تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الكلمة العاجزة أمام الرصاص في غزة

منشور السبت 31 مايو 2025

مع استعادة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شراسته الأولى، وبعد نحو عشرين شهرًا من الحرب، يفرض السؤال عن الغلبة، وما إذا كانت للأفكار والتصورات والرؤى والتعبير عن المشاعر، أم للرصاص؟ وكم من الوقت يستغرقه اعتراض كُتَّاب وأدباء ومفكرين وفلاسفة على فعل شرير حتى يؤتي الاعتراض ثماره؟

يمثل هذا السؤال الإطار الأعمق لتفسير ما نحن فيه، وهي ليست محنة الفلسطينيين وحدهم، بل تطال العالم بأسره، الذي تبدو فيه أفكار التفاهم والعيش المشترك والتقدم والنهوض، عاجزة، وبشكل مخز، أمام القوة المادية القاهرة، سواء ارتدت ثوب الاقتصاد، أو اكتست برداء الدم الذي يأتي في ركاب السلاح.

الحقيقة التي لا مراء فيها، أن الأفكار الطيبة في عالمنا المعاصر لم تعد قادرة على إحداث التغيير إلى الأفضل بوجه يكافئ طغيان المادة في سرعته وشموله، وتَمكُّنه من اجتياح كل شيء في طريقه وتحويل حياة الناس إلى جحيم، إن كان هناك من يريد ذلك، وفي يده السلاح والمال.

لقد رأينا وسمعنا مفكرين وأكاديميين وكُتَّابًا في الغرب نفسه يُبدون اعتراضًا على إبادة أهل غزة، لكن ما يقولونه ليس بوسعه تغيير الدفة نحو الرحمة والسَكينة، مثلما فشل من قبل في الانتصار للقضايا الكبرى في حياة البشر، التي تدور بالأساس حول قيم الحرية والعدل الاجتماعي والكفاية والتعاون.

وكان هذا واضحًا، وبفجاجة، لدرجة دفع واحدة من حائزي نوبل في الآداب، وهي الكاتبة الإنجليزية دوريس ليسينج، إلى تأليف كتاب قليل في كلماته، كثير وعميق في معناه، أسمته سجون نختار أن نحيا فيها، رأت فيه أن البشرية تعيد تدوير القمع والقهر والقتل والظلم بطرق متجددة.

في كل مرة يبني أحدٌ تلًا من عبارات التعايش، يهدمه قصف طائرة حربية أو دبابة أو مدفع

في الحقيقة، لم تخلُ أي حقبة في تاريخ البشر من منتجي خطاب الحض على الفضائل، لكن صوت هؤلاء يبدو خافتًا في وجه الضجيج المدوي الذي تحدثه زمجرة السلاح، ورنين المال أو رفيفه، فهذا وحده من يقدر بشكل سافر ومباشر وجهوري، ويقرِّر بالطريقة نفسها، ويفعل ما يشاء في واقع الناس.

نعم لا يمكن إنكار أن الكلمات تُحدث تغييرًا متمهِّلًا، ويعول أصحابها على أن تكون نتائج ما يقولونه ويكتبونه أكثر رسوخًا. لكن في كل مرة يبني هؤلاء تلًا من عبارات التعايش، يهدمه قصف طائرة حربية، أو دبابة أو مدفع، ويكون على أصحاب الكلام إعادة البناء من جديد، في انتظار هدم آخر، وهكذا في متوالية النار والدم.

ربما يعود هذا إلى أن القوى الشريرة نفسها تكسو فعلها الظالم بأردية من خطابات تمهد له وتبرره وتهندس النتائج المترتبة عليه ثم تسوِّقها، لتصبح القدرة على التغلب هي السائدة في تاريخ الإنسانية، وكأننا في سلسلة طويلة من القتل والدمار، تتواشج حلقاتها بلا انقطاع، حتى وإن تبدل الفاعلون في الزمان والمكان.

جزء، لا يستهان به من التفكير، ينصرف إلى خدمة الأشرار، ويكون لهؤلاء الغلبة، جراء توظيف السلاح في فرض الأمر الواقع، واستعمال المال في الدعاية للأفعال الخرقاء، وهي بوسعها أن تفرض نوعًا من الخطابات على ما عداها، وترسخ عددًا من الكلمات عما يناقضها أو يزاحمها، وتروج لأسماء تتبعها في وجه المخالفين لها.

ليس الاختلاف بين منتجي الآداب والفنون والأفكار المبشرين بالخير، وأمثالهم المنذرين بالشر، من قبيل "التنوع الخلاق" أو "التعددية"، إنما هو تعبير عن صراعٍ ضارٍ بين فريقين أو مسارين، وإن شئنا قلنا بين طائفتين، عطفًا على الصيرورة التي تنتظم فيها الحياة الإنسانية كلها وتتصارع.

وما يزيد الطين بلة أن التفاوت والخلاف بين الداعين إلى الخير، أيًا كانت معتقداتهم، أكبر وأوسع من ذلك القائم بين المنذرين بالشر، المهددين أو المحتفين بإنزاله على الأرض، وبعضهم يتوهمون أنهم يحسنون صنعًا. ويتفاقم الأمر أكثر حين ينتج الخطاب الديني قتلة أيضًا، يُسَيِّلُون الدم أنهارًا، ويفتحون للدمار فِجاجًا، باسم السماء، وهي من هذا براء.

يلعب الأشرار على غريزة "الفجور" في النفس الإنسانية، والتي هي أسبق فيها وإليها من "التقوى"، ويدركون أن هذه الغريزة تدفع الإنسان إلى البحث عن قوة، أيًا كان شكلها، لا تتوقف إلا بالموت، كما يقول المفكر الإنجليزي توماس هوبز في كتابه اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ويدركون أيضًا أن أغلب البشر ينحازون إلى القوة أسرع من انحيازهم إلى الحق، وأن الاستعباد والاستبداد يمكن أن يُستعادا على الأرض بطرق ناعمة مضللة.

في الوقت نفسه، لم تعد للمفكر الطيب قدرة على التأثير مع سيطرة أصناف من الخطابات العابرة والسطحية التي تعزز اللذة أيًا كان مصدرها، وتطلق النزوع إلى الاستهلاك والاستحواذ، أيًا كان صنفه. وهي خطابات تمتلك سحرها الخاص، الذي يجعلها جاذبة للأغلبية على سطح الأرض، لا سيما في عصر السرعة الذي لا يتمهل الناس فيه امتثالًا للأفكار التي تروم الحقيقي والواجب وما ينبغي أن يكون، بقدر تفكيرهم في النافع الذي يتمركز حول الماديات بدرجة أكبر.

لهذا لا يجب أن يملؤنا عجب شديد من أن كل الأصوات التي تنادي بوقف الحرب على غزة، ووضع حد لإبادة أهلها، لا تلقى، إلى الآن، طريقًا إلى التطبيق. فمنتج الخطاب والصورة واللحن والسرد، يصطدم دومًا بجدار من يصنع قراره ليس على أساس أخلاقي إنما لتحقيق الغلبة وفرض كل شيء بالقوة الجبارة السافرة، لا سيما مع تراجع دور السرديات الكبرى، وتحويل جزء من خطابات الخير إلى قلائد زينة، تخفي خلفها كل هذا القبح والتجبر اللذين يلطخان وجه البشرية.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.