لم يمحُ دموع تلك الليلة الدامية التي سقط فيها مئات الشهداء والجرحى الفلسطينيين جراء قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي أهدافًا مدنية في قطاع غزة، ولم يحدَّ من مشاعر العجز والإحباط واليأس والهزيمة النفسية التي سيطرت على المتابعين، سوى تلك الهتافات المدوِّية التي رجَّت أرجاء ذلك المربع السكني الهادئ في أحد أحياء القاهرة.
بدأ الهتاف مكتومًا بعض الشيء، ثم علا وتصاعد بقوة وحماس رغم خروجه من حناجر أطفال في عمر الزهور، ليصدح تلاميذ مجمع المدارس الحكومية دون توقف وعلى نبرة واحدة "الشعب يريد إسقاط إسرائيل".
لنحو 10 دقائق متصلة، وقف كاتب هذه السطور الذي أعياه كما غيره من المصريين والعرب، العجز والوهن من موقف الأنظمة الحاكمة الصامت المتخاذل. يترقب هؤلاء الصغار الذين رفضوا الصعود إلى فصولهم، مُصرِّين على البقاء في فناء مدرستهم ليعبِّروا عن غضبهم من مشاهد الدماء التي أريقت في أحياء وشوارع القطاع، الذي يشهد أقسى عملية إبادة جماعية يشهدها العالم منذ عقود.
هذا المشهد بما كل ما يحمله من رسائل، بدَّل حالة الإحباط واليأس والهزيمة إلى رجاء وإيمان، بأنَّ هذا الجيل الذي يصرخ بأعلى صوته ويبكي من شدة الأسى، سيتحدَّى كلَّ القيود المفروضة ويغلق صفحات الهوان والضعف، ليفتح صفحة جديدة يكتب فيها بأسلوبه تفاصيل استعادته للحقوق المسلوبة، وكيف نجح في ما فشل أسلافه فيه.
قضية لا يمكن تبريدها
رغم فاتورة الدم الكبيرة التي لا يقوى على تحمُّلها سوى الشعب الفلسطيني الباسل، هناك طاقة أمل فُتحت في جدار الظلام والعتمة التي فُرضت علينا منذ أن هرولت أنظمة التطبيع العربي نحو عدونا الذي داس بجرائمه وغطرسته على كلِّ ما روَّج له هؤلاء المطبعون، من إمكانية العيش المشترك وضرورة قبوله ككيان طبيعي في الشرق الأوسط.
مسَّت "طوفان الأقصى"، وما تبعها من عدوان ومجازر في حق أهل غزة، ضمائر الشباب العربي الموجوعة بفعل استغاثات نساء وأطفال القطاع، وعادت القضية الفلسطينية إلى بؤرة اهتمام الأجيال الجديدة بعد أن أدخلها "زناة الليل" إلى حجرة التبريد حتى يتخلصوا من صراخها وصداعها ويستكينوا على عروشهم.
ما جرى وضع القضية مرة أخرى على الصفيح الساخن، لتفشل كلُّ محاولات الكيان الصهيوني وداعميه وأصدقائه من متواطئين ومتآمرين لتبريدها وتحويلها إلى جثة هامدة، ثم دفنها في مقابر السلام والتطبيع المجاني. ولكن لا يموت حق وراءه مطالب، فما بالك لو أنَّ جيلًا عربيًا كاملًا صار وراء هذا الحق، يطالب ويقاوم ويدفع الضريبة المستحقة، ليعود الحق إلى أصحابه.
تحولت المقاومة الفلسطينية الباسلة خلال الشهر المنقضي إلى مصدر إلهام لكل أحرار العالم، وأصبح شعب غزة الأبي بصموده الأسطوري وثباته على التمسك بأرضه وحقوقه مضربًا للأمثال بين كلِّ الشعوب، هذا الاستبسال والصمود شكَّل نقطة تحوُّل بين الأجيال العربية الجديدة المتهمة دائمًا بعدم الاكتراث والبعد عن القضايا المصيرية.
جرجرت إسرائيل أنظمة حاكمة إلى التطبيع والاعتراف، لكنَّها لم تنزع فتيل العداء مع الشعب
خلال الأسابيع الأربعة الماضية تشكَّلت حالة لافتة من الوعي بين الأجيال الجديدة في المنطقة العربية، تنبئ بأن الأيام القادمة لن تكون كسابقتها. فالشباب العربي أيقن أنَّ إزالة الاحتلال الجاثم على صدورنا منذ أكثر من 75 عامًا، لن يحدث إلا بمواجهة الفساد والاستبداد والقمع والجهل الذي حطَّ على دول المنطقة فأضعفها وهمَّشها وأخرجها من كل المعادلات الإقليمية والدولية، حتى إنَّ حكَّامها يقفون موقف العاجز المتخاذل أمام ما يحدث أمام أعينهم من مجازر يُندى لها الجبين وتهتز لها كلُّ مشاعر الإنسانية، دون أن يحرك أحد منهم ساكنًا.
الزميل وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة، سطر مثلًا بصمود وثباته وعودته إلى عمله بعد ساعات قليلة من دفن زوجته وابنيه وحفيده الذين ارتقوا جراء القصف الإسرائيلي لمنزله. وكما كتب الدحدوح بمداد من الدماء هذا الدرس الصعب، يصوغ أهل القطاع كل يوم عشرات القصص والأمثال بتحملهم ورفضهم ترك أرضهم ووطنهم.
وائل كما غيره من المقاتلين في ساحات الحروب، لم يتخلَّ عن سلاحه؛ الميكروفون والكاميرا. ولم يتخلَّ كلُّ غزاوي أيضًا عن سلاحه أيًا كان موقعه؛ مقاتلًا مقاومًا أو طبيبًا أو مسعفًا أو منقذًا. لذا فكلهم تحولوا إلى أهداف لآلة القتل الصهيونية، التي خططت وتسعى منذ سنوات طويلة إلى كسر إرادة الفلسطينيين وهزيمتهم معنويًا، عبر حصارهم وتجويعهم وقتلهم بدم بارد لو لزم الأمر، ثم بفصلهم عن محيطهم العربي.
عودة الوعي لأذهان الصغار
في هذه الأيام يقف الشعب العربي وشعوب العالم شاخصين أبصارهم، أمام دروس وعبر يسطرها على مدار الساعة أهل غزة، هؤلاء الصامدون المحاصرون المتمسكون بحقهم وأرضهم، المقاومون الذين يواجهون أعتى الجيوش وأكثرها خسِّة، لم يملوا ولم يرفعوا الراية البيضاء ولم يعلنوا استسلامهم رغم ما يواجهونه من مآسٍ لا يتحملها من يشاهدها على شاشات الفضائيات.
على مدى 40 عامًا، سعت إسرائيل إلى فصل فلسطين عن إقليمها ومحيطها، وتحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى معركة تخوضها من تدَّعي أنها "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط، ضد حركات التطرف والإرهاب الأصولي الديني والقومي.
نجحت بعض الوقت في الاقتراب من هدفها بتبريد الصراع على المستوى العربي، جرجرت أنظمة حاكمة إلى اتفاقيات ومعاهدات تطبيع واعتراف، لكنَّها لم تنجح على المستوى الاستراتيجي في نزع فتيل العداء مع الشعب العربي. فمع كل مجزرة وتدفق للدماء على أرض فلسطين يسترد العرب وعيهم، ويدركون أنَّ تلك الدولة تهدد حاضرهم ومستقبلهم، وأنَّ مشاهد دماء الفلسطينيين المسالة في الضفة والقطاع، ستنتقل إلى مدنهم لو دانت الأمور لإسرائيل.
ستحقق تلك المعركة بغض النظر عن موعد نهايتها أو نتائجها العسكرية المباشرة، العديد من الأهداف التكتيكية والاستراتيجية التي أسهب محللون ومراقبون في سردها وشرح أبعادها، لكن يظل الهدف الأهم والأبقى هو عودة الوعي للأجيال العربية الجديدة التي حاول العدو وأصدقاؤه استهدافها، استقرَّ في وجدان هؤلاء الطلاب أن القضية الفلسطينية هي البوصلة، وهي أحد أهم معايير الضمير القومي والإنساني والأخلاقي.