يحكي إدوارد سعيد في كتابه أوسلو 2.. سلام بلا أرض عن استجداء ياسر عرفات (أبو عمار) للإسرائيليين عشية توقيعه لأحد اتفاقاته معهم، أن يحمل لقب "الرئيس"، وأن يكون بمقدوره وضع صورته على طوابع البريد، لكنهم لم يمنحوه هذه التفاصيل الشخصية الشكلية، فرضي عرفات، ووقّع صاغرًا.
تبدو هذه القصة نكتةً، لكنها ليست كذلك، بل جزء ضئيل جدًا من صورة عامة رسمها إدوارد سعيد، وغيره ممن نستطيع الثقة في معرفتهم ونزاهتهم الفكرية والأخلاقية، لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في بداياتها. الصورة التي تكرست بمرور السنوات، كسلطة متهافتة، وفاسدة، تعتمد على إرهاب وعزل المعارضين، وشرائهم أو تكميمهم، لتصبح نسخة كاريكاتيرية صغيرة من أسوأ الأنظمة العربية، تحمل كل سماتها، بما فيها التعاون مع الاحتلال.
إدوارد سعيد الذي يفضح بعض الجوانب المظلمة من سلطة عرفات ومن يحيطون به، وصولًا لاتهامهم بالفساد، بمن فيهم عرفات نفسه، كان أفضل من قدم أبو عمار دوليًا في الثمانينيات، حين كان الهدف المشترك هو تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية أزمة خروجها من بيروت، لتجدد نفسها، وليستعيد المجلس الوطني الفلسطيني زمام السلطة الجماعية، وليس العكس؛ أن تنحصر كل مؤسسات الثورة الفلسطينية في يد فرد واحد.
المفارقة التي ربما لا يعرفها كثيرون أن إدوارد سعيد هو من كتب البروفايل الأشهر عن أبو عمار في مجلة "إنترفيو"، ليقدمه للرأي العام الأمريكي الذي لم يكن يعرف سوى أنه "إرهابي"، وهو الذي دعم مشروع عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 1988، ليتخذ خطوات تاريخية بإعلان استقلال دولة فلسطين والاعتراف بإسرائيل.
لكنهما يفترقان مع بداية مسار أوسلو، للدرجة التي تدفع إدوارد سعيد ليعتبر "أن أحدًا لا يجرؤ على الجهر بالقول بأن السلطة الفلسطينية، في عمقها، تتسم بعض سمات المافيا، حيث يقوم عديد من رجال السلطة بعقد مختلف أنواع الصفقات، التي تعود بالنفع على الحلقة الضيقة من رجال عرفات و(خبرائه) وهو أمر يستبعد، بالضرورة، أصحاب الكفاءة والشرفاء". وللدرجة التي تجعل عرفات يصف كتاب غزة أريحا: سلام أمريكي لإدوارد سعيد، أحد أهم المفكرين في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بأنه "كتاب تافه"، لمجرد أنه يعارضه.
قبلة حياة/طعنة موت
العجز والجهل والعشوائية والطموحات الشخصية قادوا سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية عبر ثلاثة عقود لانحدارات أكثر مأساوية من أيامها الأولى. فلم تعد مجرد هيئة إدارية تعمل بأوامر إسرائيل فيما هو إداري ومالي، بل فيما هو أمني أيضًا، لتصبح أداة الاحتلال في بعض مناطق الضفة، فتكبر وتمتد نكتة صورة الرئيس على الطابع، لتصبح بحجم سلطة الحكم الذاتي نفسها.
في عدة لحظات خلال الشهور الأخيرة، تذكرت مسألة طابع البريد، وهذه الصورة الواقعية الآنية لسلطة معزولة في كانتونات صغيرة، وتعيش بفضل حراسة بضعة آلاف من رجال الشرطة، وبفضل الرضا الإسرائيلي عنها. كانت إحدى هذه اللحظات، وأنا أشاهد مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا في مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل لرئيس الوزراء الفلسطيني ووزير الخارجية الإسباني، عشية اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية.
كم من القراء يعرف اسم رئيس الوزراء الفلسطيني؟! رغم متابعتي للشأن الفلسطيني، لم أكن أعرف ولو اسمه، واضطر كل الفلسطينيين الذين سألتهم إن كانوا يعرفون اسم رئيس وزرائهم، للاستعانة بجوجل. والآن، بينما أكتب هذا المقال، استعنت مثلهم بجوجل، ليذكرني باسمه الذي سأنساه غالبًا بعد أيام. اسمه محمد مصطفى.
أما فيما يخص محمود عباس، أبو مازن "الشهير"، فلم نتذكر سوى بعض مواقفه المضحكة، مثل صراخه في أحد الاجتماعات دون أن ينتبه إلى أن الجلسة مسجلة، بمسبات بذيئة للصين وروسيا وأمريكا و"كل العرب". وإذا كانت نكات عرفات مثيرة للضحك بداية التسعينيات من القرن الماضي، وغض كثيرون الطرف عنها بسبب تاريخه السابق لأوسلو، فإن نكات ورثته لا تثير مجرد ابتسامة.
منحت عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من إبادة للشعب الفلسطيني في غزة، وحملة القمع والقتل والاعتقال في الضفة الغربية، قبلة حياة مؤقتة لسلطة الحكم الذاتي، لكنها منحتها أيضًا طعنة موتها الأخير في نفس اللحظة.
تتمثل قبلة الحياة للسلطة، التي أضيفت صفة "الوطنية" لاسمها، مع حذف "الذاتي" لتكتسب بعض الأبهة، في تذكير بعض الأطراف الأوروبية والعربية بها، وكأنها طرف بديل لحماس "الإرهابية"، وذلك بعد أن أعادت بعض المقالات التحليلية التي تدعي الجدية إحياءها. وهو ما يتجسد في مشهد رئيس الوزراء، الذي لا يملك أي سلطة حقيقية على الشارع القابع فيه مكتبه، سواء في مواجهة الفلسطينيين، أو الإسرائيليين، متحدثًا في مقر المفوضية الأوروبية، بحيث نتصور أن السلطة المهترئة، والمفتقدة لأي شعبية، هي الطرف القادر على استلام زمام الأمور في غزة، والجلوس مستقبلًا على مائدة الحوار والتفاوض مع إسرائيل، لننجز جميعًا حلمنا الجميل بدولتين، وبسلام شرق أوسطي.
أما طعنة الموت الأخيرة، فهي تلك اللعنة التي حلت عليها في فصلين متتاليين؛ تجسدت لعنة الفصل الأول بمقارنتها بحماس القادرة على الفعل وإيلام إسرائيل. وتبدّت لعنة الفصل الثاني في أن السلطة لم تفعل أي شيء تجاه عملية الإبادة التي يتعرض لها شعبها. وهو ما كان متوقعًا، مكتفية بأن تكون طرفًا يشاهد صراعًا لا يخصه، بين الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى.
فخ ما يسمى بأسئلة اليوم التالي
افتتاح هذا المقال بسيرة أوسلو وعرفات وإدوارد سعيد، هو عودة سريعة لتلك اللحظة الفارقة؛ لحظة بداية الكارثة التي يحاول الكثيرون تجاهلها في زمننا هذا، سواء في معرض هجومهم على حماس وتصويرها وكأنها داعش، أو في معرض حديثهم "الموضوعي" عن سلطة الحكم الذاتي التي نتجت عن مسار أوسلو، وكأنها طرف موازٍ، أو مساوٍ، أو بديل لحماس وفصائل المقاومة.
تُستدعى سلطة الحكم الذاتي الآن بحجة وجود فراغ ينبغي ملأه، في عملية تفاوضية مستقبلية بنفس شروط أوسلو. بينما الفراغ الحقيقي الذي علينا التفكير في كيفية ملئه، هو فراغ القيادة الموحدة للشعب الفلسطيني، ومشروع الكيان البديل عن دولة إسرائيل بشكلها الحالي، والمعرضة لأول مرة في تاريخها لأخطار حقيقية. وهو ما يفرض أهمية سؤال السلطة والمقاومة الآن، السؤال عن القوى السياسية الفلسطينية المؤهلة لاستثمار اللحظة، أو استثمار الشروخ الكبيرة في الجدار/ إسرائيل المشار إليها في المقالات السابقة.
أبدو وكأنني أتجاهل الجملة "الموضة"؛ "أسئلة اليوم التالي". لكن المسألة أبسط من التجاهل، فلا أحد يملك إجابة عما يسمونها أسئلة اليوم التالي. فحتى الرؤساء والقادة الإقليميون والدوليون الذين اجتمعوا في عمان هذا الشهر لبحث إعمار غزة ومساعدتها، لا يعلمون كيف سيتم هذا الإعمار، ولا يملكون القدرة على إدخال شاحنة مساعدات واحدة دون أن تمنحهم إسرائيل الإذن. بل إن إسرائيل نفسها لا تملك إجابة عن سؤال اليوم التالي، والاستقالات داخل الحكومة الإسرائيلية حدثت لغياب هذه الإجابة نفسها.
كان بإمكان سلطة الحكم الذاتي أن تقدم إجابات أولية لأسئلة اليوم التالي، أبسطها على سبيل المثال الإعلان عن فك الارتباط الأمني بإسرائيل، وصولًا لسحب اعترافها القديم بإسرائيل، على الأقل كرد فعل على تصريحات نتنياهو وحكومته بأن الدولة الفلسطينية ستكون "إرهابية بطبيعتها"، بالتالي لا يمكن السماح بقيامها، وليس احتجاجًا على الإبادة، أو على هجمات الجيش الإسرائيلي اليومية على مدن وقرى ومخيمات الضفة.
هاتان الخطوتان كانتا ستُسهمان في أن نعرف بعض ملامح "اليوم التالي". لكن السلطة لم تقم بهما لأنها ولدت مقصوصة الريش. وما بين قبلة الحياة وطعنة الموت، تجلس سلطة أبو مازن على مقاعد المتفرجين في القاعة المظلمة، تشاهد فيلم الدم الطويل على أمل أن تُستدعى للعب أي دور في أي لحظة، ولو دور الكومبارس.
ما يعرفه الكثيرون من متابعي الشأن الفلسطيني أن مسار التسوية السلمية القديم بالشروط الإسرائيلية والأمريكية انتهى وللأبد. وأن أي مسار جديد غير ممكن قبل سنوات طويلة بعد كل هذا الدم والدمار. وأن لا وجود لأطراف قادرة على الجلوس لمائدة التفاوض. والفاعلون الأساسيون اليوم؛ حماس وقوى المقاومة، غير مقبولين كطرف على المستوى الدولي، ولن يقبلوا سوى بالتفاوض على حل حقيقي للقضية الفلسطينية. والفاعل الآخر، إسرائيل، لا تريد بطبيعتها، ولم ترد أبدًا، أن تتفاوض بجدية من أجل حل حقيقي.
لذلك لن يتلقى أبو مازن أو رئيس وزرائه أي مكالمات ذات قيمة. ويبدو أنهما يعلمان ذلك جيدًا، لكنهما لم يتخليا عن حلم أن تسفر الإبادة عن إنهاء وجود حماس، ليتسلما قطاع غزة. وإن كانت الأمنيات تتبخر يومًا بعد آخر. والمقتل الحقيقي لهذه الأمنيات، ولأسئلة اليوم التالي، هي تجاهلها للعنصر الحاسم الذي لا تضعه في الحسبان؛ الشعب الفلسطيني وما يريده. فيما عدا إسرائيل، التي يبدو أنها لا تتجاهله كعامل حاسم، بل تراه جيدًا فتحاول إنهاء وجوده، أو على الأقل إنهاكه للدرجة القصوى.
يصعب نفي حماس عن أي معادلة مستقبلية تخص الفلسطينيين، ناهيك عن القضاء عليها، حتى لو مُنيت بهزيمة عسكرية واضحة في غزة. وهناك قوى فلسطينية غيرها، متعددة التوجهات والتصورات الفكرية، تعي أن إنهاء وجود حماس ليس من مصلحتها، بما فيها قطاعات من حركة فتح، خارج كتل أبو مازن ودحلان، من غير الراضين عن مجمل مسار أوسلو، ويعرفون جيدًا ما جلبه من كوارث على الشعب الفلسطيني.
لا مفر إذًا من إعادة إحياء وتجديد منظمة التحرير الفلسطينية، أو بناء كيان جديد يضم الجميع، بتصور واقعي، وليس ذلك الانهزامي المدمر الذي سمَّاه عرفات بالواقعي. تصور يعيد طرح مجمل حقوق الشعب الفلسطيني تاريخيًا، ويضعها في المقدمة. والأهم، أن يعيد التوحيد السياسي لقطاعات الشعب الفلسطيني الأربعة: في غزة، والضفة، وداخل دولة إسرائيل، وفي الشتات. وهو ما يشترط فك ارتباط المنظمة الجديدة بالأنظمة العربية، فلا تكون تابعة لبعضها، مثلما كانت القديمة.