لن تتوقف الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة طالما غاب العمل الحقيقي والواضح من أجل حل سياسي. لن تتوقف الهجمات العسكرية الدموية الدورية واسعة النطاق من جانب إسرائيل ردًا انتقاميًا على هجمات حركة حماس دون ذلك الحل. ولن يجدي هراء مثل اتفاقات أوسلو، ولا هياكل خاوية مثل السلطة الفلسطينية في إيقاف الحرب.
وقف إطلاق النار أمرٌ مختلف، وسيحدث على الأغلب خلال بضعة أسابيع، وساعتها ستتوقف عملية السيوف الحديدية الإسرائيلية الجارية لنعود ليس إلى مربع السادس من أكتوبر/تشرين الأول هذا العام، ولكن لمربع أدنى وإن كان يشبهه: القطاع وأكثر من 2.2 مليون فلسطيني من سكانه نزلاء سجن مفتوح أشد قسوة، يخضعون لحصار إسرائيلي أكثر شراسة برًّا وبحرًا وجوًّا، ويستمرون هدفًا دوريًا للقصف الإسرائيلي ومصدرًا لعمليات مقاومة مسلحة تقوم بها حماس أو ما سيتبقى منها، أو حتى مجموعات فلسطينية أخرى، أو أفراد يفيض بهم الكيل.
ربما سيصير العالم أكثر وعيًا باستحالة ديمومة هذا الوضع المقبل، رغم محاولات اليمين الإسرائيلي وحلفائه طوال الأسابيع الماضية نزع إنسانية الفلسطينيين، وتصويرهم في مرتبة "الحيوانات" و"المتوحشين" فيُستحلُّ قتلهم، على الأقل كثمن عرضي يقبله الغرب للقضاء على حماس.
ورغم رفض معظم المسؤولين في الغرب والشرق لفظيًا لذلك الاستحلال، فإنهم يغضون الطرف عنه فعليًا، ويعرقل أهمهم في واشنطن ولندن أيَّ وقف لإطلاق النار، وصولًا لتلويح البلدين باستخدام حق النقض (ڤيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار بهذا المعنى هذا الأسبوع، في محاولة سادسة فاشلة من تلك المؤسسة العاجزة.
رغم هذا، سيتوقف إطلاق النار ولكن لن تتوقف الحرب حتى ينتهي الاحتلال.
أثمان السابع من أكتوبر
على المدى المتوسط، وحتى يوافق أغلب الفاعلين، وخاصة الإسرائيليين ومن يدعمونهم دون تحفظ في العواصم الغربية، على أنَّ العمل العسكري لن يحقق الأمن المنشود، ستواصل إسرائيل معاملة الفلسطينيين جميعًا على أنهم أهداف مستحَلّة في نظام فصل عنصري أكثر دموية وعنفًا من نظام جنوب إفريقيا الذي اختفى منذ 30 عامًا، في نفس الفترة التي عُقدت فيها اتفاقيات أوسلو الفاشلة.
لن يصلح الدعم هذا الشرخ الهائل في عقيدة إسرائيل الأمنية والتفتت المزري في جسدها السياسي
لن ينجح الحل العسكري في تحقيق الأمن المنشود ليهود إسرائيل سوى عن طريق ثمن باهظ خيالي لم يُدفع مثله ربما منذ العصور الوسطى، وهو الثمن الذي لا يتورع متشددو الأحزاب اليمينية الدينية وحركة الاستيطان عن التصريح به؛ طرد وتهجير ملايين الفلسطينيين نحو مصر والأردن. بل ولا يتورع سياسيون يمينيون، أو مثقفون ليبراليون، عن طرح ومناقشة استخدام القنابل النووية، في غزة مثلما اقترح وزير التراث اليهودي عميحاي آلياهو، أو ردًا على حزب الله وإيران كما ذهب الكاتب والمثقف البارز دوليًا يوڤال نوح هراري.
ولن تنجح المقاومة الفلسطينية المسلحة بمفردها لو كان التاريخ مصدرًا للفهم والحكم. وعلى سبيل المثال؛ ففي تجربة جنوب إفريقيا المشابهة نسبيًا، لم تكن المقاومة المسلحة العامل الأهم في إنجاز التطلعات المشروعة في التحرر، وأن يصبح السود مواطنين أصحاب حقوق مثل كل باقي البشر في العالم أجمع، عدا الفلسطينيين حتى الآن.
على المدى القصير، سيواصل الفلسطينيون دفع ثمن باهظ من قتل مستمر وممنهج تعدى خلال شهر واحد عشرة آلاف فلسطيني، 70% منهم أطفال ونساء وعجائز، وتدمير مستمر طال عددًا هائلًا من الوحدات السكنية وقطاعًا كبيرًا من البنى التحتية؛ مستشفيات ومدارس وطرق ومحطات كهرباء ووحدات تحلية مياه، وآثار نفسية وجسدية مروعة مستمرة سيحملها الناجون من الموت معهم بقية حياتهم.
سيدفع الفلسطينيون من أرواحهم وممتلكاتهم ثمنًا أكبر بكثير لا شك. حتى في الضفة الغربية المحتلة، حيث يتعرض أهالي التجمعات السكنية والمخيمات والبلدات لهجمات منظمة ومستمرة من المستوطنين المسلحين. هذه الميليشيات مدعومة من أجهزة الأمن الإسرائيلية التي تخصص جهدها لمداهمة المخيمات واعتقال الناشطين، بما فيهم من ينشرون انتقادات أو تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي. وأدَّت هذه الغارات لقتل أكثر من 370 فلسطيني منذ بداية العام في مدن وقرى الضفة، نحو نصفهم في شهر أكتوبر.
وعلى الجانب الآخر ستدفع إسرائيل ثمنًا أقلَّ بكثير على صعيد الأرواح، حيث قتلت حماس 1400 شخص في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، تقول إسرائيل إن بينهم ألفًا على الأقل من المدنيين، ويُرجَّح أن تُسفر الحرب الدائرة الآن عن مقتل مئات على الأكثر من الجنود الإسرائيليين. أما الخسائر العسكرية والاقتصادية الكبيرة فستعتمد إسرائيل على حلفائها بقيادة الولايات المتحدة في تعويضها.
لكنَّ ذلك الدعم لن يُصلح الشرخ الهائل في عقيدة إسرائيل الأمنية، والتفتت المزري في جسدها السياسي، وانهيار شعور مواطنيها بالأمن والتفوق العسكري الهائل على كلِّ من يهددهم.
حتى السابع من أكتوبر، كانت إسرائيل تنظر للخمسة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع كمشكلة يمكن إدارتها بحدٍّ لا يذكر من الخسائر البشرية والتكلفة الأمنية المقبولة، بل وكانت فعليًا تقوِّض بقايا الإدارة المحلية المتهالكة المعروفة باسم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تطلق أكثر فأكثر يد المستوطنين اليهود المسلحين.
كانت إسرائيل تتعامل مع حماس كشرٍّ لا بد منه، خطره العسكري محدود، وإن كان يتعين ضربه بقسوة كلَّ فترة. وكان قطاع ضخم من الإسرائيليين يعيشون كما لو أنه لا يوجد فلسطينيون خاضعون لاحتلال مهين خانق على بعد كيلومترات، أو كما لو أنه لا يوجد فلسطينيون أصلًا.
كلُّ هذا انتهى، وعلى الأغلب إلى غير رجعة.
انتهى مستقبل نتنياهو سياسيًا، بعد أن أدَّت سياساته وفقًا لقطاعات كبيرة في المجتمع الإسرائيلي لصرف أنظار المؤسسات الأمنية عن كل البلاد وتركيزها في مخططات جهنمية لحلفائه في اليمين الصهيوني والديني المتشدد، من أجل بسط كامل السيطرة اليهودية على الضفة الغربية وتحويل حياة الفلسطينيين هناك إلى جحيم.
لقد ثبت فشل الرجل أخيرًا، بعد قرابة 27 عامًا في مقدمة المشهد السياسي الإسرائيلي منذ توليه رئاسة الحكومة للمرة الأولى عام 1996، في الوفاء بأهم واجبات منصبه وهي أمن يهود إسرائيل. سيُترك نتنياهو في مكانه على الأغلب حتى يختتم مهمته الدموية الراهنة، التي يبدو أنه ينال فيها دعمًا شعبيًا من كلِّ الأطياف السياسية داخل وخارج الائتلاف الحاكم، مع اختلاف شعاراتها وتصريحاتها.
هذا التحالف السياسي العريض المؤيد لنتنياهو لا يبالي بحجم ونطاق الخسائر البشرية والمادية بين الأبرياء من الفلسطينيين طمعًا في الهدف المعلن المستحيل؛ اجتثاث حماس، بينما الأهداف الفعلية غالبًا هي الثأر والانتقام ورد الصاع عشرة بل عشرات الأضعاف المضاعفة، ولن يضر إعادة من سينجو من بين نحو 240 أسيرًا إسرائيليًا محتجزين في قطاع غزة، ولكن دون قيد أو شرط.
ولكنَّ هذه الصيغة العجيبة التي تجمع اليمين اليهودي الاستيطاني شديد العداء للفلسطينيين، مع خصومه الليبراليين اليهود من أطياف الوسط ويسار الوسط، ليست أكثر من تحالف مرحلي، لأنَّ الهوَّة بين الطرفين شاسعة في معظم السياسات الاجتماعية والأمنية، وقد تجلَّت في مظاهرات الليبراليين التي خرج فيها عشرات الآلاف طوال أسابيع ضد سياسات التحالف اليميني الحاكم منذ عدة أشهر.
أهداف مستحيلة وأسئلة لازمة
ولكن حتى تنتهي العمليات العسكرية الواسعة، فنتنياهو باقٍ بدعم من ذلك التحالف، حتى إنجاز المهمة المستحيلة؛ اجتثاث حماس. وهذا الهدف المستحيل عواقبه غير المقصودة قد تكون وبالًا على صاحبه، كما جرى للحليف الأمريكي الأكبر والأكثر شراسة في العراق وأفغانستان.
ماذا يعني اجتثاث حماس؟ قتل الصف الأول والثاني من القيادات؟ تدمير جزء كبير من مخازن الأسلحة؟ إغراق أو تدمير الأنفاق المدعاة؟ أم نجاحات رمزية يجري تضخيمها للمواطن الإسرائيلي كأن يُقتل السنوار أو محمد ضيف، وهي مؤشرات نعلم لا جدواها على المدى المتوسط، لأن إسرائيل عندما اغتالت من قبل صفًّا تلو الآخر من قيادات حماس، برزت قيادات جديدة.
هناك أسئلة حول مستقبل القانون الدولي المعني بالحرب
نتنياهو والقيادة العسكرية الإسرائيلية في مأزق ما يُسمى بضباب الحرب وغياب الهدف الممكن، ولكن لن يوقفهم هذا عن القتل، خاصة مع الدعم الأمريكي والأوروبي غير المشروط، حتى الآن، وإن صارت العواصم الغربية تتململ قليلًا مع هول الخسائر في الأرواح بين الفلسطينيين، واحتجاجات الشباب والطلاب وفئات أخرى من شعوبهم في مظاهرات كبيرة ولكنها لم تمثل أغلبية وازنة بعد.
هذا التململ الغربي سيزداد حتى يصل الإسرائيليون إلى نتائج يمكن تقديمها على أنها انتصار، أو وربما في نفس الوقت، تتجاوز آلة القتل الإسرائيلية المستوى "المقبول" لإراقة الدماء، أي العدد المقبول من القتلى بين الفلسطينيين، وفقًا لدبلوماسي غربي مطلع لكاتب هذه السطور.
في آخر حربين شبه محدودتين في 2014 و 2021 قُتل بين عشرين إلى ثلاثين فلسطينيًا مقابل كلَّ قتيل إسرائيلي، فهل يعني هذا بالحساب الدموي البسيط، أن باستطاعة إسرائيل الاستمرار في القتل حتى تصل إلى 30 ألف فلسطيني، قبل أن تتوقف العمليات؟
تثور هنا أسئلة مهمة على المديين المتوسط والطويل، يتعين التفكير في إجابات مبدئية لها حتى قبل أن يتوقف إطلاق النار، لنتمكن من المساهمة بجدية في مساعي وقف الحرب وليس فقط إنهاء إحدى جولاتها.
ما مصير المسألة الفلسطينية؟ هل يمكن تفادي العودة إلى ما قبل المربع الأول؟ ما مصير حل الدولتين ومستقبل ووظيفة السلطة الفلسطينية؟ كيف ستتغير دولة إسرائيل؟ وما الدور المنتظر من دول الجوار والدول العربية وإيران؟ وما هو دور حركات ومنظمات التضامن والضغط الشعبي في المنطقة والعالم؟
وهناك أسئلة، حتى لو بدت من باب الترف والقصف مستمر دون رادع، حول مستقبل القانون الدولي المعني بالحرب، بل وكلِّ خطاب حقوق الإنسان ليبراليَّ المنشأ.
هذه كلها أسئلة سياسية ستساعدنا إجاباتها في تحديد تفاصيل الحلول الممكنة والعادلة للمسألة الفلسطينية، والنضالات الواجب خوضها من أجل تحقيقها.