كان وصفُ رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي مهمة قواته في غزة بـ"المهمة السيزيفية"، التعبيرَ الأوضح والأدق للورطة التي تحيط بجيش الاحتلال من كلِّ جانب؛ فإصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على الاستمرار في الحرب حتى "تحقيق النصر المطلق"، وعرقلته لكل جولات التفاوض، ووضعه تصورات غير قابلة للتحقق لما يسمى "اليوم التالي"، حشر إسرائيل حكومةً وجيشًا في الزاوية.
هاليفي، وهو المسؤول الأول عن عمليات جيش الاحتلال والأكثر دراية بوضع قواته وما يلحق بها من خسائر، وجَّه خلال مشاورات أمنية أجريت قبل أسبوع انتقادًا حادًا لحكومته بسبب فشلها في تطوير وإعلان ما يسمى "خطة اليوم التالي" في غزة، ومن سيحكم القطاع في مرحلة ما بعد الحرب، "نعمل حاليًا في جباليا مرة أخرى، وطالما لا يوجد تصور سياسي للتوصل لهيئة حكم في القطاع غير حماس، فإنه سيتعين علينا العمل مرارًا وتكرارًا في أماكن أخرى لتفكيك البنية التحتية للحركة".
ووصف رئيس أركان جيش الاحتلال مهمة قواته في القطاع بأنها ستكون "سيزيفية"، نسبة إلى أسطورة سيزيف الإغريقية، التي تحكي قصة ذلك الرجل الذي أغضب آلهة الأولمب فكُتب عليه الشقاء الأبدي، يصعد الجبل حاملًا صخرة كبيرة وما أن يقترب من القمة حتى تتدحرج منه إلى الوادي ليعود ويحملها مجددًا، ويظل هكذا إلى الأبد.
عسكريون ينتابهم القلق
وعلى خُطى هاليفي، دعا كبار قادة جيش الاحتلال القادة السياسيين إلى اتخاذ قرارات وصياغة استراتيجيات واضحة، فيما يخص تلك المعركة، التي عرَّضت أرواح الجنود الإسرائيليين إلى الخطر.
حالة السخط التي انتابت المستوى العسكري من سوء أداء المستوى السياسي، عبر عنها قادة عسكريون حاليون وسابقون، أجمعوا على أن نتنياهو ورفاقه في الحكومة فشلوا في تطوير وإعلان رؤية متكاملة وواضحة لـ"اليوم التالي".
واتهم هؤلاء حكومتهم بتسهيل مهمة حماس وفصائل المقاومة في إعادة بناء أنفسهم في المناطق التي من المفترض أنه جرى "تطهيرها"، وهو ما فاقم من صعوبة القتال وأشعر القوات بالإحباط، في ظل ما تواجهه مفاوضات الهدنة من طريق مسدود، حسب صحيفة نيويورك تايمز.
لا تملك إسرائيل سوى القبول بما عُرض عليها قبل أسبوعين والانسحاب من غزة مدحورة
انتقادات قادة جيش الاحتلال الحادة لأداء حكومتهم، تعكس اتساع الفجوة بين المستويين العسكري والسياسي، وهو ما قد يطور الأزمة لتنتقل من مرحلة الإحباط والتململ إلى حالة تمرد، لاحت بشائره في الأفق بعد إعلان عدد من جنود الاحتياط رفضهم للخدمة في جبهة غزة، واتهموا حكومتهم بتسليمهم كأهداف سهلة لهؤلاء "الأشباح" الذين يخرجون من الأنفاق والركام.
تَحوَّل جنود الاحتلال في جبهة غزة إلى مجموعة من "الزومبي"، الذين لا يعرفون ماذا يفعلون وإلى أين يتجهون، وفق المحلل الاستخباراتي في صحيفة "هآرتس" العبرية، يوسي ميلمان، لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، الذي يرى أن جيش بلاده فقدَ بوصلته.
فتحتَ عنوان "لا نهاية تلوح في الأفق للعبة الإسرائيلية في غزة بعد عودة حماس إلى شمال القطاع"، سلطت واشنطن بوست الضوء على معركة جباليا، تلك المنطقة التي عاد إليها الجيش الإسرائيلي مجددًا، بعد إعلانه قبل خمسة شهور تفكيك كتائب حماس هناك، إلا أنه فوجئ بمقاومة شرسة وقتال عنيف، ما أثبت قدرة حماس على البقاء.
رئيس شعبة العمليات السابق في الجيش الإسرائيلي الجنرال متقاعد يسرائيل زيف قال للصحيفة إن عدم وجود خطط سياسية أدى إلى تبخر مكاسب الجيش السابقة، "إذا كنت تعمل دون أي حل دبلوماسي، فأنت في مستنقع.. إسرائيل عالقة داخل غزة".
الهزات المتتالية في صفوف جيش الاحتلال، نتيجة استبسال فصائل المقاومة والصمود العظيم للشعب الفلسطيني، دفعت وزير الدفاع يوآف جالانت إلى تحذير حكومته علنًا من "تآكل مكاسب الحرب"، لافتًا إلى أنَّ أمن بلاده على المدى الطويل أصبح على المحك، داعيًا نتنياهو إلى اتخاذ "قرارات صعبة" بشأن من سيحكم غزة بعد الحرب.
وفي خطاب متلفز الأربعاء الماضي، قال جالانت إنه لن يوافق على حُكم إسرائيل لقطاع غزة سواء كان "مدنيًا أو عسكريًا"، مشددًا على أن حُكم القطاع من قِبَل فلسطينيين غير منتمين إلى حماس هو ما يصب في مصلحة تل أبيب، مضيفًا: على نتنياهو أن يستبعد علنًا فكرة الحُكم الإسرائيلي المستمر في غزة.
جالانت أشار في خطابه إلى وجود "اتجاه خطير يتطور ويعزز فكرة الإدارة العسكرية والمدنية الإسرائيلية في قطاع غزة"، معتبرًا ذلك بديلًا خطيرًا بالنسبة لإسرائيل، "ستكلفنا دماءً نحن في غنى عنها، وستجلب أيضًا ثمنًا اقتصاديًا باهظًا".
نتنياهو من جهته ردَّ على جالانت ومن أيَّد دعوته سواء في الحكومة أو الجيش بقوله إن أي حديث عن اليوم التالي في ظل وجود حماس "لن يتجاوز كونه كلامًا فارغًا"، مؤكدًا على أنه ماضٍ في حربه حتى "القضاء على حماس".
وشدد رئيس الحكومة على أنه لن يقبَل بأن تتحول غزة إلى "حماسستان" ولا "فتحستان"، فيما دعا وزراؤه من اليمين المتشدد إلى إقالة جالانت الذي تجرأ وعرض الحكومة والجيش للحرج، وتبنى الرؤية الأمريكية التي أعلن عنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال زيارته إلى أوكرانيا عندما قال إنَّ بلاده لا تدعم حكم إسرائيل لغزة، كما لا تدعم حكم حماس، ولا يمكن أن يكون هناك فراغ تملؤه الفوضى، وأنَّ إسرائيل في حاجة إلى خُطة واضحة لليوم التالي في غزة.
غدًا يقرره الفلسطينيون وحدهم
مشهد الانقسام داخل المستوى السياسي، والغضب والتململ داخل المستوى العسكري على حكومة نتنياهو الذي يواجه احتجاجات شعبية ودعوات إلى إجراء انتخابات مبكرة، ما هو إلا أجزاء من مشهد اليوم الحالي، الذي لا تزال فيه إسرائيل غارقة في وحل غزة.
فإلى جانب ما يعتري الداخل الإسرائيلي من أزمات غير مسبوقة، تواجه دولة الاحتلال حالة غضب دولي يتصاعد يومًا بعد آخر، ما أدى إلى عزلتها وجعلها دولة منبوذة، يخشى حلفاؤها قبل خصومها الدفاع عنها وتبرير مواقفها في المحافل الدولية.
من جهة أخرى، يضغط التوتر والخلافات التي صعدت إلى السطح بين تل أبيب والقاهرة على حكومة نتنياهو التي تصر على إحراج الحكومة المصرية، ما دفع الأخيرة إلى تبني مواقف أكثر حدة من تلك التي تبنتها خلال الشهور الأولى للحرب، ما قد يعرِّض معاهدة كامب ديفيد إلى الانهيار، بحسب ما توقع الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحق بريك.
بريك قال في مقال نشرته صحيفة معاريف الأربعاء الماضي، إنَّ من شأن الاستمرار في الحرب أن يؤدي إلى انهيار معاهدة السلام مع مصر، وإسرائيل غير مستعدة لمواجهة الجيش المصري، وفي حال نشوب الحرب مع "دولة السلام" التي لم تنصب ولو دبابة واحدة على حدودها منذ توقيع الاتفاقية، فلن يكون أمام الإسرائيليين "سوى الصلاة طلبًا لغوث الرب".
وأقر بريك بأنَّ بلاده قد خسرت الحرب بالفعل، وأنَّ حكومة نتنياهو تقود الشعب نحو كارثة لم يرَ مثلها من قبل، بما يشبه حالة "مسادا" أو "حصار مسعدة" حسب الرواية التاريخية الإسرائيلية، التي انتحر سكانها بعد أن طال الحصار عليهم.
مع كل تلك الظلال القاتمة التي تحيط بإسرائيل من كل جانب، لا يزال بعض الحكام العرب يتطوعون ويرتبون أوراق وخطط "اليوم التالي" مع شركاء وحلفاء حكومة نتنياهو الغارقة في وحل "اليوم الحالي"، ولا تملك إزاءه سوى الإقرار بما عُرض عليها قبل أسبوعين والانسحاب من غزة مدحورة.
تتسرب من حين إلى آخر أنباء عن قبول بعض هؤلاء العرب بالمشاركة في قوات حفظ الأمن في غزة بعد "القضاء على حماس"، ويرتب بعضهم أوراقه لضخ استثمارات في القطاع الذي سيتحول إلى مركز مالي وتجاري تحت سيطرة أمنية إسرائيلية، ويضع فريق ثالث عينه على شواطئ غزة التي وضع الأمريكان أقدامهم عليها حيث آبار الغاز المدفونة في أعماق المتوسط.
لن يكون "اليوم التالي" لتلك الحرب إلا فلسطينيًا خالصًا يرسمه الشعب الفلسطيني بصموده، ويخطط له المقاومون الذين أبلوا في الأيام الأخيرة خير بلاء، ولا عزاء للمهزومين والمنافقين.