لا أحبُّ أفلام الرعب ولم أفهم يومًا لماذا يمكن أن يحبها أحد، وإن كنت قرأت مؤخرًا عنوان دراسة تقول إنها تساهم في تخفيف حدة القلق والتوتر. أنهارٌ من الدماء وطرق بشعة للقتل ورؤوس تقطع وعيون تفقع ووحوش تلتهم البشر بعد تكسير عظامهم وخلع أطرافهم وإخراج ما في بطونهم من أحشاء وأمعاء، والمعجبون بها يتلذذون بالفشار ثم يذهبون للنوم بهدوء بعد أن "خففوا من حدة القلق لديهم".
ولكن منذ انطلاق حرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني في غزة قبل شهر، أصبحت ملتصقًا بكرسيِّ مكتبي أشاهد على التليفزيون هذا الرعب الطويل الممتد، مع فارق أنه ليس فيلمًا بل واقعًا قاتلًا في ألمه، يعيشه أهل هذا القطاع المنكوب منذ سنوات طويلة.
مساء الجمعة، شاهدت فيديو رعب طازج لن يُتقن صنعه حتى أفضل مخرجي أفلام الرعب في العالم؛ على الهواء مباشرة، أب يحمل نصف جسم ابنته بعد أن قصف جيش الاحتلال منزله في خانيونس. النصف الثاني غير موجود. ربما تمزق أو احترق، وحده نصفها العلوي يهتز بين يدي أبيها المكلوم، الذي يصرخ بقوة مستنجدًا بمن يشاهدونه عبر الشاشات من عرب ومسلمين وضمير عالمي بلا جدوى. أتسمر أمام الشاشة وأبكي بألم وأنا أتساءل؛ هل جُنَّ جنون ذلك الأب وأصابته اللوثة بعد ذلك؟
قبل ذلك الفيديو بساعات، شاهدت العديد من الأجساد الميتة ممددة على الأرض غارقة في دمائها، بعد أن قصف الطيران الإسرائيلي قافلة سيارات الإسعاف التي انطلقت من مستشفى الشفاء تحمل مصابين إلى معبر رفح أملًا في إيصالهم إلى المستشفيات المصرية. حتى الحصان الذي اضطر الغزاويون لاستخدامه في جر ما يشبه "عربية الكارُّو" كبديل لسيارات الإسعاف بسبب انعدام الوقود، قتله القصف الإسرائيلي ورأيناه ممددًا على الأرض مضرجًا في دمائه.
لم يخيّب المراسلون ظنّي، وعرضوا فيديو رعب صباحيٍّ ممتدٍّ لآثار قصف طائرات الاحتلال لمدرسة
مشهد سينمائي يشبه ما تقدمه هوليود، وسيليه غالبًا دخول مفاجئ بمصاحبة موسيقى صاخبة لوحش قبيح ضخم بعشرات الأذرع والأرجل، ينفث نارًا من كلِّ فتحات وجهه ويلتهم بمخالبه من تبقى من البشر، يضعهم في فمه أو يلقي بهم على الأرض بعد قطع رؤوسهم.
فيلم إسرائيلي طويل
هذا الوحش في واقع أهل غزة هو طائرات جيش الاحتلال الصهيوني التي ألقت قنابل زنتها ألف كيلوجرام على مخيم جباليا؛ الأكثر اكتظاظًا بالسكان على مستوى العالم، بحجة الوصول إلى أعماق الأرض الرملية لهدم الأنفاق التي يختبئ فيها مقاتلو وقادة حماس، ويشنون منها هجمات مذهلة وبامكانيات شديدة البدائية، تواجه وتؤلم آلات القتل الضخمة من دبابات وجرافات ومن المسافة صفر وما تحت الصفر.
هذه القنبلة العملاقة مزودة بتكنولوجيا تجعلها تنفجر بعد ثوان من ملامستها الأرض، وبعد أن تدخل في أعماقها، وذلك لضمان أكبر تدمير للأنفاق المزعومة، ومعها البيوت الهزيلة التي يبنيها سكان المخيمات البائسون بأيديهم وبأقل الإمكانيات.
أفيق صباح اليوم التالي متثاقلًا ككلِّ يوم من أيام الشهر الماضي، أجرُّ قدميَّ غير راغب في فتح التليفزيون وسماع مراسلي قناة الجزيرة، وجميعهم مشاريع شهداء هم وأسرهم، كما الصديق وائل الدحدوح وكلِّ الصحفيين العاملين الآن في غزة، وهم يتحدثون عن المجزرة الجديدة لجيش العدو. لم يخيّب المراسلون ظنّي، وعرضوا فيديو رعب صباحيٍّ ممتدٍّ لآثار قصف طائرات الاحتلال لمدرسة الفاخورة التابعة لوكالة الأونروا، حيث يبيت مئات النازحين الذين دُمّرت بيوتهم.
سامحونا شعب غزة، فالظروف الأمنية لا تسمح، والحبس الاحتياطي سيف مسلط على رقاب الجميع
صفوف المدرسة أصبحت عنابر نوم تنتشر أمامها حبال لنشر الملابس المغسولة، فيما يصرخ أهالي الضحايا بهستيريا "أشلاء .. أشلاء .. لم يتبقَّ سوى أشلاء". تقول التقارير الصحفية إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن اشتكى لنظيره القطري من تأثير تغطية الجزيرة وتركيزها على بث مشاهد القتل والجثث والأطفال الصغار. تموّه القناة وجوه الأطفال طالما البث ليس حيًا، ولكن على السوشيال ميديا تأتي صور أشلاء اللحم المقطع والمتفحِّم طازجة دون تمويه. هو الرعب وليس فيلمًا عنه.
أنام في المساء بصعوبة بينما يراودني الخوف من أن تجري مجزرة جديدة؛ وأنا أحاول أن أنعم ببعض الراحة. أنام لساعات قليلة قبل الفجر وعدد القتلى تسعة آلاف. أفيق ليصبح الرقم 9300، وفي المساء 9700، ثم عشرة آلاف في صباح اليوم التالي.
أسماء وأحلام وعلاقات إنسانية، وأطفال. رزقني الله بمولودة صغيرة جميلة قبل نحو عامين. أشاهد أفلام الرعب اليومية من غزة وأركض نحو سريرها، احتضنها واطمئن أنها بخير. كم ثقيلٌ هو، هذا الكابوس، لو كانت ابنتي غزاوية.
تحركات سياسية في بيئة خانقة
المأساة في مواجهة كلِّ مشاهد الرعب هذه، هو الشعور باليأس والعجز وانعدام القدرة على القيام بأيِّ شيء. كناشط سياسي، سارعت مع قلة من رؤساء الأحزاب وكثير منهم تقدم به العمر، وحاولنا التوجه للسفارة الأمريكية في جاردن سيتي فور أن علمنا بوقوع الهجوم على المستشفى الأهلي المعمداني في غزة قبل أسبوعين.
لم نتمكن من الوصول للسفارة بسبب الحواجز الأمنية ولكن كنا على بعد خطوات منها. قلت للأستاذ حمدين صباحي: الإنجليز زي الأمريكان وهمَّ أساس المصايب كلها. لم يكن بيننا كبير الهتيفة كمال أبو عيطة، الذي لم يعد يظهر في المناسبات العامة منذ أزمته مع هشام قاسم. ولكنَّ الأستاذ حمدين استعاد شبابه وهتف وهتفنا وراءه هتافات الثمانينيات والتسعينيات، ثم قررنا سريعًا التفرق لأننا فقط أردنا أن نُسمَع صوتنا دون الدخول في مواجهة مع الأمن.
شاركت في صياغة خمس بيانات، وحضرت عشرة مؤتمرات صحفية، ووقعت على العديد من العرائض المطالبة بوقف الحرب. شاركت في وقفات سلمية حاشدة على سلالم نقابة الصحفيين الشهيرة، وأمام مسجد مصطفى محمود. ولكن بعد أن توجه مئات المتظاهرين نحو ميدان التحرير شديد الحساسية بالنسبة للأجهزة المعنية، لم يعد مسموحًا تنظيم أي وقفات أو تظاهرات، عكس ما تشهده كلُّ دول العالم، عربية وأجنبية.
سامحونا شعب غزة، لا نستطيع التجمع في الميادين لنعبِّر عن تضامننا وعجزنا ويأسنا. فالظروف الأمنية لا تسمح، والحبس الاحتياطي سيف مسلط على رقاب الجميع.
مؤخرًا قررت أيضًا ألا التقي ممثلين دبلوماسيين من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وبعثت لهم برسائل قاطعة أنَّ هذا الرفض سببه قناعتي بأنهم متواطئون في عمليات الإبادة والقتل الجماعي التي يتعرض لها الفلسطينيون يوميًا، ولم يعد هناك ما يمكننا الحديث عنه مع غياب الثقة في ما يزعمونه من احترام لحقوق الإنسان.
لو كانت حكوماتكم تعتقد أننا بشر نتساوى في الحقوق، فلا يمكن قبول أن نبقى جميعًا ساكنين وجيش الاحتلال ينفذ دون رادع مجازر يومية حقيقية لا أفلام رعب. ومن غير المقبول أن يتواصل رفض الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي كلَّ مقترحات وقف إطلاق النار الفوري بحجة ممارسة الكيان الصهيوني حق "الدفاع عن النفس" ضد حماس التي تزعمون أنها تستخدم المدنيين دروعًا بشرية.
في النهاية كلُّ هذا صراخ وكلام لا يُوقِفان سقوط القنابل على رؤوس المدنيين والأطفال في غزة، التي تتركنا جميعًا نتابع فيلم الرعب اليومي الذي أدمنَّاه جميعًا، وأتمنى ألا ينتهي بنا الأمر إلى الاستمتاع به لدوره في تخفيف حدة قلقنا وتوترنا قبل الخلود للنوم، كما أشارت الدراسة أعلاه.