قامت الدنيا ولم تقعد في أعقاب تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخيرة التي طالب فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتغيير وزراء حكومته المتطرفين ممن يرفضون حل الدولتين، مشيرًا بالاسم إلى وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير.
وبينما أكد بايدن، الذي بدأت علاقته مع نتنياهو قبل 51 سنةً بالتمام والكمال، أنَّ بإمكان إسرائيل الاعتماد على دعم أمريكي "لا يهتز"، عاد ليذكّر صديقه القديم بأنَّ العالم ليس الولايات المتحدة فقط، وأنَّ استمرار ما وصفه شخصيًا بـالقصف العشوائي للمدنيين في قطاع غزة سيؤدي إلى فقدان الدعم الأوروبي.
مجرد استخدام بايدن كلمة "عشوائي" لوصف القصف الذي يقوم به جيش الاحتلال على مدار الساعة في غزة تحوُّلٌ مهمٌ في الموقف الأمريكي الرسمي، مقارنة بدفاعه المستميت منذ بدء العدوان الإسرائيلي عمَّا يسميه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مرددًا أكاذيب المسؤولين الإسرائيليين بشأن اتخاذ حكومة الاحتلال ما تقدر عليه من إجراءات لحماية المدنيين، وتحميل حركة حماس مسؤولية قتلهم باعتبارها هي من يستخدمهم "دروعًا بشرية" في المستشفيات والمدارس والبيوت.
لم يُشِر بايدن في خطاباته الأخيرة، ولو بكلمة واحدة، إلى تفاصيل معاناة الفلسطينيين المرعبة، وما يرتكبه جيش الاحتلال من جرائم حرب، على رأسها منع الغذاء والماء والدواء والوقود من الوصول لنحو 2.2 مليون فلسطيني، أو إلى عدد الشهداء الكارثي الذين قتلتهم بدم بارد الطائرات والمدافع والبوارج الإسرائيلية، وفاق عددهم حتى الآن 19 ألفًا و453، 70% منهم من النساء والأطفال، بجانب ما يزيد عن 52 ألفًا و286 مصابًا.
خلافات بشأن التفاصيل
مقابل كلمات الحب والعشق التي انهال بها على إسرائيل، وتذكيره الدائم بأنَّه "صهيوني" حتى النخاع، وأنَّه اصطحب كلَّ أولاده فور بلوغهم الرابعة عشرة، وكذلك أحفاده، إلى داخاو أحد أكبر معسكرات النازية في ألمانيا، ليُرسخ داخلهم هول الجريمة التي ارتُكبت بحقِّ اليهود، تجاهل بايدن خطابًا أصدره في اليوم نفسه رؤساء ست أكبر منظمات أمريكية وعالمية تعمل في مجال الإغاثة الإنسانية، أكدوا فيه ما تقوله كلُّ دول العالم تقريبًا الآن، من أنَّ هجوم 7 أكتوبر، مهما بلغت درجة إدانته، لا يبرر قتل كلّ هذه الأعداد من الفلسطينيين، أو تدمير 60% من مباني غزة، وتحويل معظم سكان القطاع الضيق المحاصر إلى نازحين يركضون من مربع إلى آخر هربًا من قنابل الموت الغبية.
استبعاد فتح وحماس والجبهة الشعبية والفصائل التي لا يرضى عنها نتنياهو يعني عدم وجود دولة فلسطينية
عاد بايدن أيضًا إلى ترديد الاتهامات التي لم تثبت صحتها، بل ونفتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، بشأن "فظائع" مزعومة ارتكبتها حماس من قطع رؤوس رُضَّع وحرق مدنيين بعد تقييدهم واغتصاب نساء، وكرر مرتين وصف مقاتليها بـ"الحيوانات"، زاعمًا أن ما قاموا به يفوق ما رآه من إرهاب طيلة حياته. يتبنى الرئيس الأمريكي مصطلح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت بشأن الحيوانات، وكأنَّ قتل آلاف المدنيين عمل يقوم به إنسان.
يحصر بايدن إذن خلافه مع نتنياهو فيما يسمى بـ اليوم التالي للحرب، إذ يرفض نتنياهو والمتطرفون في حكومته أمثال بن غفير وسموتريتش حلَّ الدولتين، في الوقت الذي لم يتضح فيه موعد لنهاية الحرب من الأساس، وهو المطلب العاجل والملح الآن لإنقاذ أرواح المدنيين الفلسطينيين أولًا وقبل كلِّ شيء.
بعد يومين فقط من خطاب بايدن الذي أثار انتباه المراقبين باعتباره أوَّلَ خلاف علنيٍّ بين الطرفين، استقبل جالانت مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان في إسرائيل بالتأكيد على أنَّ القضاء على حماس هدفٌ سيستغرق "شهورًا" وليس أسابيع كما يتمنى المسؤولون الأمريكيون. بل إن بعض وسائل الإعلام الأمريكية رجحَّت التوصُّل لهدنة جديدة، تسمح بتبادل المزيد من الأسرى، بحلول عيد الميلاد الغربي في 25 ديسمبر/كانون الأول الحالي.
أما حلُّ الدولتين والرغبة في إحياء مفاوضات السلام الميتة منذ نحو عشر سنوات، فيبدوان هدفين بعيدي المنال ولا يتوقعهما أحد في المستقبل القريب، حتى وإن توقفت الحرب غدًا، في ضوء حجم الدمار الهائل وتحفز المجتمع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في أعقاب هجوم 7 أكتوبر.
وبينما تدعم إدارة بايدن تولِّي السلطة الفلسطينية مسؤولية القطاع بعد الحرب "بعد تنشيطها وإصلاحها"، بغض النظر عما تعنيه أساسًا بـ"التنشيط والإصلاح"، فإن نتنياهو يصر على إعادة احتلال غزة، قائلًا إنه لن يسمح بتحولها إلى "حماسستان" أو "فتحستان"، خوفًا من تكرار هجوم 7 أكتوبر.
ولكنَّ استبعاد فتح وحماس والجبهة الشعبية وبقية الفصائل التي لا يرضى عنها نتنياهو، يعني عمليًا عدم وجود أيِّ دولة فلسطينية، وهو الموقف الثابت لنتنياهو تاريخيًا.
تهذيب اليمين الإسرائيلي
في الغالب، كلُّ ما يتطلع له بايدن، الذي أعاد التأكيد في خطابه على أنَّه لو لم تكن هناك إسرائيل لوجب اختراعها؛ تغيير الحكومة المتطرفة الحالية التي اكتفى بوصفها تهذبًا وحبًا، بأنها "الأكثر محافظة في تاريخ إسرائيل".
إدارة بايدن ليست فقط متواطئة بل أيضًا شريكة في الإبادة لأنَّ الرئيس الأمريكي "يحب" إسرائيل
أما حديث الدولتين فهو مجرد قمة جبل الثلج لعلاقة متوترة منذ سنوات مع نتنياهو شخصيًا، وربما تكون إشارة لدفع الأحزاب المؤثرة في إسرائيل إلى التخلص من ملك إسرائيل العاري واستبدال آخر به، سيكون غالبًا واحدًا من بيني جانتس وزير الدفاع السابق وعضو حكومة الحرب الحالية، أو يائير لابيد زعيم المعارضة الذي فشل في الاحتفاظ برئاسة الوزراء العام الماضي.
ومثلما تتمكن إسرائيل من الضغط على الولايات المتحدة لتنفيذ مطالبها، فإنَّ للولايات المتحدة نفوذًا كبيرًا في الداخل الإسرائيلي، ولن تكون المرة الأولى التي تستخدم ذلك النفوذ للإتيان بحكومة إسرائيلية أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع واشنطن.
ولكن لا جانتس ولا لابيد سيتمكنان من الدفع نحو هدف حل الدولتين أو حتى إعادة السلطة الفلسطينية لغزة بالسرعة التي يتمناها المسؤولون الأمريكيون، الذين سيكون أقصى ما سيمكنهم القيام به هو استبعاد الوزراء الدواعش المتطرفين أمثال بن غفير وسموتيريتش ووزير التراث عميخاي إلياهو الذي دعا لاستخدام الأسلحة النووية لمحو غزة.
وليس من قبيل المصادفة بكل تأكيد أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ونظيره وزير الدفاع لويد أوستن يتحدثان هاتفيًا مع جانتس بشكل منفرد أكثر من حديثهما مع نتنياهو الذي سمم علاقته بالديمقراطيين منذ تورطه بالتدخل لإحباط مساعي التوصل لاتفاق نووي مع إيران عام 2015، عندما كان بايدن نائب الرئيس في إدارة أوباما، ومع عودته للبيت الأبيض رئيسًا عاد معه الكثير من المسؤولين الذين اشتبكوا مع نتنياهو في تلك الفترة في الخلاف بشأن إيران.
انتقادات بايدن لإسرائيل هي انتقادات الصهيوني المحب، تمامًا مثل كثير من الأمريكيين اليهود الصهاينة، الذين يوصفون بـ"الليبراليين"، وهم أقرب إلى الجناح الذي كان يدفع للتخلص من نتنياهو حتى قبل طوفان الأقصى، بسبب مشروع إصلاح القضاء، الذي هو في الواقع محاولة لترسيخ سيطرة الأحزاب اليمينية والصهيونية المتطرفة على إسرائيل، لكن بصبغة أكثر علمانية من ائتلاف نتنياهو الديني.
لذلك، فبعد يوم واحد فقط من تصريحات الرئيس الأمريكي، نفى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي أيَّ نية أمريكية لتقييد تزويد إسرائيل بما تطلبه من أسلحة، وإن خالف ذلك رغبة أعضاء بارزين في مجلسي الشيوخ والنواب، ليؤكد بذلك الحقيقة التي يعلمها الجميع الآن، خاصة بعد الفيتو الأمريكي الأخير في مجلس الأمن لعرقلة وقف إطلاق النار، وهي أنَّ إدارة بايدن ليست فقط متواطئة، بل أيضًا شريكة في إبادة الفلسطينيين، لأنَّ الرئيس الأمريكي "يحب" إسرائيل.