بات نجاح المخطط الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من غزة وتوطينهم في سيناء مرهونًا بأمرين؛ الأول صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بالبقاء في أرضه وقدرة مقاومته على مواصلة عملياتها العسكرية لأطول وقت ممكن، والثاني مدى توافر الدعم العربي بما يضمن نفاذ المساعدات الإنسانية إلى أهل القطاع، واستخدام كلِّ أوراق الضغط المتاحة على إسرائيل وحلفائها الغربيين، لوقف العدوان والمجازر الوحشية المستمرة منذ اليوم التالي لهجوم 7 أكتوبر.
حتى الآن؛ يُنجز الشعب الفلسطيني ما عليه على أتمِّ وجه. فرغم سياسة "الأرض المحروقة" التي يتِّبعها جيش الاحتلال، مستخدمًا فيها كلَّ أدوات القتل والتدمير التي أسقطت عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين، فضلًا عن سياسة التخريب الممنهج للمباني والبنى التحتية، لا يزال معظم أهل غزة صامدين، فيما تُواصل فصائل المقاومة من جهتها اشتباكها مع العدو من "المسافة صفر"، وتُلحق بصفوفه الخسائر الفادحة، لدرجة أربكت خططه ومشاريعه وتسببت في شروخ عميقة بين قادة الدولة العبرية، كما دفعت حلفاء غربيين إلى تغيير مواقفهم وإعادة النظر في قدرة حكومة نتنياهو على تحقيق أهدافها المعلنة، بـ"تطهير غزة من حماس وباقي فصائل المقاومة المسلحة".
لكنَّ صمود أهل غزة لن يكون إلى ما لا نهاية، فالقدرة البشرية على تحمل هذه الأهوال لها حدود، وثبات المقاومة واستبسالها في الاشتباك مع قوات الاحتلال سيستمران حتى آخر طلقة وآخر صاروخ بل وآخر مقاوم، وهنا يطرح سؤال الإسناد والدعم العربي نفسه؛ هل تترك الدول العربية خاصة دول الطوق غزة حتى تسقط والمقاومة حتى تنكسر؟ ثم يأتي سؤال آخر؛ هل تتحمل المنطقة وأنظمتها حلول نكبة جديدة يُهجَّر فيها الفلسطينيون للمرة الثانية رغمًا عنهم خارج أرضهم، وتقام لهم المخيمات في دول الجوار؟
لن يخسر الفلسطينيون وحدهم حال سقطت غزة ونجحت إسرائيل في تنفيذ مشروع التهجير. سيكونون الخاسر الأكبر، ولكنَّ الأمة العربية كلها ستلاحقها الخسائر، ففضلًا عن فقدان ما تبقى لها من شرف وكرامة، ستسقط المنطقة كلها، معتدليها وممانعيها، في دوامة ممتدة من عدم الاستقرار السياسي.
وأبرز تجليات الدوامة التي ستضرب المنطقة لو نجحت إسرائيل في تنفيذ مخططها؛ انتشار جماعات العنف الأصولي بكل تصنيفاتها مجددًا بعد تراجع أفكارها نسبيًا في العقد الأخير، فضلًا عن تحوُّل دفة الغضب الشعبي باتجاه أنظمة الحكم القائمة، التي ستكون من وجهة نظر الشارع مسؤولة عن ضياع ما تبقَّى من فلسطين التاريخية، وشريكًا مستترًا للكيان الصهيوني، سواء بتخاذلها وصمتها أو بتواطؤ بعضها، وهو ما سيفُقدها مشروعية بقائها.
يضاف إلى ما سبق إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة، وبسط نفوذ الولايات المتحدة مجددًا على الشرق الأوسط، الذي سعت بعض دوله المعروفة بولائها التاريخي لواشنطن إلى فتح قنوات شراكة وتبادل مصالح مع خصوم أمريكا التقليديين، وتحديدًا روسيا والصين.
هرعت الولايات المتحدة لإنقاذ ودعم شريكتها التي يؤمن صُناع القرار الأمريكيون بأنها تقوم بدور وظيفيّ للغرب في الشرق الأوسط، حيث يحافظ وجودها على دوام تدفق نفط العرب واستمرار الملاحة في ممراتهم المائية، ويحوُل دون استخدامهم ما يملكونه من أوراق ضغط قد تؤثر بأي شكل على المصالح الغربية. هي إذن "حاملة طائرات أمريكية" جرى تثبيتها في منتصف المنطقة العربية، كوكيل وقاعدة للإمبريالية العالمية على ما ذهب عالم الجغرافيا السياسية المصري الراحل جمال حمدان.
ففي كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" يقول حمدان "التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاءً تاريخيًا على طريق واحد هو المصلحة الاستعمارية المتبادلة، فيكون الوطن اليهودي قاعدة تابعة وحليفًا مضمونًا يخدم مصالح الاستعمار؛ وذلك ثمنًا لخلقه إياه وضمانه لبقائه، فالاستعمار هو الذي خلق إسرائيل بالسياسة والحرب، وهو الذي يمدها بكل وسائل الحياة من أسلحة وأموال، وهو الذي يضمن بقاءها ويحميها علنًا".
ما فعلته النكبة الأولى
في منتصف أربعينيات القرن الماضي، شرعت العصابات الصهيونية في تنفيذ ما عُرف بـالخطة "د"، وتقضي بإرهاب الفلسطينيين لإجبارهم على ترك منازلهم، والنزوح إلى دول الجوار. كانت النقاط الأساسية التي وضعها يغائيل يادين، الضابط المسؤول عن العمليات في عصابة الهاجاناه، تقضي بتوسيع الاستيطان والاستيلاء على أكبر قدر من الأراضي الفلسطينية عن طريق "نسف وتدمير القرى العربية وطرد السكان الموجودين فيها"، كذلك احتوت الخطة نصوصًا تفصيلية لكيفية الاستيلاء على المدن، وطرد العرب منها، ومن الضواحي الواقعة على جانبي طرق المواصلات.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1947، صدر قرار الأمم المتحدة بـتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وإخضاع مدينة القدس والمناطق المحيطة بها لسيطرة دولية، وذلك عقب إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها، ما رفضته اللجنة العربية العليا، لتتدخل الجيوش العربية محاولة استرداد ما استولت عليه العصابات الصهيونية.
زلزلت النكبة المنطقة العربية وكان لها أثرها على الأنظمة القائمة في مصر وسوريا والعراق
هُزِمت الجيوش العربية، وأخفقت في دحر إسرائيل التي أعلنت تأسيس دولتها بعد نجاحها في احتلال أكثر من 70% من الأراضي الفلسطينية، ليبقى قطاع غزة تحت الإدارة المصرية والضفة الغربية والقدس الشرقية تحت الإدارة الأردنية، ونزح نحو 700 ألف فلسطيني عن موطنهم، تحولوا إلى لاجئين أقرَّت الأمم المتحدة بحقهم في العودة والتعويض، دون أن تمكَّنهم عمليًا من نيل هذين الحقين.
"لم تكن هزيمة العرب في فلسطين مجرد إخفاق، أو شرٍّ عابر. هذه نكبة بكامل معنى الكلمة، وإحدى أصعب النكبات التى ألمَّت بالعرب خلال تاريخهم الطويل"، هكذا وصف المفكر القومي العربي قسطنطين زريق ما جرى في كتابه "معنى النكبة".
ويرى الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، أن الحكومات العربية، التي شاركت جيوشها في حرب فلسطين، لم تكن جادة ولا مصممة على مواجهة المشكلة وعلاجها بما يتطلبه ذلك من حزم واهتمام، "كانوا هازلين، خائرين، مترددين، بينما كان اليهود جادين كل الجد".
كانت هزيمة العرب عام 1948، وقيام إسرائيل، بداية تحوّل عميق في الوعي العربي. أصبحت النكبة هي محرك الشعور القومي، إذ أدرك العرب أنَّ الهزيمة لم تكن بسبب قوة إسرائيل، بل ضعف العرب وفساد أوضاعهم الداخلية، وتردِّي أحوالهم على كل المستويات.
زلزلت النكبة المنطقة العربية، وكان لها أثرها على الأنظمة القائمة، فاندلعت في مصر ثورة 23 يوليو عام 1952، وشهدت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية، وانتهى الوضع في العراق إلى قيام ثورة 14 يوليو/تموز 1958.
بعد أيام قليلة، تحديدًا في التاسع والعشرين من الشهر الحالي، ستحل الذكرى الخامسة والسبعون على صدور قرار تقسيم فلسطين، تأتي الذكرى وما تبقَّى من فلسطين يشهد مذابح كتلك التي أدَّت إلى النكبة الأولى، مع مخاوف من حلول نكبة جديدة، لو تُرك الفلسطينيون وحدهم محاصرين مهددين دون دعم وإسناد عربي.
صمد أهل غزة 37 يومًا يواجهون وحدهم آلة القتل الوحشية الإسرائيلية المدعومة من الغرب، وطوال تلك المدة لم يتوقف نداؤهم "وينكم يا عرب.. وينكم يا عرب". بعضهم يئس من انتظار النجدة، وتحت شدة القصف وغياب أي مظهر للحياة من ماء وغذاء وكهرباء، اضطروا للنزوح جنوبًا فُرادى ومجموعات، في مشهد أعاد إلى الأذهان ما حدث في نكبة 1948، ولم نكن ندرك كيف حدث حتى شاهدناه بأم أعيننا.
ما ستفعله النكبة الثانية
اجتمع قادة الدول العربية والإسلامية يوم 11 نوفمبر في الرياض، لاتخاذ قرارات من شأنها وقف المذبحة ومقاومة مخطط إسرائيل بتهجير أهل غزة من أرضهم، لكنَّ ما صدر من قرارات لم يخرج للأسف عن نطاق الشجب والإدانة التي اعتدنا سماعها منذ عقود.
اختلفت الدول العربية والإسلامية على صياغة البيان الختامي لتلك القمة الاستثنائية الطارئة. ذهب ما يسمى محور الممانعة ومعه بعض دول الطوق التي تستشعر تهديد أمنها القومي، إلى ضرورة إصدار قرارات ملزمة للأعضاء بتجميد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، ومنع الطيران الإسرائيلي من استخدام الأجواء العربية، ومنع استخدام القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة لتزويد إسرائيل بالذخيرة، وهو ما قاومته دول التطبيع العربي الجديد؛ الإمارات والبحرين والمغرب، إلى جانب دولة تنتشر فيها القواعد العسكرية الأمريكية وهي السعودية، وفق ما أكده مصدر مصري اطلَّع على النقاشات لكاتب هذه السطور.
الجزء الإجرائي الوحيد الذي تضمنه البيان، تُرك لمصر تنفيذه، وتضمن كسر الحصار على غزة وفرض إدخال مساعدات إنسانية بشكل فوري، ودعم ما تتخذه مصر من خطوات لمواجهة تبعات العدوان وإسناد جهودها لإدخال المساعدات، وهو ما يعني عمليًا أن على القاهرة الآن أن تبادر أولًا باتخاذ ما تراه لوقف المخطط الإسرائيلي، ثمَّ يأتيها الدعم العربي لاحقًا.
لم يدرك القادة المجتمعون في الرياض أنَّ تدخلهم بإجراءات تصعيدية حقيقية لإنقاذ غزة، وإفشال المشروع الإسرائيلي القاضي بتهجير أهلها، لن يجير سكان القطاع المكلومين وينقذ ما تبقَّى من فلسطين فحسب، بل سيحمي أمن بلادهم القومي ويحافظ على عروشهم المهددة، ويعيد ترتيب خريطة المنطقة بما يفسد على إسرائيل وشركائها خططهم في إخضاع الشرق الأوسط وفقًا لمصالحهم.
في النكبة الأولى لم تتمكن جيوش الدول العربية، الضعيفة المهلهلة الواقع بعضها تحت الاستعمار، من مواجهة العصابات الصهيونية، ولم تحقق تلك الدول فيما بعد وبعد انتهاء المعارك الكبرى توازن الردع مع الدول العبرية، رغم ما تنفقه على تسليح وتجهيز وتدريب جيوشها، التي يصنَّف بعضها في مراكز متقدمة عالميًا، ولم تجرؤ على اتخاذ قرارات من شأنها الضغط على حلفاء تل أبيب لإقناعها بوقف الاعتداءات والشروع في المسارات السياسية، هذا الحال من الضعف وعدم القدرة على المبادرة ينذر بحلول نكبة جديدة تُلحق بنا جميعًا، إن وقعت، عارًا لا يمكن الخلاص منه، فهل ينتبه العرب؟!