طوال حرب الإبادة الإسرائيلية التي دامت 470 يومًا متتاليًا، ظللت أتوق للعودة إلى مدينة غزة، مسقط رأسي حيث وُلدت ونشأت وترعرعت وتزوجت وأنجبت أبنائي. وحيث مُنعت قسرًا من العودة من قِبَل جيش الاحتلال، عندما قطع الطريق بين شمال وجنوب القطاع في اليوم الثالث عشر للحرب، بينما كنت في المنطقة الجنوبية أمارس عملي الصحفي.
464 يومًا انتهت في اليوم السابع لسريان اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين حركة حماس وإسرائيل، بالسماح بعودة النازحين إلى الشمال سيرًا على الأقدام عن طريق شارع الرشيد على البحر، أو بالمركبات عبر شارع صلاح الدين، بعد الخضوع للتفتيش، وباتجاه واحد.
بعد مماطلات إسرائيلية وتدخل الوسطاء المصريين والقطريين، قرر المستوى السياسي الإسرائيلي المُضيَّ في تنفيذ بنود الاتفاق وفتح الطريق في 27 يناير/كانون الثاني الماضي. في منتصف الليل صدرت الموافقة، فتواصلت مع أصدقاء وزملاء لنرتب ما الذي سنفعله في الصباح. لا أقصد هنا العودة، ولكن عملنا الصحفي والتغطيات الميدانية.
خرجنا يومها باكرًا قرابة السادسة والنصف، وتوجهنا إلى جسر وادي غزة الغربي على شارع البحر.
على الطريق
سيلٌ بشريٌّ أمامنا؛ أطفال ونساء وكبار سن وشباب، عائلات بأكملها تحمل بعضًا من أمتعتها وتسير فوق الجسر الضيق متوجهةً إلى مدينة غزة وشمال القطاع الذي تعرض لدمار واسع بفعل العمليات البرية العسكرية الإسرائيلية والقصف الجوي المستمر طول أيام الحرب.
شدّني الحنين لترك العمل والسير مع العائدين، وقفت على تلَّةٍ رمليةٍ مرتفعةٍ بجوار جسر وادي غزة، التقطت بعض الصور ومقاطع الفيديو. كادت الدموع تنهمر من شدة الشوق، لكني حبستها. حاولت جاهدًا التركيز في العمل، لكنَّ صور وفيديوهات الدمار الذي أصاب منزلي وعائلتي قبل وقف إطلاق النار بنحو شهر ظلَّت تشوِّش بصري وبصيرتي. أتجاهل كلَّ ما أراه وأحاول ألَّا أفكِّر في العائدين إلى أحيائهم وشوارعهم ومنازلهم التي تعرض معظمها للدمار، إلى أن أنقذني الإنترنت اللاسلكي عندما بدأ يعمل، لأنشغل بإرسال رسائلي الصحفية بدلًا من التفكير.
استمر العمل لأكثر من أربع ساعات متواصلة، وبدأنا النقاش؛ أنا وأصدقائي من الزملاء المصورين، واتفقنا على العودة لإحضار معدات العمل وبعض الملابس في حقيبة صغيرة لكل واحد منَّا، ثم العودة سيرًا مع السائرين خلال المساء. عندما عدنا لذات النقطة التي بدأنا منها، لمسنا حكمة قرارنا بالعودة سيرًا ونحن نرى طابورَ مركبات النازحين ممتدًا في شارع صلاح الدين لنحو خمسة أو ستة كيلومترات في ست حارات. المركبات متراصة، وطريق العبور ضيقة.
بدأت المركبات في العودة إلى غزة بعد الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، حيث أشرفت شركات أمنية مصرية وأمريكية على تفتيش المركبات بجهاز فحص X-Ray للتحقق من عدم نقل أي نوع من الأسلحة، كما اشترطت إسرائيل ونصّت الاتفاقية، قبل تسييرها في أربع حارات دون تفتيش ركابها شخصيًا. ولتجاوز كل تلك الساعات المهدرة، اخترنا السير على الشارع الموازي لشاطئ البحر.
بدأت رحلتنا في الرابعة والربع من مساء الاثنين 27 يناير. كنا ثلاثة شبان زملاء وأصدقاء نسير مع سيل البشر الذي لم يكن توقف أو تقطع، منذ ساعات الصباح، الناس تتدفق تباعًا، حتى من كان يقول إنه لن يعود في اليوم الأول، وجد نفسه يحمل أمتعته وعائلته عائدًا. هكذا أخبرتني عائلات كثيرة تحدثت مع أفراد منها في الطريق.
لم يكن الشارع الذي طُوِّر خلال السنوات الأخيرة كما نعرفه؛ تجريف وتخريب للأسفلت والبنية التحتية، سواتر رملية ومكعبات أسمنتية منتشرة على طوله، أعمدة الإنارة والضغط العالي جميعها ملقاة على الأرض، بلاط الرصيف خُرِّب وخُلِع من مكانه. تدمير شامل طال جميع المنازل والمنشآت السياسية على طول الطريق التي يتجاوز طولها سبعة كيلومترات، حتى أول نقطة وصول إلى مدينة غزة، حيث استمرت مشاهد الدمار على طول الطريق الساحلي للمدينة أيضًا.
خلال سيرنا في الرحلة التي استغرقت ساعتين ونصف من المشي المتواصل، بدأ الليل يهبط حيث لا إضاءة في الطريق. تاهت الكثير من العائلات عن بعضها البعض، وبدأنا نسمع أصوات ناس يصرخون "يا هنننند، وينننك يا هنننندد"، "محموووود"، "يا حسيييين". عشرات الأسماء سمعتها من أفواه العائدين حتى وصلنا مفترق النابلسي جنوب غرب مدينة غزة، وهنا لم نصدق مشاهد الخنادق المحفَّرة بعرض الطريق بشكل متتالٍ، والتي اضطررنا لعبورها لدخول المدينة. عبرتها، ونظرت خلفي.
ما زال الآلاف سائرين، حاملين هواتفهم التي أضاؤوا كشافاتها لإنارة بسيطة تكشف طريقهم الوعرة، لكن الصراخ على التائهين لم يزل مستمرًا. أُكمل الطريق الوعرة مع أصدقائي، غير مصدقين حجم الدمار الذي نشاهده للمرة الأولى بأعيننا. صحيح أننا رأينا صوره، لكن في رؤيا العين المجردة فجيعة أكبر.
هنا كان المقهى الذي كنا نسهر فيه أنا وأصدقائي، وهنا منزل أقاربي الصيفي على البحر، وهناك منتجع سياحي لأقارب آخرين كنت أحب زيارته، وطالما عقدنا في قاعاته المؤتمرات وورش العمل، تليهم عمارات وأبراج سكنية كان يقطنها الكثير من المعارف والأقارب.
كل ذلك لم يعد إلا كتلًا أسمنتية مُدمرة كليًا. الدمار على مد البصر.
اختلطت مشاعر الفرح بالعودة مع الحزن على ما شاهدنا. وقفت عدة مرات في الطريق، مرة تذكرت مئات الغزيين الذين قتلوا وهم يحاولون الهرب والنزوح نتيجة أهوال القصف. وفي مرة ثانية تذكرت عشرات الشبان الذين حاولوا العودة من النزوح بعدما عجزوا عن تحمله فلقوا حتفهم، جميعهم قتلوا بالرصاص الإسرائيلي وألقيت جثامينهم على جانبي الطريق، حتى تحولت لهياكل عظمية شاهدنا بعضها في طريق عودتنا.
نقطة الأمل في غزة
بعد الوصول، لم نجد ما يُقلّنا فقررنا إكمال الطريق مشيًا. كنت أود لحظتها التوجه إلى منزلي، لكن لا أريد مشاهدة دماره ليلاً، أريد تفحص كل حجر منه في النهار، فبتنا ليلتنا في منزل صديقي الذي نجا من الصواريخ والقذائف.
في الصباح، قرر صديقاي الخروج لمهمات تصوير اعتذرت عنها، وانفصلت عنهما لزيارة أقاربي مِمَّن صمدوا في وجه الإبادة هناك، وزيارة منزلي، أو بالأدق، ركام منزلي. مشيت في شوارعَ مشيتُها آلاف المرات في حياتي السابقة، لكنها لم تكن تلك الشوارع التي عرفتها بعدما تعرضت له من تجريف وتدمير وتخريب تحت جنازير دبابات وجرافات وآليات الاحتلال العسكرية وهو ينفذ اجتياحاته البرية.
المباني معظمها دُمِّر كليًّا، وما لم يزل واقفًا منها إما ينتظر الإزالة بعد ما أصابه من قصف شديد، أو ينتظر الترميم بعد أن باتت جدرانه شاهدةً على كثافة الرصاص الذي أطلقه الجيش الإسرائيلي باتجاهها. أما السيارات، فهي شبه مختفية من الطرقات إلا ما ندر، وذلك بسبب منع إسرائيل دخول الوقود والمحروقات وغاز الطهي إلى شمال القطاع منذ اليوم الأول للحرب، وحتى لحظة عودتنا، وهو ما أجبرني على السير مشيًا نحو أهدافي المحددة.
كنت مرهقًا لكن الشوق والحنين أمدّاني بطاقة المشي. مئات المباني والمنازل التي أحفظ تفاصيلها سُوِّيت بالأرض، لافتات المحلات مدمرة، مبانٍ ثقافية وحكومية وتاريخة نائمة في مكانها أرضًا. هكذا حتى وصلت منزلي عصرًا. وقبل رؤية دماره، صادفت في حارتنا أبناء عمومتي الذين صمدوا. احضنتهم وكدت أن أبكي، لكني احتفظت بالدموع لما هو قادم. تبادلنا أخبار ما حدث في الأشهر الماضية وكيف كان الفراغ يملأ الحارة إلا من أصوات القصف وإطلاق النار.
أكملت الطريق فوصلت إلى المنزل، أو ركامه حيث وقفت. هنا كان ينتصبُّ منزلٌ من أربعة طوابق، أسكنه أنا وأبي وأشقائي وعائلتنا. اليوم أصبح أربع طبقات متراصة من الكتل الأسمنتية المدمرة، المتداخلة مع دمار منزل عمي وأبنائه المجاور، والذي دُمَّر مع منزلنا. صعدت أعلى الركام سريعًا، أدور من حولي وأتذكر كل حجر أين كان موقعه في المنزل، خزانات المياه، الغسالة الملقاه في المنطقة الخلفية من الدمار وإلى جوارها بعض الأواني، وصفيح الزينجو تحول لكومة مكببة بدل أن كان مسطحًا.
كل شيء هنا قُتل.
احتضنت كل قطعة من الركام وأنا أبكي بصمت دون صراخ. وقفت لأكثر من ساعة أتفحص كل زاوية، حتى وجدت بقايا ما كان يزرعه أبي وشقيقي من شتلات وزهور فوق سطح المنزل، تفحصتها، فوجدت بعضها حيًّا فيه الروح ولم يُقتل، وكأنها تدفعني لأجفف دموعي وتخبرني أن أرسم بسمة على شفتيَّ ولو كانت صغيرة. تلك كانت نقطة الأمل التي ربما يحتاجها كلُّ فاقد، وأنا الفاقد لقرابة أربعين عامًا من الذكريات والتفاصيل التي باتت ركامًا.
وقفت وحدي دون زوجتي نور التي تكمل عملها الصحفي وسط القطاع، ودون طفليَّ علياء وجمال، اللذين غادرا إلى القاهرة في أبريل/نيسان الماضي. اقتربت من غرفتي نومهما التي تراكمت فوقها الحجارة الأسمنتية وبقايا المنزل، تذكرت كم من احتياجاتهم وأغراضهم الشخصية طالبوني بانتشالها والحفاظ عليها في وقت سابق إلا أنني لم ولن أتمكن من ذلك، وعلى الأغلب أصبحت تالفة لا تصلح لشيء.
بعد عودتي من العودة المؤقتة، هاتفني علياء وجمال، سألوا عن أغراضهم "بابا جبتلي الكورة؟"، "بابا طلعتلي الخرز؟"، اضطررت للإجابة بشكلٍ عام "معلش يا بابا، ما بقدر أطلِّع إشي حاليًا، بكرة بشتريلكم بدالهم، وبنجيب شغلات (أشياء) جديدة، كل إشي قديم انسوه، حتى غرف نومكم انسوها وبنجيب بدالها جديد"، قلت بكرة أي غدًا، لكن هل غدًا قريب! لا أعلم ولا أستطيع تحديد ذلك.
ودَّعت الركام والشتلات، ومشيت دون أن أحمل شيئًا من الأواني الناجية. تركتها كما هي، ونمت ليلة أخرى في منزل صديقي ثم قررت العودة إلى منطقة النزوح. لم أحتمل النوم في منزل غير منزلي في غزة، لم أحتمل أن أكون قريبًا منه لكني لا أستطيع العودة إليه، إلى داخله.
ثم إني مشيت ومشيت، حتى وجدتني في دير البلح وسط القطاع بعد 48 ساعة.
كانت طريق العودة أكثر يُسرًا، بعدما عَمِلَت طواقم البلديات على تسوية مؤقتة وبسيطة لمداخل الطريق من الجهتين، ودفن الخنادق التي صنعها الجيش الإسرائيلي خلال تمركزه على محور نتساريم لأكثر من سنة قبل انسحابه. لكن لا يزال هناك الكثير عليَّ عمله وتحضيره، أهمه تهيئة مكان بديل قريب من ركام المنزل، لأتمكن من إتمام عودتي الحقيقية إلى غزة، إلى منزلي الذي أجد فيه راحتي وأماني.