من بين تعليقات كثيرة لتفسير سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإصراره على إحراز نصر لن يتحقق على حركة حماس، كان تشبيهه بشخصية الأرنب باجز باني الشهيرة في أفلام الكارتون، وهو يركض سريعًا حتى يتخطى هوة سحيقة لبضع خطوات في الهواء، قبل أن تتضح له الحقيقة ويسقط سقوطًا مدويًا، هو الأفضل.
صحيح أنَّ نتنياهو لا يمتلك شيئًا من خفة ظل أرنبي المحبب الممسك بجزرته الشهيرة، لكنَّه يعرف أنَّ نهايته السياسية حلَّت عندما عبَر مقاتلو حماس والمقاومة الفلسطينية الحدود في هجومهم المذهل يوم السابع من أكتوبر، لتُطرح تساؤلات حقيقية حول توافر الأمان في الدولة التي نشأت بزعم توفير الحماية لـ"الشعب اليهودي" بعد الهولوكوست.
ومع ذلك، يرفض "بيبي ملك إسرائيل"، كما يحلو لأنصاره تسميته، الاستسلام والاعتراف بمسؤوليته المباشرة مع التحالف اليميني المتطرف الذي يقوده في هزيمة جيش بلاده، ويحاول استخدام كل مهاراته وحيله في مواجهة دعوات إقالته، مذكرًا شعبه بأنه الوحيد الذي تمكن على مدى عقود من مواجهة الضغوط الأمريكية والعربية من أجل إنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
استراتيجية خاسرة
ما يزيد من صدمة نتنياهو وأنصاره من اليمين المتطرف، أنه كان على وشك الاحتفال بانتصار استراتيجيته التي تبناها منذ توليه منصب رئاسة الوزراء لأول مرة عام 1996، بعد ثلاثة أعوام من توقيع اتفاق أوسلو، وروّج فيها لقدرته على تحقيق أمن إسرائيل والتطبيع مع العرب من دون تقديم تنازلات تُذكر للفلسطينيين.
ومع حالة الفوضى التي سادت المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، وجد نتنياهو فرصته السانحة للانفراد بالفلسطينيين والتوسع في تعميق الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين دون رادع.
ونجح نتنياهو في إقناع حلفائه في واشنطن بأنه الأقدر على "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين بدلًا من التوصل لحلٍّ دائمٍ ونهائيٍّ يتمثل في إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مجاورة لإسرائيل، مع القيام بعمليات عسكرية محدودة تستهدف القضاء على قدرات المقاومة كلما قامت بعمليات تستهدف أمن إسرائيل، ولو أدى ذلك لمقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين كما حدث في أعوام 2008 و2012 و2014.
المشكلة التي سوف تستمر بعد أن يسقط نتنياهو هي غضب المجتمع الإسرائيلي ورغبته في الانتقام
وجاء توقيع اتفاقيات إبراهيم برعاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب دون ربطها بانسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، كما تنص مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية عام 2002، لتعزز شعور نتنياهو بالنجاح في تطبيق شعاره المضاد "السلام مقابل السلام"، حتى جاء خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، الذي اعتبر فيه القضية الفلسطينية مجرد واحدة من قضايا عدة مطروحة للنقاش بين إسرائيل والدول العربية التي قبلت تطبيع العلاقات معها.
وكانت الجائزة الكبرى التي ينتظرها نتنياهو أن تكتمل حلقة التطبيع بإعلان إقامة علاقات دبلوماسية مع السعودية، برعاية إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الديمقراطية الحالية. ليقتل أمل الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
قبل هجوم السابع من أكتوبر، لم يكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يربط التطبيع بإقامة دولة فلسطينية، ولكن بالتوصل لاتفاق أمني مع الولايات المتحدة يسمح للرياض بامتلاك برنامج نووي سلمي وكذلك تزويدها بأسلحة متطورة في مواجهة الخطر الأقرب لأمنها؛ إيران، مع الاكتفاء بالمطالبة بتحسين ظروف معيشة الفلسطينيين في الأراضي الخاضعة للاحتلال.
متى يُقر بيبي بهزيمته؟
ولكنَّ ذلك كله انتهى الآن، بعد أن أعادت المقاومة تذكير كلّ الأطراف بمركزية القضية الفلسطينية وبالواقع المرير الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ 76 عامًا، وأنَّ إنهاء الاحتلال شرط لازم لتحقيق الأمان، وأنَّ عمليات المقاومة ستتكرر بأشكال مختلفة، حتى لو قتل جيش الاحتلال عشرات الآلاف في جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها.
لا يزال نتنياهو يقاوم ويركض في الهواء على طريقة "باجز باني" ويتوهم أنه قادر على إعادة الأوضاع إلى ما قبل السابع من أكتوبر وكأنَّ شيئًا لم يحدث.
أما المشكلة التي سوف تستمر بعد أن يسقط نتنياهو وينكسر عنقه وينتهي الأمر به في السجن إذا أُدين بتهم الفساد، فهي غضب المجتمع الإسرائيلي ورغبته في الانتقام، الذي لن يأتي في الغالب برجل سلام يقر بالسبب الحقيقي وراء ذلك الهجوم المتمثل في استمرار الاحتلال العنصري لأرض فلسطين.
وفي ظل حالة الضعف التي يمر بها النظام العربي الرسمي، والتفكك العملي لعدة دول عربية رئيسية مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان، وانشغال مصر بمشاكلها الاقتصادية الداخلية الحادة، سنجد أنفسنا أمام عودة الاحتلال الإسرائيلي لغزة، أو على الأقل التعامل معها بنفس طريقة التعامل مع المناطق الخاضعة نظريًا للسلطة الفلسطينية، والعودة لمنطق "إدارة الصراع" بدلًا من حله نهائيًا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
هذا يعني أن ننتظر الهجوم القادم لحركات المقاومة الفلسطينية أيًا كان اسمها، لأنَّ المقاومة الفلسطينية مستمرة ما استمرَّ الاحتلال.