تصوير باسل رمسيس، المنصة
إحدى سفن أسطول الصمود العالمي قبل انطلاقها من برشلونة إلى غزة، 30 أغسطس 2025

نحو خطاب غربي إسرائيلي داعم للقضية الفلسطينية

منشور السبت 6 أيلول/سبتمبر 2025

احتجاجًا على رفض حكومة تصريف الأعمال الهولندية فرض عقوبات إضافية ضد إسرائيل، استقال تسعة من وزرائها، فيما أعلن اتحاد الكرة النرويجي لكرة القدم عزمه التبرع بأرباح مباراته المقبلة أمام إسرائيل في تصفيات كأس العالم لصالح المساعدات الإنسانية لغزة، ومن الساحل الإسباني انطلق أسطول الصمود وعلى متنه مئات النشطاء من عشرات الدول في تحدٍ للحصار الإسرائيلي لغزة، وأخيرًا أعلنت بلجيكا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

تحول في الغرب

أربع وقائع توالت في الأيام الأخيرة، حملت الكثير من المعاني التي تفسَّر لصالح القضية الفلسطينية، وتنقل المواقف من الانفعال إلى الفاعلية.

تلك الوقائع تزامنت مع استمرار تعاطف الشارع الغربي مع القضية الفلسطينية، تعاطف كانت له مقدمات، حيث التحول في البيئة الاجتماعية/السياسية، المرتبطة بشعور الناس بأزمة "الديمقراطية التمثيلية"، ونفورهم من صعود موجات العنصرية، وإدراكهم لتأزم النموذج الليبرالي، إثر إصابة نالت من قيمه الأساسية، ومنها الحرية، والمساواة في الفرص وأمام القانون، وحرية التفكير والتعبير، علاوة على تصاعد النزوع إلى "الديمقراطية التشاركية"، ودرجة اهتمام تنامت في ذهنية الغربيين ووجدانهم بما يجري في العالم، مع "ثورة الاتصالات" التي حولت كوكب الأرض إلى غرفة صغيرة.

جاء هذا في ظل رؤى فكرية وفلسفية تدعو إلى مراجعة الكثير من المسلمات ومنها "معاداة السامية" و"حق إسرائيل في الوجود" كدولة دينية وعرقية، والصورة النمطية للعرب، التي سكنت الأدبيات الاستشراقية، ومناهج التعليم، والمواد التي يقدمها الإعلام، فضلًا عن الانحياز الصارخ لأغلب الساسة الغربيين لإسرائيل.

يتوجب علينا ألّا نكتفي بالإعجاب بموقف الشارع الغربي الداعم لفلسطين فقط

من بين هذه الرؤى بالطبع ما يخص اليهود أنفسهم، تبناها تيار "ما بعد الصهيونية" خاصة ما كتبه "المؤرخون الجدد" و"علماء الاجتماع النقدي"، وبعض المنظمات اليهودية التي ترفض قيام دولة إسرائيل لأسباب دينية وسياسية مثل حركة ناطوري كارتا/حراس المدينة، إلى جانب بعض الشخصيات اليهودية البارزة من بين المفكرين والكتاب والأكاديميين والفنانين.

لكل هذا نرى انفعال الناس في الغرب مع الحق الفلسطيني، ورفض كثيرين منهم للمواقف التي اتخذتها أغلب السلطات الرسمية الأوروبية والأمريكية، التي وصفت الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بأنها "دفاع عن النفس"، ورأت أن إمداد تل أبيب بالسلاح والمال والدعم الدبلوماسي والخطاب المؤيد، ضرورة تتماشى مع النظر إلى الدولة العبرية باعتبارها رأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي.

الإعجاب بموقف الشارع الغربي لا يجب أن يكفي أبدًا مناصري الحق الفلسطيني، من العرب أو غيرهم، بل عليهم الحفاظ على وتيرة التعاطف قائمة بلا انطفاء أو فتور وتحويلها إلى قوة دفع، تجعل مواطني أوروبا والولايات المتحدة خاصة يتفاعلون مع قضية فلسطين، ويبذلون الجهد في سبيل تغيير الموقف الرسمي الغربي لصالحها، ولو نسبيًا أو تدريجيًا، أخذًا في الاعتبار الطابع الاستراتيجي للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي.

خطاب جديد

نقطة البداية هي إنتاج "خطاب" موجَّه للغرب عن القضية الفلسطينية، على أساس النظر إلى أهمية البعد الثقافي في تحديد الاتجاهات السياسية، وهو أمر يأتي متمهلًا وبطيئًا لكنه راسخ المعالم، ويمكن أن تتوافر له فرص الوجود والانتشار بعيدًا عن أيدي الإدارات الحكومية ورقابتها، بخلاف الأشياء الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية.

هذا الخطاب لا تخلو منه الساحة العربية عمومًا، والفلسطينية خصوصًا، في ظل المقاومة المدنية للاحتلال الإسرائيلي، وهو خطاب تراكم عبر السنوات، وساهمت في إنتاجه جماعات وتنظيمات ومفكرون كثر وجدوا أن من واجبهم طرح أفكار دون توقف، ودفعها في أوصال الصراع سواء كانت رد فعل على الأفكار الصهيونية أو العربية المساندة لها، أو هي نتيجة التفاعل الداخلي الفلسطيني الذي لم يتوقف على مدار قرن من الزمن تقريبًا، أو أخذت شكل المبادرات التي لم تخل من مسؤولية وإخلاص وشجاعة.

على هذا الخطاب كشف وضع اليهود التاريخي في العالم العربي والإسلامي

الخطاب الذي نحتاجه اليوم يجب ألا يُغفل عدة نقاط، أولها طبيعة العالم الذي يتفاعل فيه هذا الخطاب، واللحظة الفارقة التي تتطلب من أصحاب الفكر بذل الجهد، ومحاولة إعادة صياغة الوعي بالتاريخ وبذاكرة الهوية الإسلامية في أوروبا، وذلك بإرساء مسار جديد، هو ذاكرة الحوار والعلاقات الأوروبية/الإسلامية.

سيكون على هذا الخطاب كشف وضع اليهود التاريخي في العالم العربي والإسلامي، لمواجهة فكرة تحمُّل العرب أعباء "المظلومية التاريخية" اليهودية أو تطهُّر أوروبا منها، على حساب الشعب الفلسطيني وفق الزعم المغلوط "شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب".

في ذات الوقت يجب إزالة التشويش الذي صنعته الدعاية الصهيونية، فما يحدث في فلسطين ليس صراعًا، فهذا يتطب تكافؤ بين طرفين متضادين، إنما هو "احتلال" أي عودة إلى جذوره، ستبين على الفور إن الأمر كان دائمًا بيد إسرائيل، وليس الفلسطينيين، الذين لم يطلبوا سوى "العدالة" بغية نيل حقوقهم المهضومة.

يستدعي ذلك شرحًا وافيًا لمقولات الحركة الصهيونية ومراميها، من أجل تعريتها بوصفها قصة واحدة لحركة سياسية تعرف بالصهيونية، تسعى للاستيلاء التام على فلسطين، والتركيز في الخطاب الموجه للآخر الغربي على الفروق الجوهرية بين "اليهودية والصهيونية".

نحن نسميه احتلالًا

نفس الأمر فيما يتعلق بعبارة "الدفاع عن النفس"، التي تبرر بها إسرائيل القتل والتدمير، فيما كانت دائمًا "المعتدي". يجب تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، ليكون الجيش الإسرائيلي للحرب وليس للدفاع حسب ما هو متداول، يشمل هذا بالطبع تقديم إسرائيل إلى العالم جزءًا من "مشروع استعماري تقليدي"، وكيف أن هذا يتصادم مع موقف من يناهضون أي قوة تشد عربة الحياة إلى الوراء.

من هنا تأتي أهمية التمييز بين العنف والمقاومة. من الضروري توضيح أن انخراط الفلسطينيين في التفاوض بدلًا من المقاومة المسلحة، لم يُغر إسرائيل بالتوقف عن قتل الآلاف منهم ومصادرة الأراضي الزراعية والمنازل واعتقال الآلاف وتعذيبهم.

العالم ليس الغرب لذا يجب التواصل مع الشعوب في آسيا وإفريقيا

في السياق نفسه يجب أن يتضمن الخطاب شرحًا وافيًا لتهرب إسرائيل من استحقاقات السلام، التي نصت عليها اتفاقيات وقعتها مع الفلسطينيين، بعد أن ظهر للجميع أن إسرائيل ترفض حل الدولتين، ولم تبد موافقة على هذا التصور الذي حمله اتفاق أوسلو 1993 إلا لكسب وقت تقضم فيه بانتظام أرض الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم تخطط لتهجيرهم جميعًا، دون أن ينجو من هذه الخطة فلسطينيو 1948 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

سيدعم ذلك بالطبع أنسنة القضية الفلسطينية في الخطاب، والفرار من القفص الإسرائيلي الذي يريد حبسها في صراع ديني حيث يريد نتنياهو.

من الضروري أيضًا إبراز موقف وخطاب المسيحيين الفلسطينيين، الذين يتعرضون لاضطهاد وتمييز شأنهم شأن المسلمين، يفيد هذا في مواجهة قطاع من المسيحية الغربية المتصهينة، لا يعرف أغلبه أن هناك مسيحيين، حتى لو كانوا ينتمون لطائفة أخرى، لا يؤمنون بالأفكار التي يروجها اليهود عن "أرض الميعاد" والنبوءات الراسخة في الأذهان حول الخلاص المنتظر.

العالم ساحة للتضامن

من المفيد أن تدرك المساعي الرامية إلى تحويل الانفعال مع القضية الفلسطينية إلى تفاعل، أن العالم أوسع من الغرب، لذا يجب التواصل مع الشعوب في آسيا وإفريقياـ تعويلًا على كسب رأي عام إضافي، يضعط على أعصاب الغرب الرسمي والشعبي الذي يقف خلف إسرائيل، ويبحث، في الوقت نفسه، عن تأييد في المحافل الدولية، ينصر الشعب الفلسطيني، أو يدعو إلى رفع الظلم عنه.

لا يمكن تجاهل الغرب كساحة فاعلة في نصرة الحق الفلسطيني، أيًا كانت الاختلافات أو تعدد وجهات النظر حول ما يسمى "الحل النهائي". فكما كان الغرب يمثل القوة التي دفعت إلى إنشاء إسرائيل، سواء بإداراته الحاكمة أو مؤسساته الدينية والثقافية، فلا يمكن استبعاده من تحديد مسارات هذا الحل، أو تعيين مداه الزمني، في ظل توازن القوى الدولية كسياق أوسع يحيط بالقضية الفلسطينية، أو التوازن الذي تخلقه الأوضاع الإقليمية بين المقاومة وإسرائيل.

إن ما جرى في هولندا والنرويج وانفعال الشارع الغربي عموما بالقضية الفلسطينية، وعلى نحو لافت، بعد تواريها في الخلف وهيمنة تصور "الأمر الواقع" الذي تفرضه إسرائيل، هو دون شك تصرف إيجابي يجب البناء عليه، لنجعل انشغال الأوروبيين والأمريكيين بفلسطين أمرًا دائمًا، لا يقف عند حد الاحتجاج أو الصراخ أو المطالبة المؤقتة بكف أذى إسرائيل عن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى داخل إسرائيل نفسها، وأن يُترجم إلى عمل حركي يقظ، يتبلور في أشكال مؤسسية أو منتظمة تمثل روافع لنصرة الحق الفلسطيني المهضوم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.