة الصهيونية التي ترفضهم وتسعى لإنهاء وجودهم.
محددات المقاطعة الهائمة
يخيل لي أن مثقفي ويساريي العرب في النصف الثاني من السبعينيات، بالأخص المصريين الرافعين لسلاح المقاطعة بعد زيارة السادات للقدس، حكمتهم حالتان نقيضتان؛ الأولى الشعور بالصدمة بما تحمله من فزع، وربما يكفي في هذا السياق تذكر قصيدة أمل دنقل لا تصالح. بالذات عندما نسمعها بصوته، كصرخة شاعر ينبّه للخطر القادم، وبكل ما تحمله من مأساوية استدعاء رمزيات حرب البسوس.
أما الثانية فنلاحظها في الكثير من الكتابات والممارسات السياسية والثقافية لهذه الحقبة؛ ثقة يحملها هؤلاء المثقفون، برغم الفزع، بأن مصر عصية على التطبيع. وحتى إذا وقعت الدولة اتفاقيات، فسيظل الشعب المصري حائط الصد القوي، المستحيل انهياره، في مواجهة عملية فتح جسد المجتمع المصري أمام الإسرائيلي.
في هذه الأجواء نفسها، المتراوحة نفسيًا وعقليًا بين الصدمة والفزع والثقة، تأسست في القاهرة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، التي ضمت نخبةً من أهم المثقفين والفنانين والسياسيين المصريين وقتها، لتكون تعبيرًا عن حائط الصد ذاك أمام التطبيع، بالذات الثقافي. ولأن الثقة كانت طاغيةً غالبًا، يصاحبها أسى ما، لم توضع أُسس واضحة لما يسمى بالمقاطعة، وكيفية مقاومة التطبيع، ومن قبل تراجع حضور وتأثير اللجنة، ثم زوالها.
هناك عامل موضوعي يبرر هذا الإغفال، هو أن مفردات رفض التطبيع أيامها كانت واضحة وبسيطة، لم تكن مُحمَّلة بتعقيدات كبرى، مجرد عدم التعاون مع الإسرائيلي في بلد واحد. لكن غياب التعقيدات فتح الباب أمام ظاهرتين؛ الأولى أن يكون في معاييرها الحاكمة قدرٌ عالٍ من الشخصانية، والاحتكام لما تراه شخصيات عامة لها قبول ومعروف عنها النزاهة، والثانية التعامل مع كل حالة على حدة. فيواجه المسرحي علي سالم مثلًا هجومًا بسبب زيارته لإسرائيل، فيما قُوبلت زيارات مثقفين آخرين بالتجاهل. ويُترك رد الفعل غالبًا لمعيارية تحتمل التأويل؛ ما يقوله المثقف بعد عودته من إسرائيل، أو عن سبب ذهابه إلى هناك، أو تبريراته للفعل التطبيعي.
الفردانية في الحكم، في المواجهة، واعتمادها على وجوه مقبولة في المجالين الثقافي والسياسي، أصبحت العائق أمام تأسيس "معيارية موضوعية"، تُناقش وتتطور بطبيعية، ويستطيع من خلالها كل مثقف أن يتخذ موقفه، وأن يكون مسؤولًا عنه في النهاية، قادرًا على الدفاع عنه، أو على دفع ثمنه. وبالذات بعد غياب هذه الوجوه/الرموز، وتصحر الحياة الثقافية/السياسية المصرية.
انتهت السبعينيات؛ زمن فردانية السادات الخارج عن الإجماع العربي. وانحسر كذلك شعورا الفزع والثقة القديمان، ليفسحا المجال بعد أربعة عقود ونصف العقد لرعب جديد، ناتج عن خطر ظاهر ونراه جميعًا، حتى وإن قرَّر بعضنا تجاهله عن قصد حفاظًا على مصالح مهنية شخصية. فالتطبيع، ومشاريع الشراكة، والهيمنة الإسرائيلية على كل المنطقة، والانسحاق العربي أمام الاحتلال، وعدم اتخاذ أي موقف سياسي لوقف الإبادة، لم تعد تقتصر على مصر. بل توسعت لبلدان عربية أخرى، لتكتسب صيغًا جديدةً تتجاوز مجرد محاولة إسرائيل المشاركة الرمزية في معرض للكتاب أو للصناعة والزراعة في أرض المعارض بالقاهرة، ورفع علمها هناك.
لا أحد يستطيع التنبؤ بشكل مقاومة إسرائيل الشعبية السياسية عالميًا والمسلحة فلسطينيًا وعربيًا
خطر المحور الخليجي/الإسرائيلي لا يُقارن في قوته ونفوذه الهائلين بسلطة السادات القديمة، بما يملكه من قدرات مالية لا حدود لها، تجذب آلاف المثقفين والفنانين، المشكلين أفكار ومرجعيات الملايين من العاملين في الخليج، المنجذبين بدورهم لإمكانات الحياة الأفضل هناك، بدلًا من بلدانهم البائسة. إمكانات قادرة على تركيع بلدان عربية كانت رائدة، وتحويلها لبلدان تابعة لما يتم إقراره في قصور الخليج.
هذا ما يستحق المواجهة الواضحة والعاجلة. لكن تحقق ذلك نفسه؛ بناء حائط صد حقيقي في مواجهة القادم، لا يمكن أن يرتكز على معايير يضعها شخص/فرد نثق فيه، أو جماعة من المثقفين التي يشعر أفرادها بالألفة فيما بينهم. فهذه المعايير، ولتصبح فاعلة وتكتسب تأثيرًا، لا بد لها من أن تكون نتيجة حوار واقعي وجاد بين كل القوى الواقفة على أرضية العداء للمشروع الصهيوني. وهي المسألة التي لا يعرف أحد إن كانت ممكنة التحقق.
المقاومة القادمة
حضور القضية الفلسطينية في الضمير الجمعي والفردي عالميًا، وارتباطها بالقضايا الحياتية المباشرة، وتحولها تدريجيًا للقضية المركز ضميريًا وأخلاقيًا، من ملامح الزمن الجديد. نستطيع أن نرصد ذلك في حضور الرمزيات الفلسطينية في مئات الفعاليات والاحتجاجات المرتبطة بقضايا سياسية محلية/وطنية في عشرات المدن في العالم.
وجه آخر من وجوه هذا الزمن الجديد، المرتبط بالحجم الهائل للحلقة الحالية من عملية الإبادة، وحجم الانهيارات والتغيرات في منطقتنا والعالم خلال العام الأخير، هو أن لا أحد يستطيع التنبؤ بما هو قادم. بالذات إن كانت مادة التنبؤ أساليب مقاومة إسرائيل الشعبية والسياسية عالميًا، والمسلحة فلسطينيًا وعربيًا، في المستقبل متوسط وبعيد المدى.
لا يمكن لأحد أن يتوقع ولو بعض ملامحها لسبب بسيط، لأن نتائج الإبادة نفسها لم تكتمل بعد. لكن، ورغم استحالة التنبؤ، فهناك بعض العلامات التي ربما تمنحنا بعض ملامح ما هو قادم. ربما يكون من بينها الإعلاء من جديد من قيمة النضال السياسي المنظم، داخليًا، في فلسطين. وكان أحد مؤشراته الإضراب الشامل في الضفة الغربية كردٍ من فصائل المقاومة على عمليات القمع التي قامت بها سلطة أبو مازن في عدد من المخيمات والبلدات في الضفة الغربية قبل شهور.
ربما، وأصر هنا على تعبير "ربما"، لن يكون هناك مجال في المستقبل لتشكيلات المقاومة المنظمة الكبرى، من نوعية حماس وحزب الله وغيرها. ربما يكون الزمن القادم هو زمن المجموعات الصغيرة، المتفرقة، التي تضرب حيث لا يتوقع أحد، وتختفي، أو تُجهض لتظهر غيرها.
في هذا المناخ، إذا كانت مقاطعة العدو ضروريةً، فضروري أيضًا أن يفكر الجميع في كيفية إعادة صياغة جبهات الدفاع عن الحق الفلسطيني لعلاقتها بفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948. والتفكير كذلك في موقفنا من هؤلاء الذين تنتجهم إسرائيل، من داخل مجتمعها، ليتحولوا لأعدائها. أن نفكر في كيف نكسبهم أكثر، وكيف نفسح لهم لينضموا إلى صفوف الرافضين لوجود دولة إسرائيل في كل أنحاء العالم.
إذا كان إدوارد سعيد قال إن علينا كسب خيال مضطهدينا، فعلينا كذلك أن نكسب راحة ضميرهم تجاه أحلامنا وطموحاتنا. ففي الوقت الذي تكاد تنتهي فيه فاعلية هذه الفزاعة التاريخية القديمة؛ الاتهام بمعاداة السامية، كسلاح للابتزاز يكاد يصل لمرحلة العطب الكامل، يجب أن يعلم كل المتمردين على الصهيونية ودولة إسرائيل، من تحدثت عنهم في المقالات السابقة وغيرهم، أنه لا أرض أخرى للفلسطينيين سوى فلسطين التاريخية.
كما يجب أن يتأكدوا أيضًا من أن لهم مكانًا بيننا، في هذا الحلم بفلسطين الموحدة العلمانية والديمقراطية، من النهر إلى البحر، لكل مواطنيها، ولكل الفلسطينيين الذين هُجِّروا قسريًا منها، دون أي تفوق لدين أو عنصر عرقي على آخر، ودون أي جدران تفصل بيننا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.