يوم الجمعة، 27 أكتوبر/تشرين الأول، وأثناء إرسالي المواد الإعلامية لـ المنصة كالمعتاد، انقطع كل الاتصال من موبايلي بشبكة الإنترنت. اعتقدت لحظتها أنّ الأمر مرتبط بمشاكل تقنية محلية، إلا أنني تبينت بعد دقائق أنّ المشكلة أكبر من ذلك.
كانت الساعة تُشير إلى السادسة مساءً، عندما تنبهت إلى اختفاء إرسال شبكتيّ الموبايل المتوفرتين في قطاع غزة "جوال" و"أوريدو" من شاشة الموبايل. في ذات اللحظة انتبهنا، أنا وزملائي، حيث كنا نجلس داخل خيمة مُخصصة لعمل الصحفيين داخل ساحة مُجمع ناصر الطبي بخانيونس جنوب قطاع غزة، لفصل شبكات الموبايل والإنترنت عنّا جميعًا.
فجأة لم يعد هناك عمل نرسله، كل ما عملنا على تصويره وكتابته والتحقق منه خلال اليوم، مات قبل أن يراه العالم في الخارج، مات قبل أن يعرف العالم قصص النزوح وقتل المدنيين ذلك اليوم.
حينما تنبهنا للأمر، كان الليل قد هبط، وصار من الصعب التحرك بالسيارة في الظلام الدامس، أو حتى التجول على الأقدام داخل شوارع المدينة، التي ادعى جيش الاحتلال الإسرائيلي أنها ضمن المناطق الآمنة، والتي طالب سكان النصف الشمالي من قطاع غزة بالنزوح لها.
مرت دقائق إلى أن وجد صديقي محمد قنديل تليفزيون داخل أحد أقسام المُجمع الطبي. تجمعنا أمامه نتابع الأخبار في محاولة لفهم ما يجري. لحظتها علمنا عن طريق مراسلي شبكة الجزيرة أنّ المُشكلة عامة على جميع أنحاء القطاع، وأن سببها إلقاء جيش الاحتلال وابلًا من المتفجرات، التي تحملها صواريخ طائراته على منطقة شمال غزة، مُستهدفًا خطوط ألياف الاتصالات ما بين القطاع والضفة الغربية.
فكرنا أن الانقطاع التام للاتصالات يعني أنّ العملية البرية، أو الاجتياح البري الكبير الذي تحدث عنه قادة الاحتلال على مدار أكثر من أسبوعين، أصبح على الأبواب. وسرعان ما أكد ظنوننا سماعنا لصوت اشتباكات كثيفة وانفجارات لقذائف الدبابات على المنطقة الشرقية لمدينة خانيونس، فيما بدا أنه اشتباكات بين الجيش وجنود المقاومة الفلسطينية التي كانت تنتظر دخول آليات وجنود الاحتلال.
لم أتمكن وقتها من تحديد مشاعري، هل هو قلق، توتر، أم خوف. سيطر علينا شعور بالتوهان والارتباك تلك الليلة. دون أي اتصالات، لم أتمكن من التواصل مع زوجتي نور وابنيَّ علياء 12 سنة، وجمال 10 سنوات، الذين نزحوا معي في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، من حي الرمال حيث نسكن شمال القطاع إلى منطقة أخرى جنوبًا بخانيونس، كما لم أتمكن من التواصل مع والديّ وأشقائي وشقيقاتي، الذين كانوا نزحوا أيضًا من الشمال إلى مخيم النصيرات وسط القطاع.
أصبح السؤال الذي يشغلنا جميعا كصحفيين داخل غزة هو كيف نؤمّن إنترنت بديلًا؟
جلست داخل سيارتي أستمع لبعض الأخبار عبر الراديو، ولكن غالبيتها كانت تحليلات نقلتها الإذاعة عن قنوات إخبارية فضائية، فالأخبار حول ما يجري فعليًا، على الأرض، شحيحة، تكاد تكون معدومة. ولا أعلم كيف غفوت فجرًا لساعتين داخل السيارة، ربما من الإرهاق النفسي والجسدي المتراكم منذ بدء العدوان الإسرائيلي مساء السبت 7 أكتوبر الماضي.
في اليوم التالي، السبت، أصبح السؤال الذي يشغلنا جميعا كصحفيين داخل غزة هو كيف نؤمّن إنترنت بديلًا؟ ماذا علينا أن نفعل كي نستعيد الاتصال بالمؤسسات التي نعمل معها؟ توصلنا أخيرًا إلى إمكانية استخدام شرائح اتصال إسرائيلية، ليتحول شغلنا الشاغل إلى البحث عنها وتوفيرها، وبالفعل تمكن عدد محدود منا، وبتكلفة تقارب الـ 100 دولار للشريحة الواحدة، من الحصول عليها.
كُنت من المحظوظين ربما، حيث تمكنت من الدفع والشراء وتفعيل الإنترنت، لكن بشكلٍ محدود، وبشرط أن أصعد إلى مكان مرتفع. صعدت أعلى بناية المستشفى، وتواصلت مع الزملاء في المنصة وأخبرتهم بما جرى معنا ويجري، نقلت واقع النازحين والمدنيين، والضرر الذي طال عمل الأطقم الطبية وطواقم الإسعاف والدفاع المدني جرّاء انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت، ثم تحدثت مع بعض الأصدقاء للاطمئنان عليهم وطمأنتهم. وكان لا بد من خطوة ثانية بعدها.
العودة إلى الشمال
السبت، الساعة 2:34 مساءً، أدرت محرك السيارة، وتوجهت لمكان إقامة زوجتي وأبنائي، وجدتهم في حالة خوف، وعدم فهم لما يجري، طمأنتهم ومَن معهم، قدر استطاعتي، واتفقنا على أن أزورهم مرة أخرى حسب الوقت والقدرة المتاحة لي للحركة. بعدها توجهت إلى مدينة غزة، 40 كيلومترًا تحت القصف وقذائف الدبابات، وصلت إلى منزلنا بحي الرمال وسط المدينة، للحظات شعرت بالطمأنينة عندما رأيته لا يزال واقفًا، فيما كانت عشرات المنازل القريبة منّا سُويت بالأرض.
أظنني محظوظًا، فبعد مرور الأسبوع الأول من بدء الحرب كنت حولت سيارتي من البنزين إلى الغاز. كلفني هذا وقتها 250 دولارًا، بالإضافة إلى شراء 4 أسطوانات من الغاز، كانت متوفرة وقتها. الآن لم يتبق معي سوى أسطوانة ونصف فقط. صرت أرقب العداد بقلق وأحسب تحركاتي بحذر. أغلب السيارات توقفت عن الحركة في القطاع لعدم توافر السولار ولا البنزين ولا حتى الغاز.
عدت أدراجي نحو والديّ بمخيم النصيرات، وصلت، وطرقت الباب في قلق، فتح والدي واللهفة تملأ نظراته، دعاني للدخول لكنني لم أتجرأ، لم أرغب في رؤية أحد، خاصةً بعدما علمت أنّ أمي توجهت للمستشفى برفقة شقيقي من أجل جلسة الغسيل الكلوي المعتادة، والتي تجريها يومًا بعد يوم، منذ سبع سنوات.
تبادلنا الحديث واقفين عند الباب، شاركنا بعضنا بعضًا ما نعرفه عمًا يجري، خاصة موضوع انقطاع الاتصالات، حمّلته سلامي لأمي وأشقائي وشقيقاتي وأبنائهم، ومشيت. كان الليل على وشك الهبوط، وكان لا يزال أمامي طريق محفوف بالمخاطر عليّ تجاوزه للعودة مرة أخرى إلى مُجمع ناصر.
عدت من حيث انطلقت، تابعت استمرار الاشتباكات التي لم تنقطع تقريبًا شرق خانيونس وسائر المناطق الشرقية، كما تابعت قصف بعض المنازل المدنية دون سابق إنذار من جيش الاحتلال. إلا أنّ شلل الحياة تفاقم؛ الماء أصبح شحيحًا حتى وصل الحال بنا إلى الشرب من مياه الصنبور، كما قايض بعض المواطنين فيما بينهم الخبز مقابل بعض المعلبات، ولا أحد يعلم ما هو قادم في ظل حديث قادة الاحتلال عن التجهيز والتحضير للمرحلة الثانية من الاجتياح البرّي الكبير.