يطول زمن الحرب، وهو ما لم نكن نتوقعه كمشاهدين ومؤيدين للقضية الفلسطينية. بنينا توقعاتنا على الاستثناء، على هذه اللمحة الخاطفة، عندما عبرت المقاومة الحدود وحلّقت بطائراتها الشراعية نحو أرض الميعاد. كانت بالنسبة لنا معجزة لا تخضع لقوانين أرضية.
تمنينا أن تكون هذه اللحظةُ الاستثنائيةُ أبديةً من قوة نفاذها وبراءتها، كما كنا نرجوها دائمًا. ولكن على الأرض، كانت المواجهة عنيفة ودموية من الطرفين؛ لتشكل صورة أخرى من صور الاستثناء في ممارسة العنف. ربما لأن أفراد المقاومة الذين عبروا لم يصدقوا أنهم أصبحوا داخل الأرض التي حُرموا منها، باغتتهم المفاجأة، فكان الفرح ممزوجًا، أحيانًا، بالانتقام التاريخي.
لا نزال حتى الآن، كمؤيدين للقضية، نتعلم من أخطائنا ومن أحلامنا المتجاوزة، ومن لحظات الفرح الطارئة التي كونت أفكارنا وعواطفنا. لا نزال حتى الآن نتعلم من تشاؤمنا ذي الوجه الواحد، ومن موضوعيتنا اللا موضوعية، طالما لا نملك حتى الآن منهجًا واضحًا للتفكير.
سنظل نتعلم من أخطائنا، طالما ليست هناك وصلة بين خيالنا وموضوعيتنا، وبين تفاؤلنا اللا نهائي وتشاؤمنا ذي الوجه الواحد. لا نزال نفكر بالقطعة، يغيب حضور الكل عندما نفكر في الجزء.
يدفعنا اليأس للتجاوز
يطول زمن الحرب وترتفع أعداد القتلى، ولا تشفع كل هذه الدماء والضحايا في تقليل انفجار الحرب القدرية، التي كان لا بد أن تحدث. ولا تشفع أيضًا هذه الدماء لتبرر الرأي الذي يشير بأصابع الاتهام والإدانة للمقاومة وخطئها التاريخي الذي أقدمت عليه بهذه المحاولة الانتحارية، التي جرَّت الشعب الفلسطيني إلى هذا المأزق التاريخي المتجدد.
رغمًا عنا جميعًا، كمؤيدين، يقفز سؤال الجدوى ليطاردنا، ويلقي بالمسؤولية على الجميع. ليس لإدانة المقاومة بالطبع ولكن قلوبنا وعقولنا مع من يقفون وراء هذا المباني المخربة، والذين ينتعون حاجياتهم من مكان لمكان فزعين من القنابل، ويرسمون مساراتهم فوق الأنقاض.
لم تعد الأرض خالية كما تتمناها إسرائيل لتعود بها إلى سيرتها الأولى، ولكنها مليئة بالأنقاض. ليست ترابًا، بل تاريخ في لحظة انهياره وإعادة تشكِّله. فهذا الفراغ المؤقت للأراضي التي هُجِّر أهلها، يسكنه حلم استثنائي موزع على طرفي الصراع.
هناك رأي يشير بهزيمة المقاومة، ويحمّلها أصحاب هذا الرأي سبب ما حدث من موت وإبادة كان يمكن تجنبها مرحليًا. لا أتفق مع هذا الرأي، فالهزيمة بالنسبة لأصحابه ابنة هذا الزمن الطويل الذي تنتصر فيه الموضوعية اللاموضوعية، ولا يعترف بأثر الاستثناء/الحلم في تغيير المعادلة.
ربما هذا الزمن/القاعدة برغم صدقه، ليس كافيًا لتفسير الحياة أو الاستمرار فيها، إنه يخلق منا موظفين في علاقتنا بالزمن. ربما كنا ننتظر، كمؤيدين للقضية، انتصارًا خاطفًا يضع شروطًا جديدة، ويلغي تشوهاتنا وتناقضاتنا الذاتية الناتجة من القراءات الخاطئة لمستقبل وماضي القضية، وتحولاتها في الزمن والضمير، ولمستقبلنا كشعوب تجري نحو حتفها.
قد يكون أحد الأسباب أن القضية الفلسطينية فاقت أي استقامة في النظر إليها. سبعون عامًا ولا تزال معلقة، كحلقة لم تكتمل من حلقات تاريخية مفتوحة النهايات. وأيضًا بسبب درجة اليأس الذي وصلت له القضية، فكل الطرق، من خارجها، أصبحت مسدودة وغير قابلة للسير فيها.
دفعنا هذا اليأس لتجاوزه باتجاه المعجزة، الحل الاستثنائي المؤقت والعارض بشكل ما. المشاعر عادة تسبق الموضوعية في تحليل الأحداث، ولكنها في النهاية تشكل استجابات ذواتنا وتمسكها بالأمل، لأننا كمشاهدين مؤيدين للقضية، نشكل قشرتها الخارجية، وليس قلبها الحي كأبنائها.
هل كانت الحرب قَدرًا حتميًا؟
يلوح من بعيد شبح إجابة في خيال المؤيدين للمقاومة ترضي ضميرهم: أن هناك قدرية في هذه الحرب التي لم يخترها أحد، واختارتها اللحظة التاريخية، لتعجِّل بحل أو إنهاء هذه الحلقة من حلقات التاريخ الحديث، على الأقل في منطقتنا. وأنها كانت آتية لا محالة، بعد هذا الوضع المأساوي الذي وصلت إليه غزة والضفة قبل الحرب. كانت تصفية القضية تجري في صمت، في زمن تكراري، ممل، ربما كان يشكل في جوهره صراع قوميات عابرة، تجاوزها التاريخ، في طورها الأخير.
طوال شهور الحرب وصباحاتها ومساءاتها، كنت أتنقل بين صفحات الأصدقاء الفلسطينيين على فيسبوك لأطالع ردود فعلهم على ما يحدث على الأرض: هل هناك إدانة لحماس؟ هل حماس هي المقاومة التي تمثلهم؟ هل كان الوضع قبل الحرب أفضل وبأي معنى؟
كنت أُحبط أحيانًا عندما أجد هجومًا على المقاومة بوصفها فصيلًا دينيًا، وليس بوصفها رمزًا مرحليًا مؤقتًا، منحه استثناء الحدث ورد الفعل معًا هذه المرتبة.
أجد نفسي متلبسًا بأن رأيي المؤيد للمقاومة، ومن يشبهونني فيه، بالرغم من فداحة الخسائر؛ يراهن فقط على التضحية والموت والزمن الآتي واكتمال التاريخ، أكثر من رهانه على الواقع المادي والزمن الحالي.
أدقق في وجوه المطرودين من بيوتهم، والكاميرات تلاحقهم: أقارب الموتى والشهداء، الرتل المصاحب لأي نقالة تسير مسرعة وملاءتها مبقعة بالدماء. في المصلين أمام صفوف الأكفان البيضاء. ربما تجاوزت مأساة كل هؤلاء علاقتنا النفعية بالقضية، وانقساماتنا وتناقضاتنا حولها، بل تجاوزت فكرة الإدانة نفسها. لأن المأساة جعلتهم يلمسون قلب العالم، والحقيقة، ويتجاوزون الانقسام الداخلي، وينظرون ببراءة ووضوح وتحدٍّ، في عين المعتدي مباشرة، أو ضمير العالم المنتظر خلف الكاميرات، ويوجهون له خطابهم الاستثنائي.
يطول زمن الحرب، ونبدأ في استيعاب جوانب القضية وتوابعها من جديد، بعيدًا عن نشوة البدايات الاستثنائية التي ملأنا بها، كمؤيدين للقضية، هذا الفراغ العدمي داخلنا، الخالي من الانتصار الفلسطيني، وأيضًا من الهزيمة.
أي بداية لحظة استثنائية هو استدعاء لزمن جديد من الذاكرة ومن مخزون الحلم الشخصي، للانتصار الخاطف والمؤقت للمقاومة، دون النظر إلى ردود فعل هذا الزمن وتحولاته وتواتر تفاعلاته حسب قوة هذا الاستثناء. فالبداية ليست نهاية، يتمدد هذا الزمن الذي عاش لحظة الاستثناء والتحول العنيف في قانونه المستقر التكراري، حتى يصل إلى لحظتنا هذه بعد أحد عشر شهرًا. وربما يتمدد أيضًا ليشمل المستقبل الذي لا نراه، ولكننا نستشرفه ونتوقع نتائجه.
البداية هي الأصدق، لأنها الاستثناء متخلصًا من الحسابات. لا سابق أو تالٍ لها، لحظة معلقة في الزمن، خالية من أي سلطة أو قانون، هي الزمن الحقيقي الاستثنائي، غير المهزوم وغير التاريخي، ولكنه الذي يغيِّر من معادلة الزمن التكراري المُحتكَر حتى الآن من طرف الأنظمة الاستعمارية.
الزمن الاستثنائي هو الذي غيَّر المعادلة وحرَّك ترددات الزمن التكراري نحو مواجهات أعمق من الطرفين، فعاد الحلم للفلسطينيين، ولنا كمؤيدين سلبيين للقضية، حتى ولو مؤقتًا.
وأيضًا أيقظ هذا الزمن الاستثنائي الحلم الإسرائيلي المُضمر، أخرجه للنور أمام العالم، وأعاد خطط الماضي التآمرية باتجاه إبادة الشعب الفلسطيني، وتصفية القضية، وإخلاء الأرض. فكل ما تفعله إسرائيل الآن كان جزءًا من مشروعها الكبير، وجاءت لحظة السابع من أكتوبر لتُخرِج هذا الماضي الاستعماري شديد العنصرية.
الاستثناء يغير شكل العالم
تجاوزت حكومة إسرائيل في حربها على غزة أي استثناءات وخطوط حمراء كانت تحفظ بعضًا من كرامة هذا الشعب. فاحتلال غزة، والتهجير القسري والقتل العشوائي وممارسات الإبادة لتعود الأرض بيضاء خالية من الآخر الفلسطيني وتُرسم الخريطة من جديد فيتحول الاستثناء إلى قاعدة، كلها أمور تُعيد لإسرائيل وضع حلمها القديم، شديد العنصرية، موضع التنفيذ.
دولة إسرائيل شكل استثنائي من أشكال الاحتلال، تستمد قوتها من الاضطهاد والتضحية والعزلة، والتمسك بالماضي عبر إعادة إنتاج الحلم الديني الذي يمارس القوة بكل صنوفها، ويُحقِّر الآخر ويحتكره، ويسلبه الحق في كل شيء.
ربما هذه ليست ممارسات دول بالمعنى الحديث، ولكنها قوميات مؤقته عابرة، تلبس ثوب الدول مُمثلًا في الدولة اليهودية، وتواجه لحظة تاريخية مخالفة لها، تتعثر في طريقها بالأحجار التي خلَّفتها في طريق نموها وتوسعها الاستثنائي، لتعود وتصطدم بها.
تعود دولة إسرائيل لزمن العنصرية النقية، تتحد مع رمز مندثر للنقاء العرقي والشعوب التي اختارها الله.
الاستثناء يغيِّر شكل العالم وسياساته وتحالفاته، لذا هناك مقاومة دائمة له، لأنه يمنح الحلم للفلسطينيين بالعودة للوطن، وأيضًا هو الذي يحرمهم من هذا الحق بالنسبة لنظرة الطرف الآخر لهم.
استثناء مقابل استثناء، ولكن حتى داخل الاستثناء فهناك فوارق جوهرية، ما بين حلم باستعادة حق وأرض محتلة، وحلم آخر بإخفاء شعب من الوجود.
خلال حرب 7 اكتوبر، في تلك اللحظات الخاطفة التي تم فيها تغيير علاقات القوى وقانونها، ولو لمدة وجيزة كما يحدث في أزمنة الكرنفال، حيث تُعلَّق القوانين وتتغير أشكال السلطة وفق المفكر الروسي ميخائيل باختين. أو في سيادة مفهوم الاستثناء الذي يسود في حالات الطوارئ كما يشير الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين، الذي يتساءل عمَّن تؤول إليه السلطة والسيادة في تلك الحالات، وكيف يتم النظر للمواطن الذي أصبح مستباحًا، معلقًا بلا هوية، ولا قانون يحميه، ويمكن قتله باسم حالة الاستثناء نفسها.
ربما ينطبق مفهوم حالة الاستثناء/ الطوارئ، كما يشرحها أجامبين، على الشعب الفلسطيني بكامله منذ النكبة، الذي يعيش وضعًا استثنائيًا مفرغًا من القانون لأكثر من سبعين عامًا، يستباح موته في لحظة ممتدة تم فيها تعليق القانون، لتمارس عليه أوضاع حالات الطوارئ، من نفي للوجود، وممارسة كل أشكال التعذيب والتنكيل.