بعد هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر، لم يراودني شك في أنَّ انتقام العدو الصهيوني سيكون شرسًا. قارنت أعداد القتلى الإسرائيليين الذين اتخذهم جيش الاحتلال ذريعة لحروبه المتكررة ضد قطاع غزة منذ 2007 بأعداد الشهداء الفلسطينيين، ولم يكن من الصعب توقع أننا بصدد مذبحة.
لم يغب عن ذهني سؤال إذا كانت إسرائيل قَتلت في حرب 2014 ما يزيد عن ألفي فلسطيني ردًا على مقتل ثلاثة إسرائيليين، فكم سيكون عدد الشهداء الفلسطينيين ردًا على مقتل 1400 إسرائيلي في يوم واحد، وهو الرقم الذي أُعلن وقتها؟
كان الانتقام الشرس متوقعًا.
وجوه غير متوقعة للوحشية
ولكن مع دخول الحرب شهرها السابع، تجاوزت حدود الانتقام الإسرائيلي كلَّ ما يمكن وصفه وتخيله. لا يتعلق الأمر بعدد الشهداء الذي تجاوز 33 ألفًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، ولكن في تعمِّد إلحاق الدمار وجعل القطاع غير صالح للعيش، كما رأى وتابع العالم مؤخرًا في مأساة اقتحام وتدمير مستشفى الشفاء، وقتل مرضى وأطباء وتجريف الجثث المدفونة في باحات المستشفى ودهسها بالدبابات.
ارتكبت إسرائيل كل شيء، التقليدي والمفرط في إجرامه ودمويته، حتى بدا قتل الفلسطينيين بدم بارد وبعشوائية فجة تسلية لجنود الاحتلال الذين يتلذذون باستهداف الفلسطينيين العزل، حتى من يرفع الرايات البيضاء منهم أو ينتظر أكياس الدقيق.
سرت القشعريرة في جسدي وأنا أقرأ تقرير المجلة الإسرائيلية "972+" الذي كشف عن استخدام جيش الاحتلال برنامجًا للذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف التي سيتم تصفيتها بسبب الشك في ارتباطهم بحركة حماس، بعد تزويده بمعلومات عن كلِّ سكان القطاع الذين يفوق عددهم 2.3 مليون، وكيف أنهم يفضلون قتلهم في منازلهم لأنها تجعلهم أهدافًا أسهل، بغض النظر عن مقتل أسرهم من أطفال ونساء.
لا يوجد معنى للعنصرية البغيضة أكثر من رد الفعل الغربي بعد مقتل عمال الإغاثة البيض
ووفقًا للتقرير، فإنَّ هذا البرنامج حدد ما يقترب من أربعين ألف فلسطيني كأهداف، كثير منهم مقاتلون منخفضو الرتب (عساكر) ولم يمثلوا أهدافًا للقنابل في السابق. ولكن في الحرب الحالية، وضع جيش الاحتلال معدلًا لقتل المدنيين أمام كل مقاتل من حماس، وهو 1 مقابل عشرين.
أما إذا كان الهدف قيادة مهمة، فيُسمح بقتل مائة مدني مقابل تصفيته. كما أنه يتم دائمًا استخدام القنابل الغبية لتصفية مقاتلي حماس، لأن الذكية "مكلفة"، وفقًا لتصريحات مسؤول في الجيش الإسرائيلي تحدث للمجلة.
وفي ظل سريان روح الانتقام والرغبة في إلحاق أكبر خسارة ممكنة بحماس، قال تقرير المجلة الإسرائيلية التقدمية إن الضباط المسؤولين كانوا ينفذون على الفور ما يصل له برنامج الذكاء الاصطناعي المستخدم من أهداف، وبدون الوقت الكافي لمراجعة دقته، مكتفين بالتأكد من أنه ليس امرأة خلال عشرين ثانية ينفذون الأمر بعدها.
هذه هي درجة الاستهتار والاستهانة في التعامل مع أرواح الفلسطينيين البشر أصحاب الحقوق المتساوية، وفقًا للمواثيق الدولية، الذين لا يراهم صناع القرار في واشنطن وتل أبيب إلا أضرارًا جانبية.
متى يغضب العالم؟
مع ارتكابها كلّ هذه المجازر بحق الفلسطينيين، احتفظت إسرائيل بدعم وشراكة كاملين من إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن، التي تساهلت مع انتهاكها لكل القوانين والمعاهدات الدولية، بما في ذلك القوانين التي تمنع استهداف مقرات الأمم المتحدة والمستشفيات والمدارس والمدنيين.
وبعد أن امتنعت إدارة بايدن الشهر الماضي عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي طالب للمرة الأولى بوقف إطلاق النار، ثار غضب نتنياهو. فكانت المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة أول من تؤكد أنَّ القرار غير ملزم!
وبالفعل انتهى شهر رمضان المبارك ولم يُنفَّذ وقف إطلاق النار الفوري الذي دعا له القرار. كان هدف الامتناع، وفق مسؤولين أمريكيين، إبلاغ رسالة استياء أمريكية لإسرائيل، وليس التخلي عن دعمها.
ولكنَّ كلَّ هذا تغيَّر وانقلب العالم رأسًا على عقب، بعد الاستهداف المتعمد لقافلة "المطبخ المركزي العالمي"، مما أدى لمقتل ستة أجانب وفلسطيني.
يقول الإعلام الغربي إنَّ عدد الضحايا سبعة، ولكنَّ ستة منهم فقط هم من انتفض العالم من أجلهم، وأثار قتلهم استياء بايدن لدرجة تحذيره، وحلفائه المقربين في أوروبا، من أنَّ إسرائيل تجاوزت الحدود، وأن هذه الحرب يجب أن تنتهي فورًا، مع التلويح بالنظر في وقف تصدير السلاح وربما فرض عقوبات. وذلك لأن القتلى الستة من منظمة الإغاثة العالمية كانوا ثلاثة بريطانيين، وأمريكيًا-كنديًا، وأسترالية وبولنديًا.
لا يوجد معنى للعنصرية البغيضة وازدواجية المعايير أكثر من رد الفعل الغربي بعد مقتل عمال الإغاثة البيض الستة. هذه هي العنصرية التي تجعل حتى من تعلموا في الغرب وطالما دافعوا عن بناء علاقات تعاون معه، مثل كاتب هذه السطور، يشعرون بالدونية والغثيان.
لم أستطيع سوى أن أصرخ، كما آخرين، لقي 196 عامل إغاثة فلسطينيًا مصرعهم منذ بداية الحرب في قصف جيش الاحتلال، وقُتل أطباء وصحفيون وموظفون في الأمم المتحدة، قُتل ما يزيد عن 33 ألف فلسطيني، رضع وأطفال ونساء وكهول، ولكن ما حرَّك مشاعر السيد بايدن والسيد سوناك والسيد شولتس أن ستة غربيين قتلوا.
الرسالة لنا هنا: أنت إنسان فقط إذا كنت أبيض، عندها سنوبخ من يقتلك. عدا ذلك، يحق لإسرائيل، ضحية وحشيتنا وعنصريتنا طوال قرون، أن تقتلكم كما تشاء، وسنجد لها الأعذار. لستم بشرًا في عيوننا.