عندما ترشح باراك أوباما لرئاسة الولايات المتحدة عام 2008، كانت ديانة أبيه إحدى النقاط الرئيسية التي هاجمه بسببها اليمين الأمريكي العنصري، الذي أصرَّ على عدم السماح لمسلم بتولي هذا المنصب الأرفع في بلد غالبيته من المسيحيين، إلى جانب انتمائه لديانة ترسخت في العقلية الأمريكية كمرادف للإرهاب، خاصة في أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول، التي لم تكن جراحها اندملت بعد.
لم يصدق اليمين الأمريكي تأكيدات أوباما المتكررة أنه مسيحي، بعد أن قامت والدته الأمريكية البيضاء التي تولت تربيته بتعميده في كنيسة بروتستانتية. تمسك رموز اليمين في دعايتهم المضادة بالتركيز على ذكر اسمه كاملًا وكأنهم يحذرون من خطره؛ باراك "حسين" أوباما، مع التشديد على "حسين"، والإشارة إلى تشابهه مع اسم عدو لدود آخر؛ الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
أما الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي تجاوز الثمانين عامًا، فيحق له القول بكل أريحية إنه "صهيوني" منذ نشأته وتربطه علاقة لا تنفصم بإسرائيل. كما لا تنزعج آذان الأمريكيين عندما يستمعون لوزير خارجيتهم أنتوني بلينكن في مقدمة مؤتمره الصحفي مع رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو يقول "أنا أمامك هنا؛ ليس فقط بصفتي وزير خارجية الولايات المتحدة، ولكن أيضا كيهودي. جدي موريس بلينكن هرب من المذابح في روسيا. وحماي، صامويل بيسار، نجا من معسكرات الاعتقال النازية في أوشويتز وداتشاو وماجدنيك".
إبادة و"أخلاق" متشابهتان
وجود اليهود في الولايات المتحدة راسخ منذ نشأتها، ليست فقط كمجموعة تتعايش وتختلط مع المجموعات الأخرى في ذلك البلد/القارة، بل أيضًا بأبعاد عقائدية وثقافية في مجتمع غالبيته من المسيحيين باختلاف طوائفهم ودرجات دعمهم لإسرائيل. وبعد نشأة الأخيرة في 1948، قررت واشنطن أن تكون أكبر داعميها بعد أن ورثت العالم عن الإمبراطورية البريطانية، ورأت في ذلك الدعم فرصة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط الغني بالنفط.
لن تكتفي عصابة المتطرفين والإرهابيين التي تحكم إسرائيل من الانتقام إلا بقتل 30 أو 40 ألف فلسطيني
وترسخ في الثقافة الأمريكية وجود أوجه تشابه متعددة بين البلدين، بداية بظروف النشأة عندما بنت أقلية بيضاء في أمريكا، ويهودية في فلسطين، دولة قوية ومتقدمة علميًا وتكنولوجيًا من الصفر، في أجواء معادية من السكان المحليين، الذين أبادتهم وحولت من بقي إلى لاجئين. كما أن كلا البلدين يشتركان في تنوع أعراق سكانهما لتنصهر في وطن جديد، حتى لو بقيت السيطرة في يد الأقلية المؤسسة، سواء في الولايات المتحدة أو إسرائيل.
وبالتالي، عندما تتعرض إسرائيل لأي خطر، فلا يمكن توقع سوى الدعم الكامل غير المشروط حتى لو كانت على خطأ. وإن كان الاتحاد الأوروبي انضم في الحرب الأخيرة الخطيرة، التي بدأت في أعقاب هجوم حماس المذهل وغير المسبوق في 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلى جوقة العنصرية وفقدان البصر والبصيرة والإنسانية. لم يرَ الأوروبيون سوى الضحايا الإسرائيليين، وكأن الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل بدأ قبل عشرة أيام فقط، ولا يمتد طوال عقود عانى خلالها الفلسطينيون من كل أنواع القتل والإذلال والعنصرية على يد الاحتلال.
بلينكن، الذي طالب المجتمع الدولي بـ"الوضوح الأخلاقي"، قال في مؤتمره الصحفي أنه يقف بجوار نتنياهو "كزوج وأب لأطفال صغار. ومن المستحيل بالنسبة لي أن أنظر لصور العائلات التي قتلت، مثل الأم والأب وأطفالهما الثلاثة الصغار الذين قتلوا فيما كانوا يختبئون في منزلهم في كيبوتز نير اوز، من دون التفكير في أطفالي شخصيًا".
لكن أين كان هذا "الوضوح الأخلاقي" للسيد بلينكن وهو ينظر إلى صور عائلات فلسطينية أبيدت بأكملها في غزة ودير البلح وخان يونس، مع تساقط الصواريخ على مبانيهم لتحيلها إلى ركام يسحق عظامهم، ويخرج الآباء والأمهات حاملين أطفالهم الرضع أمواتًا غارقين في دمائهم؟ ما الذي كان يشعر به "من الناحية الأخلاقية والإنسانية" في كل جولات الحروب السابقة، عندما كانت تأتيه التقارير الرسمية عن آلاف القتلى الفلسطينيين، وبينهم مئات الأطفال والنساء، مقابل عشرات الإسرائيليين؟
بداية؛ لن يشعر بقلق كبير مع الاعتياد على حوادث قتل الفلسطينيين بصورة يومية. ربما سيشعر ببعض الاستياء من الأعداد الكبيرة للمدنيين القتلى، لكنه سرعان ما سيجد الأعذار ويتذكر معاناة والده وفراره من مذابح روسيا، والعذاب الذي تعرض له حماه في معسكرات الاعتقال النازية لليهود، وكل جمل الدعاية المتكررة عن وجود إسرائيل وسط محيط من الأعداء، وكونها الديمقراطية المتحضرة الوحيدة بين دول تقمع شعوبها وتمتلئ بالإرهابيين.
ونظرًا لضخامة أعداد القتلى من الإسرائيليين، والهزيمة المذلة التي ألحقتها بهم حماس، وهزَّت بشكل كبير صورة إسرائيل المتقدمة التي لا تقهر، استغرق الأمر أسبوعًا كاملًا ليبدأ المسؤولون الأمريكيون بالحديث، وعلى استحياء، عن ضرورة ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وعدم الإضرار بالمدنيين.
لم يصل الموقف الأوروبي الأمريكي بعد حتى إلى درجة المطالبة بوقف الحرب، لأن طفلتهم المدللة، إسرائيل، ما تزال غاضبة ولم تنتقم بما يكفي بعد. حتى الدعوة الدبلوماسية الرقيقة إلى "خفض التصعيد" ليس مسموحًا للدبلوماسيين الأمريكيين بترديدها.
الانتقام الأعمى
إذا طبقنا المعدلات السابقة لضحايا الجانبين في الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة منذ سيطرة حماس عليه في 2007، وبعد مقتل 1400 إسرائيليٍّ منذ بدء الحرب، فلن تكتفي عصابة المتطرفين والإرهابيين التي تحكم إسرائيل حاليًا من الانتقام إلا بقتل ثلاثين أو أربعين ألف فلسطيني، وتدمير بيوتهم وحيواتهم بالكامل.
ولا يكتفي الأمريكيون والأوربيون هنا بالصمت العنصري على هذه الأعداد المرعبة من القتلى الفلسطينيين، وعقاب من بقوا أحياء جماعيًا بقطع الماء والغذاء والوقود والكهرباء، بل يزيدون الطين بلة بالدخول في دائرة التآمر الإسرائيلي على مصر، ساعين للضغط على حكومتها لقبول دخول أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين إلى سيناء، بزعم الدواعي الإنسانية.
بحسابات العقل والمنطق والمبادئ الإنسانية والقانون الدولي، فالمخرج الوحيد هو وقف هذه الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل، وليس خلق أزمة تاريخية أخرى كبيرة بإجبار مئات ألوف الفلسطينيين على الرحيل إلى سيناء، وكأننا نعيش في كوكب آخر أو لدينا ذاكرة السمك ونسينا تجارب 1948 و1967، وتناسينا حقيقة أن فلسطينيًا واحدًا لم يعد إلى أرضه التي خرج منها.
عقود الاحتلال لم تقتل المقاومة، فآلمت إسرائيل التي اعتادت الإفلات من العقاب، لأن السيد رئيس أمريكا صهيوني
ستكون الحكومات الأمريكية والأوروبية واهمة لو ظنت أن الشعوب العربية، بل وغالبية شعوبهم أيضًا، ستقف صامتة وتقبل بكل هذا الكم من العنصرية المفرطة في التعامل مع دماء الشعب الفلسطيني، ليس في غزة فقط، بل والضفة الغربية والقدس المحتلة، حيث استغلت عصابات المستوطنين أجواء الحرب الحالية لمهاجمة قرى ومدن الفلسطينيين وقتل سكانها بدم بارد، بحماية جيش الاحتلال.
العالم تغير كثيرًا؛ لم نعد نعيش في أجواء 1948 و1967، أو حتى غزو لبنان في 1982، وتكفي الإشارة لأن جبهة غزة ليست هي الوحيدة الساخنة، بل هناك جبهات أخرى ملتهبة تنتظر إشارة الانفجار. صحيح أنَّ روسيا والصين لن تُقدما على تحريك حاملات الطائرات لإجبار إسرائيل على وقف الحرب، كما فعلت الولايات المتحدة بزعم ردع أي أطراف أخرى عن توسيع الصراع، ولكنَّ واشنطن تدرك جيدًا أنها لم تعد اللاعب الوحيد على الساحة الدولية، ولم يعد بمقدرتها إجبار الجميع على قبول إبادة الجيش الإسرائيلي الجماعية للفلسطينيين.
وإذا كان هناك من درس مستفاد من عملية حماس الأخيرة، فهو أن عقود الاحتلال الطويلة لم تقتل روح المقاومة، بل خلقت من الإصرار والعزيمة؛ ما يكفي لتوجيه هذه الضربة شديدة الإيلام بأبسط الإمكانيات لدولة اعتادت الغطرسة والقتل والإفلات من العقاب، وذلك لأن السيد رئيس أمريكا صهيوني، ووزير خارجيته يهودي نجت أسرته من معتقلات النازية.
نعم، تستطيع إسرائيل قتل الآلاف في غزة ودكَّ مبانيها كما تفعل كل مرة، ولكنها لن تتمكن من فرض نكبة جديدة وتهجير الفلسطينيين، كما لن تستطيع منع المقاومة الفلسطينية من البقاء وإلحاق الأذى، طالما بقي الاحتلال العنصري البغيض جاثمًا على صدورهم.