"الفلسطينيون هم الشعب الأصلي لهذه الأرض. تم طردهم منها على يد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية. وأصبحوا ضحية قرار شاذ للتقسيم أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1947، الوحيد من نوعه في مرحلة إنهاء الاستعمار. قررت أوروبا أن تنهي المسألة اليهودية، بنقلها لخارج القارة، ليدفع ثمن حلها من لم يكن لهم أي مسؤولية عنها. وافتقاد دولة إسرائيل للشرعية من الأساس هو سبب الرفض الواسع لشعوب البلدان المجاورة لها".
قائل هذا الكلام ليس فلسطينيًا، أو حتى عربيًا، بل هو إيساياس بارينيادا، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كومبلوتنسي في مدريد، أحد أبرز المتخصصين في الشأن الفلسطيني، والحاصل على درجة الدكتوراة بأطروحة عن فلسطيني المناطق المحتلة في 1948. وهذا الكلام لم ينشر في دورية مجهولة، لكنه مقطع من دراسة طويلة نشرها في مارس/آذار الماضي "المعهد الملكي الكانو"، أحد أبرز مراكز الدراسات في إسبانيا، من النوع الذي يطلقون عليه Think Tanks.
كان من الصعب قبل عملية الإبادة الحالية أن يُنشر مثل هذا الطرح على مواقع مراكز الأبحاث التي تخاطب مباشرة صانعي القرار الأوروبي. بإمكاننا أن نرى هذا النشر الآن، وهذا الوعي بالقضية الفلسطينية، الذي بدأ ينتشر بين قطاعات جديدة، باعتبارهما من مؤشرات البحث في جذور الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والبحث عن حلول حقيقية له.
لا يمكن تجاهل وجود أجيال أوروبية، خارج النخب الأكاديمية والثقافية، لا تحمل ذنب الهولوكوست تجاه اليهود مثلما كانت تشعر أجيال الآباء والأجداد. وهو ما يعني عدم استجابتها المستقبلية للعبة الابتزاز الإسرائيلية، التي تُترجم إلى مليارات اليوروهات المدفوعة لها كتعويضات، وتُترجم كذلك في صورة دعم سياسي غير مشروط.
هذه الأجيال الجديدة هي من شكلت الجسم الأساسي لحركات الاحتجاج في الجامعات الأوروبية والأمريكية وخارجها خلال الأشهر الأخيرة، ضد عملية الإبادة، وتضامنًا مع الشعب الفلسطيني. وبينما تبدأ في رؤية إسرائيل كدولة منبوذة تمارس التطهير العرقي، رفعت في مواجهتها شعار "من النهر إلى البحر"، الذي تحول لشعار عالمي.
لا أعلم أول من ألصق هذا الشعار، في مخيلة الكثيرين، بحركة حماس خلال العقود الثلاثة الأخيرة، باعتباره شعارًا يهدف لإبادة اليهود ومحو دولتهم. لكن المؤسف حقيقة هو أن كثيرًا من العرب يجهلون أصل هذا الشعار، الذي تبنته منظمة التحرير عند تأسيسها عام 1964، وكان متشكلًا قبل وجودها، ليعبِّر عن موقف اليسار الفلسطيني والعربي، الذي رفض قرار التقسيم، وطرح في مواجهته مشروع دولة واحدة، من النهر إلى البحر، تضم شعبين دون تمييز بينهما.
كان ذلك يعني وقتها رفض جوهر مشروعين نقيضين؛ مشروع الدولة القومية العربية بشكله الاستبدادي، ومشروع دولة إسرائيل العنصري والعدواني المبني على النقاء اليهودي.
فك ارتباط سلطوي لصالح الارتباط الشعبي
تحدثت في المقال السابق عن فك ارتباط منظمة التحرير الفلسطينية، التي ينتظر الكثيرون ولادتها، بسلطة الحكم الذاتي. وتحدثت بشكل عابر عن فك ارتباطها بالنظام العربي الاستبدادي. فمنظمة جديدة لا يمكنها أن تبحث مثل القديمة عن أطراف سلطوية عربية للتحالف معها، فتتغير التحالفات بناء على المستجدات، متنقلة من النقيض للنقيض، مثلما كان تاريخ المنظمة القديمة، دون نفي إنجازاتها الهامة.
لكن، إن ظهرت المنظمة الجديدة، أيًا كان اسمها، كتعبير حقيقي عن جموع الشعب الفلسطيني، فلا يمكنها التنازل عن بعدها العربي الشعبي الضروري، والطبيعي. فجوهر الصراع بالأساس هو بين هذه القاعدة الاستعمارية الاستيطانية الغربية في الشرق، وشعوب الشرق.
وإن كانت المنظمة ديمقراطية حقيقة، فلا يمكن لها أن ترضى بشعارات قديمة، مثل شعار "نرضى بما ترضاه منظمة التحرير"، أو "نرضى بما ترضاه المقاومة". فهي شعارات تنفي الشعب الفلسطيني، وتهمشه، وتستبدل به مؤسسات، بحجة تعبيرها عنه. وهو المنطق نفسه الذي يحاول البعض تكريسه اليوم، بأن يتناول حديثهم أطرافًا؛ إسرائيل، حماس، سلطة الحكم الذاتي، أنظمة عربية... إلخ. متجاهلًا القوة الأساسية الحاسمة وكأنها خارج المعادلة؛ الشعب الفلسطيني نفسه.
بدأت هذه السلسلة بالحديث عن إيلان بابيه، وأنهيها بإشارة أخيرة لأطروحته، وتحديدًا إدراكه أن دولة واحدة في فلسطين، تضم الجميع، وليست دولة دينية، أو ما سمّيتها في هذه السلسلة "الدولة الديمقراطية العلمانية"، سيكون لها تأثير إيجابي بالغ في كل المنطقة والعالم العربي.
هذا التأثير سيثير عداء كل أنظمة المنطقة لمشروع النضال من أجل هذه الدولة، لتناقضها معه. لكنه، وعلى الجانب الآخر، من الممكن ليس فقط أن يثير التضامن الشعبي العربي معه، بل أن يجعله أيضًا ظهيره الحقيقي، مثلما لم يكن أبدًا مع منظمة التحرير الفلسطينية القديمة، حتى في أفضل أوقات صعودها، بين معركة الكرامة 1968 والخروج من بيروت 1982. فمعذرة، وجود عشرات أو مئات من المقاتلين العرب في أحراش الأردن، أو في معسكرات بيروت وجنوب لبنان بعد الخروج من الأردن، ومثقفين عاملين في بعض مؤسسات ومجلات بعض المنظمات الفلسطينية، لم يعنِ امتدادًا عربيًا للثورة الفلسطينية.
الحل الحقيقي لقضية الشعب الفلسطيني لن يأتي بالتفاوض مع إسرائيل لأنه ينفيها بشكلها الحالي
هذا البعد العربي الحتمي هو ما جعلني أكتب عدة مرات بضمير الجمع. وأعود الآن لأقول إن هناك ما يمكن تسميته دون مبالغة بـ"حلمنا الفلسطيني". جوهره هو تلك الدولة التي لا يمكن لها أن تتحقق سوى بأن تضع أمامها أُسسًا تخلى عنها عرفات منذ اليوم الأول لمساره السلمي الذي أنتج الكوارث على شعبه والمنطقة، وهي حق العودة والتعويض لكل من طُردوا أو اضطروا للخروج من بيوتهم منذ 1948 وحتى الآن، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بكل أطيافه، وأينما وجد، وتصفية كل المستوطنات، ووضع قضية القدس كقضية محورية غير قابلة للمساومة.
لا ينفي هذا التصور طريق التفاوض على حل الدولتين كحل مرحلي، وليس نهائيًا. والأكاديمي إيساياس بارينيادا، الذي استعنت بفقرة من دراسته في بداية المقال، ممن يطرحون هذا التصور، أن الحل الدائم والعادل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يتطلب أكثر بكثير من دولتين، حتى وإن كانتا مستقرتين، فلا بد من حل كل المسائل العالقة. وأرى أن من ضمن "المسائل العالقة" طبيعة وهوية دولة إسرائيل الاستيطانية والعنصرية والعدوانية. وهو ما يدفع باتجاه الأسئلة الجادة التي انفتحت بعد السابع من أكتوبر، وستتطور وتتعمق لسنوات مقبلة؛ هل تتغير إسرائيل؟! وكيف توجد فلسطين الجديدة؟!
المسارات الميتة لا تعود من القبور
التفاوض المقصود لا يتم بطريقة عرفات، الذاهب للتفاوض في وقت الضعف المطلق، بعد مغامرته البائسة بالرهان على صدام حسين في حرب الخليج وخسارة حلفائه، ليقدم لإسرائيل ما كانت تبحث عنه.
فبعد أن بدأ مسار التفاوض المتسم بجدية نسبية وببعض الضمانات الدولية في مدريد 1991، اكتشفت إسرائيل أن من تفاوضهم من قيادات الداخل الفلسطيني، حيدر عبد الشافي، وحنان عشراوي، وفيصل الحسيني، ومصطفى البرغوثي، أقوى من عرفات ومن منظمة التحرير التي اختصرها في ذاته. يستمدون قوتهم من زخم الانتفاضة الأولى ولجانها الشعبية واقتصادها الموازي. فتختار أن تفتح المسار السري في أوسلو مع الطرف الأضعف منهم؛ عرفات.
لم يكن هدف إسرائيل فقط إجهاض مسار مدريد، بل إجهاض أي إمكانية للتسوية، وأي إمكانية لهذا الزعم الساذج بحل الدولتين كحل نهائي، الذي أصبح أكثر صعوبة الآن، فعلى سبيل المثال ماذا ستفعل إسرائيل مع 750 ألف مستوطن في الضفة إذا أُقرَّ حل الدولتين؟!
انتهى مسار التفاوض الجاد وتوقف عام 2000، بعد أن استمر سبع سنوات منذ افتتاح مسار أوسلو. فهل من الممكن أن يتم إعادة إحياء نفس المسار بعد ربع قرن من موته؟! إنها مهمة مستحيلة. بل إن شرعية هذا المسار أسقطها الفلسطينيون في الانتفاضة الثانية، وأكدوا إسقاطهم لها في العديد من المحطات التالية، من بينها انتفاضة الشيخ جراح.
كما أسقطت إسرائيل المسار نفسه بمئات الإجراءات التي ضربت بها الاتفاقيات الموقعة مع عرفات، رغم هزليتها، من بينها تغيير الواقع الديموغرافي في الضفة بالمستوطنات، والجغرافي بجدران الفصل العنصري وتدمير الأراضي وسرقة المياه، وتغيير وضع القدس الشرقية. ليضاف إلى كل ذلك استحالة عملية سلام جديدة بعد "تروما" السابع من أكتوبر وما تلاها، ونتائجها، وأهمها أن غزة لم تعد مكانًا قابلًا للحياة حاليًا.
الحل الحقيقي لقضية الشعب الفلسطيني، هو ببساطة، ودون تلاعب المفكرين والمؤرخين ومحترفي السياسة، لا يمكن أن يتم بناء على مسار تفاوضي مع إسرائيل الحالية، ليس بسبب قياداتها اليمينية والإجرامية، بل لأن هذا الحل ينفي وجود إسرائيل بشكلها الحالي، ينهيها.
النقد الأسهل والأكثر مباشرة الممكن توجيهه لهذا المقال هو أنه "حالم". وهو نقد صحيح. إنه فعلًا مقال حالم. لكن هذا النقد ينفي ما هو أهم بكثير من المقال؛ حقيقة أن السياسة في جانبها غير الانتهازي لا تنفصل أبدًا عن الأحلام، وأحيانًا لا تنفصل عن المشاريع التي تبدو مستحيلة التحقق. فالمشروع الصهيوني نفسه في نهايات القرن التاسع عشر بدا حلمًا مستحيل التحقق. وحلم المساواة في أمريكا بين البيض والسود بدا أيضًا مستحيلًا في بداياته. وحلم أن يُصبح مانديلا، حين كان يُوصف عالميًا بالإرهابي، رئيسًا لجمهورية جنوب إفريقيا، كان من المستحيلات.
لذلك فعلينا أن نحلم بـ"فلسطين التي نريد"، لنستطيع الوصول لتصورات واقعية وبراجماتية لتحقيقها كما نحلم بها. فلم يكن مشروع دولة واحدة ديمقراطية وعلمانية لشعبين أقرب للواقعية والإمكانية مثل اليوم. ففي بداية ظهوره، حين صاغه اليسار الفلسطيني والعربي في 1947 رفضًا لقرار التقسيم، كانت إسرائيل في بدايتها، في فترة فتوتها وشبابها، وليس في فترة كهولتها وضعفها وانكشاف حقيقتها القبيحة على المستوى العالمي مثلما هي الآن.
يقول إدوارد سعيد "لا مستقبل لإسرائيل، في اعتقادي، ما لم تصبح جزءًا حقيقيًا من الشرق الأوسط، وليست القوة العسكرية القاهرة التي تحرك الآخرين، وتخضعهم لمشيئتها".
حين يقول إدوارد سعيد ذلك، فهو لا يقصد أن تصبح إسرائيل نظامًا شرق أوسطيًا مثل أنظمتنا القمعية والفاسدة والمتعاونة مع الاحتلال. بل أن تتوقف عن أن تكون أوروبا خارج أوروبا، وعن أن تكون دولة عسكرية وعدوانية، وأن تصبح ديمقراطية وعلمانية حقًا. وهو ما ينفي جوهر طبيعتها، ويفتح الطريق الحقيقي للعدالة ومن ثَمَّ السلام.
فلا سلام من دون العدالة للشعب الفلسطيني، أيًا كان موقعه.