سيبقى استخدام العدو الصهيوني أجهزة البيجر واللاسلكي لقتل وإصابة الآلاف من قياديي ومقاتلي حزب الله اللبناني بالتزامن في أنحاء لبنان، الأسبوع الماضي، علامة فاصلة. ليس فقط في تاريخ المواجهة الممتدة بين الطرفين منذ أكثر من أربعين عامًا، بل أيضًا في أساليب استهداف الخصوم على وجه العموم، سواء من قِبَلِ أجهزة الاستخبارات، أو الجماعات الإرهابية وعصابات القتل والإجرام.
الجديد لا يكمن في تفخيخ أجهزة ومعدات الاتصال الإلكترونية بغرض القتل، فهذا الأسلوب استُخدِم منذ زمن طويل، وكانت إسرائيل سبَّاقة في استخدامه بفضل تقدمها التكنولوجي الهائل بالتعاون مع الولايات المتحدة وحلفاء غربيين آخرين، عندما اغتالت عام 1996 يحيى عياش، أول قائد لجناح حماس المسلح، بعبوة مزروعة في هاتف.
ولكن ما يحدث اليوم للمرة الأولى، هو تفخيخ هذا العدد الكبير من أجهزة الاتصال القديمة التي تعود إلى حقبة ما قبل الموبايلات، بكمية محدودة جدًا من المتفجرات لا تتجاوز جرامين أو ثلاثة، بالتزامن، بعد عملية استخباراتية معقدة امتدت لسنوات. بدأت مع إقناع قيادات حزب الله باستخدام البيجر بدلًا من الموبايل، ثم التعاقد على الصفقة مع شركة بعينها مرورًا بتصنيعها في مكان مجهول حتى الآن، ثم إدخالها إلى لبنان واجتيازها عدة اختبارات فشلت في اكتشاف ما تحتويه من متفجرات، بما في ذلك السفر بها من خلال مطارات، وفقًا للتقارير الصحفية الأمريكية.
وفي ضوء عدم اعتراف إسرائيل رسميًا بمسؤوليتها عن العملية، ستبقى تفاصيل تنفيذها غامضة ومجالًا للتكهنات والتسريبات. لكن المؤكد أن دولة الاحتلال اتخذت قرارًا حاسمًا بإعلان امتلاكها هذه التكنولوجيا المتطورة، وسربت عبر وسائل إعلامها تهديدات مسؤولين مُجهّلين بأن ما خفي أعظم، وهناك المزيد من المفاجآت التي ستكشفها في الوقت المناسب، بفضل تقدمها التكنولوجي الذي تعززه منذ عقود.
التفوق الهائل لإسرائيل على جميع خصومها مجتمعين لن يلفت الأنظار عن فشلها الكبير
من ضمن التكهنات المنتشرة في وسائل الإعلام، أن إسرائيل سارعت إلى تنفيذ العملية بعد معلومات عن شكوك لدى حزب الله في أجهزة البيجر تهدد مؤامرتها بالانكشاف. ولكن هناك تحليلات أخرى ترجّح أن نتنياهو اختار هذا الطريق مع تصاعد المعارضة الداخلية له، في أعقاب اكتشاف جثث المختطفين الستة في أحد أنفاق رفح، وما رافقه من تزايد الضغوط الأمريكية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة حماس.
يرجح هذا الاحتمال، أنه لم تعد هناك الكثير من الأهداف لضربها في غزة بعد سنة كاملة من استهداف القطاع وقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني، وإعلان الجيش الإسرائيلي نهاية عملياته "إجمالًا" هناك. بالتالي، إذا أراد نتنياهو الاستمرار في منصبه والحفاظ على تحالف اليمين المتطرف الذي يقوده، فإن الخيار الأقرب هو التصعيد العسكري مع حزب الله بحجة إعادة سكان شمال فلسطين المحتلة إلى منازلهم التي هُجِّروا منها منذ السابع من أكتوبر.
عمليًا، بدأت إسرائيل بكسر قواعد الاشتباك المستقرة مع حزب الله في نهاية يوليو/تموز الماضي، عندما أقدمت على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية لـ"معاقبة" حزب الله على إطلاقه "جبهة المساندة" لحركة حماس في غزة. ثم واصلت التصعيد عبر تفجيرات البيجر واللاسلكي، التي تلاها استهداف اجتماع قادة فيلق الرضوان برئاسة إبراهيم عقيل في الضاحية الجنوبية أيضًا، في غارة قتلت كذلك نحو عشر مدنيين.
هذا الاختراق المفزع لأعلى مستويات القيادة العسكرية لحزب الله لم يكن الأول بعد اغتيال شكر وقبله صالح العاروري القيادي في حركة حماس في الضاحية الجنوبية مطلع العام. ولكن اللافت أنه جاء في أعقاب تفجيرات البيجر واللاسلكي؛ في وقت كان متوقعًا أن تصبح فيه تحركات عقيل وبقية قادة الحزب أكثر حذرًا.
وإذا أضفنا إلى هذا الاختراق، اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في منشأة تابعة للحرس الثورة الإيراني في قلب طهران، ومن قبلها عدة عمليات جريئة استخدمت فيها التكنولوجيا شديدة التطور، لاغتيال علماء ذريين إيرانيين لتعطيل البرنامج النووي الإيراني، وعمليات اغتيال مشابهة في دمشق، فيمكننا استنتاج أن عين إسرائيل ترى بوضوح أكثر مما ينبغي ليس فقط في لبنان بل أيضًا في إيران، الراعية الرسمية لمحور المقاومة.
لكن كل هذا التطور التكنولوجي الإسرائيلي الهائل والقدرة على توجيه ضربات شديدة الإيلام لمن يتمسك بخيار الكفاح المسلح ضدها، لن يقتل روح المقاومة والتمسك بإنهاء الاحتلال العنصري لأراضي فلسطين وبقية الأراضي العربية المحتلة. بلا مبالغة، ودون إنكار لمدى صعوبة مواجهة دولة الاحتلال، بتفوقها التكنولوجي وما تجده من دعم أمريكي وغربي منقطع النظير.
هذا هو الدرس الذي على إسرائيل أن تتعلمه من تجارب مقاومة الاستعمار حول العالم، وكان فيها المستعمِر دائمًا أقوى من السكان المحليين وأكثر تفوقًا، بل إنه أسس خطابه الاستعماري على هذه الحقيقة، مُدعيًّا أنه لم يأت لاستيطان الأرض أو نهب الموارد بل لتخليص السكان من الجهل وتعليمهم كيفية إدارة شؤونهم. في كل المرات هُزم المستعمِر الأقوى وانتهى الاحتلال، تقريبًا، باستثناء احتلال فلسطين.
والتعلم لا يكون من تجارب الآخرين فحسب. فرغم التفوق الهائل لإسرائيل على خصومها مجتمعين، وقدرتها على اختراقهم معلوماتيًا واستخباراتيًا، ونجاحها في توجيه ضربات موجعة لهم، فإن ذلك كله لن يلفت الأنظار عن الفشل الإسرائيلي الكبير، ليس فقط في تحقيق أيٍّ من أهداف الحرب التي أعلنها، بل أيضًا في منع العملية الجريئة في السابع من أكتوبر، التي ألحقت فيها مجموعات مقاومة متواضعة التسليح بالدولة العبرية أكبر خسائر بشرية منذ حرب 1973.
هذا الدرس الذي لم تتعلمه حكومة نتنياهو، ولا إدارة بايدن التي اكتفت بتعبيرها عن الاستياء من التصعيد الإسرائيلي، أدركته صحف أمريكية وقليل من العقلاء في إسرائيل، أشاروا إلى أن النجاح الاستخباراتي الذي حققه نتنياهو في بيروت شكَّل ضربة شديدة الإيلام لحزب الله، لا يعني أن وراءه استراتيجية طويلة المدى للتعامل مع فصائل المقاومة سواء في غزة أو لبنان.
للفلسطينيين منذ النكبة تجربة تؤكد قدرتهم دائمًا على ابتداع أشكال جديدة للمقاومة، المسلحة والسلمية، يؤكدون بها دائمًا تمسكهم بأرضهم، ورفضهم الخضوع لمحتلين أتوا من أصقاع الأرض لتحقيق أوهامهم الخاصة، دون أي اعتبار لحقوق السكان الأصليين، أو مبادئ القانون الدولي.
نعم الخسائر ليست بالهينة، بل هي صادمة ومربكة. ولكن المقاومة ستظل قادرة كذلك على إيلام العدو العنصري البغيض بأشكال جديدة ومبتكرة، ولن يكون ممكنًا القضاء عليها بضغطة زر.