يخشى البعض من اتساع نطاق الحرب الإسرائيلية على غزة وتحولها إلى حرب إقليمية. حسنًا، الحربُ إقليميةٌ وبدأت بالفعل، وكل طرف له حساباته التي ستحكم توقيت تحركاته ونطاق وحدود اشتباكه، والولايات المتحدة هي الطرف الرئيسي في الحرب، وأرض فلسطين مسرحها، ومصر في قلبها شاءت أم أبت.
تستثمر في هذه الحرب الإقليمية أطراف كثيرة بصيغ مختلفة، فالحروب لا تندلع إلا بتوافق وتواطؤ أغلب أطرافها، وتعريف المكسب والخسارة فيها تحدده أهداف كل طرف من الحرب، وليس نتائجها العسكرية وحدها أو التورط العسكري من الأصل، وهنا تظل الولايات المتحدة اللاعب الأهم والأكبر.
مدخل لفهم شهية الحرب المفتوحة
عندما تقرأ عزيزي القارئ اقتباسًا يقول إن "النمو الاقتصادي المثالي لا يمكن ضمانه إلا في ظل اقتصاد حرب أبدي"، ربما تظن أنه جاء على لسان أحد الحمقى النازيين من دائرة هتلر المقربة، هيرمان جورنج أو مارتن بورمان مثلًا. قليل من أبناء لحظتنا الراهنة يعرفون أن صاحب هذه المقولة هو تشارلز ويلسون، رئيس مجلس إدارة شركة جنرال موتورز الأمريكية، ورئيس لجنة التصنيع العسكري الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، ووزير الدفاع لاحقًا.
أعلنت الولايات المتحدة مع اللحظات الأولى لمواجهات 7 أكتوبر/تشرين الأول أن حرب إسرائيل الجديدة حربها، وفي غضون أيام قليلة اتضَّح أنَّ القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي محكوم في كل تفاصيله برأيٍ أو فيتو أمريكيٍّ ما. عادت الولايات المتحدة إلى المنطقة لكن هذه المرة؛ من أجل احتلال وإدارة ولايتها الشرق أوسطية المسماة إسرائيل، بعد أن غرق هذا الكيان في الانحراف والفشل والبله اليمينيِّ.
لكنَّ استثنائية العلاقة الأمريكية الإسرائيلية لا تفسر وحدها المشهد الحالي بتطوراته المتلاحقة، وهو مشهد لا يمكن النظر إليه بمعزل عن مجمل وضع دولي تشكلت ملامحه في السنتين الماضيتين، وهو محكوم في تفاعلاته بعنصرين مؤسسين من وجهة نظري.
العنصر الأول هو استمرار نواتج أزمة مالية كبرى ضربت العالم عام 2008. هذه الأزمة بنيوية، ربما تم احتواؤها مؤقتًا لعدة أعوام، لكنها لم تتوقف وأسبابها لم تُعالج. وظلت المراكز الرأسمالية الكبرى في خلاف على طريقة إدارتها، لا أقول تجاوزها حاشا لله، هذا الخلاف وصل إلى مستويات من التخبط، واتخذ أشكالًا شديدة التوتر بين المراكز السياسة في الولايات المتحدة نفسها، ثم جاء وباء الكوفيد ليعلن استئناف الأزمة من جديد، ولكن بعنف هذه المرة.
العنصر الثاني هو أنَّ خيارات التعامل مع هذه الأزمة قديمة وغبية، إشعال أزمات سياسية يفرض فيها السلاح كلمته فيسترد المكوِّن العسكري للإمبراطورية الرأسمالية عافيته، وأعني هنا الجيش الأمريكي تحديدًا، بالشكل الذي يساعد مُركَّبات الرأسمالية الأمريكية، التي تشكل وحدها ربع اقتصاد العالم، على فرض شروطها الاقتصادية على شركائها قبل أعدائها.
لقد قررت الولايات المتحدة عسكرة العالم من جديد، ولكنه عالم يمتلك مقومات فنائه النووي ألف مرة.
نظام لا يصمد أمام تفاهة أسسه
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991، أُعلن تأسيس "نظام عالمي جديد". لم يأخذ الإعلان صيغة رسمية ومنظمة على طريقة إنهاء الحرب العالمية الثانية بتأسيس منظمة الأمم المتحدة، فالأطر المنظمة للنظام العالمي الجديد كانت ضبابية وهائمة، أخذت شكل إعلان أمريكي اعتبر العالم أسرة دولية، تُستثنى منها دول سُمِّيت أولًا بالدول المارقة/rogue states ولاحقًا أصبح اسمها محور الشر/axis of evil.
الصيغة السابقة تعاملت مع العالم كوحدة كوكبية جامعة تشكل نظامًا مثاليًا، في مواجهة عدد من الدول والكيانات الهامشية، تُشكِّل في استثنائها الشاذ قاعدة لهذا النظام، فعلى سبيل المثال؛ نجحت الحرب على تنظيم القاعدة في إضفاء صفة الكوكبية على نفسها، عندما اصطفَّت كل دول العالم في مواجهة تنظيم "مجنون"، عدا دولة واحدة غير معترف بها اسمها أفغانستان طالبان.
مشكلة إسرائيل في هذا المشهد أنها حليف لا يستر عورة أصدقائه
لكنَّ الاختبار الحقيقي والأكثر جدية لهذا النظام العالمي؛ كان اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل عامين، عندما فشلت الولايات المتحدة في عزل روسيا وتصنيفها كدولة مارقة، رغم الفظاعات التي ارتكبتها وترتكبها روسيا. في النهاية، روسيا ليست كوريا الشمالية أو كوبا، والانسياق الدولي وراء حلف على استعداد للتصعيد الشامل مع قوة نووية ليس سهلًا.
من هنا تشكَّل مشهد عالمي جديد، تملصت فيه الصين والهند والبرازيل وإيران وحتى الإمارات وإسرائيل، فضلًا عن أغلب المجال السوفيتي لروسيا، من محاولات الولايات المتحدة عزل روسيا بالكيفية التي تصوَّرتها.
وإزاء الفشل في "عولمة" الصراع مع روسيا، قررت واشنطن إعادة اختراع وتشكيل معسكر اسمه "الغرب"، ليس هناك شيء اسمه "الغرب" بالطبع، ولكن هناك محاولة لخلقه خلقًا من جديد، وكعادة الأمريكيين فهم يريدونه معسكرًا يرسم حدودًا فاصلة بين الخير والشر، لم تعد "الديمقراطية" بالضرورة معيارًا لرسمها.
في الحقيقة، ما تزال الولايات المتحدة حتى الآن تبحث عن عنوان لهذا الغرب الذي لم يتقرر بعد.
الطريق إلى ستار حديدي غربي
مع انفجار الوضع في الشرق الأوسط، تحركت القوات الأمريكية وأعادت الانتشار في البحر المتوسط بدعوى حماية إسرائيل، ستسعى أمريكا من خلال هذه الحرب إلى إعادة نوع من السيطرة الخشنة على حلفائها في المنطقة، وأولهم إسرائيل نفسها، السيطرة التي بدأت تنفلت من يدها في السنوات الثلاثة الماضية وربما لحدود مهينة، حتى أن دول الخليج وإسرائيل عبرت في أكثر من موضع عن عدم اكتراثها بما اعتادت الولايات المتحدة إملاءه عليهم في السابق.
ومن ناحية أخرى أعلنت الولايات المتحدة أنها قادمة إلى المنطقة لمنع اتساع دائرة الحرب إقليميًا، بمعنى عدم تطور الصراع إلى صدام عسكريٍّ مباشر بين إيران وإسرائيل، وردع الأولى عن المبادرة بالاشتباك. هنا تعلن واشنطن إمكانية فتح جبهة عالمية جديدة، ترسم من داخلها حدودًا بين الشرق، الذي سيتم تعريفه لاحقًا بالتضاد، مع ذلك الغرب الذي لم يتم تعريفه حتى الآن.
بالطبع تحاول الولايات المتحدة وبغباء مدهش يُثير الخوف، تصوير الصراع الحالي باعتباره حربًا عالمية على الإرهاب على غرار ما بعد 11 سبتمبر، وتستخدم في ذلك نيرانًا سياسية وإعلامية كثيفة ودوجمائية، وتجند كلَّ حلفائها الأوربيين للعزف في نفس الجوقة، لدرجة حوَّلت الإعلام الغربي إلى ماكينة بروباجندا، لا تختلف كثيرًا عن إعلام السلطويات التي طالما سخرت منها "الديمقراطيات".
لا يمكن أيضًا إغفال الصدام الأمريكي مع حكومة نتنياهو اليمينية قبل أشهر، بسبب أزمة تعديل قوانين السلطة القضائية، بشكل يحوِّل الدولة الصهيونية إلى كيان عسكري سلطوي مدعوم بميليشيات استيطانية، وما أسفرت عنه من احتجاجات عنيفة في الشارع الإسرائيلي بلغت حدَّ الصدام الأهلي، والدهس المتبادل بالسيارات، بل واتهام حلفاءُ نتنياهو خصومَهم بأنهم طابور خامس ينفذ أجندات أمريكية، ومدعومين من جورج سورس ومؤسسات المجتمع المدني الغربية المشبوهة، وهي مقولات مألوفة لنا تمامًا في مصر.
الخلافات الأمريكية الداخلية تشكِّل عاملًا رئيسيًا في أسباب التدهور الدولي
مشكلة إسرائيل إذن في هذا المشهد أنها حليف لا يستر عورة أصدقائه، وصارت هى الحلقة الأضعف في المعسكر الغربي الذي يجري تأسيسه قسرًا. ففي مواجهة التغطية الإعلامية المهووسة التي ترى نفسها جزءًا من آلة حربية داعمة لإسرائيل، فتكذب ببرود وإجرام لتحقيق أهداف الحرب النهائية، تتزايد الأصوات الداعمة للحق الفلسطيني على الرغم من عدم شعبية حماس في الرأي العام الغربي.
استمرار "الغرب" في دعم إسرائيل له كلفته السياسية المحلية، في مواجهة واقع ديموغرافي جديد، يُشكل العرب والمسلمون فيه رقمًا صعبًا. تتحول الحالة الغربية الآن إلى نوع من العصاب الذي يخاطب هواجسه، ويردد أكاذيب حربية بلهاء يكشفها تدقيق بسيط، ويتمسك بسرديات لا تصمد إلا بالقسر، وتكميم الأفواه، وقطع الأرزاق، والاغتيال المعنوي، بل وسلب الحريات أحيانًا.
لكن في النهاية تبدو هذه المعركة مهزومة حتى لو انتصرت لوهلة، ويدرك القائمون عليها فداحة الخسائر الاستراتيجية المترتبة عليها، وهذا بالذات ما يفسر العصاب والتوتر الجاري.
لا يمكن فهم كلَّ ما سبق إلا في سياق الخلافات الأمريكية الداخلية، التي تشكِّل عاملًا رئيسيًا في أسباب التدهور الدولي، لأنها خلافات عميقة وعابرة للحزبين الحاكمين، وتمثل تصورين متصادمين لصيغة الهيمنة الأمريكية على العالم؛ الأول هو تصور أمريكا المتعولمة المتمددة، والثاني أمريكا الإمبريالية المنكمشة.
كلُّ تصور من هذين مدعوم بمصالح مادية عملاقة، ومُركَّبات سياسية متداخلة ومفردات خطابية، أصبحت مع الوقت تتسم بالتناقض والارتباك وتداخل الخطوط.
يُهيمن التصور الأول داخل مؤسسات الحزب الديمقراطي، ويستند في أسسه على نفس الذهنية التي سادت عالم ما بعد السوفييت، حيث الولايات المتحدة إمبراطورية تحمل رسالة وقيمًا دولية نافذة، عنوانها نشر الديمقراطية وثقافة حقوق الانسان وعولمة الثقافة وتنوعها.. إلخ إلخ، والرأسمال فيها عابر للقومية تمامًا، ويتعاون مع المُركَّبات غير الأمريكية، ويتداخل معها بل ويتنازل لها أحيانًا عن طيب خاطر، في سبيل التراكم والربح.
على المستوى المحلي يريد هذا التصور بلدًا يحتفى بالتنوع ويشجعه، حيث البيض من الأمريكيين مجرد جماعة من بين جماعات. بلدًا ينتخب أول رئيس أسود وأول رئيسة أنثى وأول رئيس مثلي وأول رئيس روبوت، لكنْ كلُّ هذا في إطار صياغة أمريكا كوجود تتوحد فيه القوة والإمبراطورية والرأسمال والسيادة العالمية في معنىً واحد.
في اللحظة الراهنة أصبح هذا التصور مأزومًا، مع استسهاله تفجير الحروب في بقع مختلفة من العالم، وفشل أكثر من مرة في إرساء أسس خطابية وأخلاقية تضفي شرعية على "تَعَوُلم" قوته، فإذا به يجد نفسه مضطرًا للعودة إلى صيغة الحرب الباردة القديمة، حيث معسكر غربي متماسك وخاضع للولايات المتحدة، يواجه شرقًا شريرًا ما.
الإشكال هنا أن "المعسكر الغربي" هو من يضع نفسه هذه المرة خلف ستار حديدي، وبالتدريج، ودون أن يدرى.
لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا
التصور الثاني أقل طموحًا؛ يريد إمبراطورية منكمشة معادية للتعولم، وشعاره سنجعل أمريكا عظيمة مجددًا، الشعار الذي عبّر عن نفسه بوضوح في عهد دونالد ترامب، مقابل التصور الليبرالي الذي يراها عظيمة بالفعل.
يستثمر التصور الثاني في خطاب قومي أمريكي، ومناداة برأسمالية أمريكية أكثر صفاءً، ولا يجد ضرورة للانغماس في كل عناصر المشهد الدولي إلا بقدر ما يحقق المصالح الأمريكية المباشرة جدًا وبصيغة الصفقة أو الصفعة، ولا يكترث كثيرًا بالقيم الأمريكية المتعولمة ويتصالح أكثر مع النظم السلطوية.
في ظله، الإمبراطورية الأمريكية عدوانية، ولكن كعملية جراحية تجري بقسوة شديدة، تُذكِّر العالم بقوَّتها وجبروتها عندما يتطلب الأمر. وعليه يمكن لدونالد ترامب أن يقتل قائدًا إقليميًا بوزن قاسم سليماني بغارة متهورة، أو يقصف بشار الأسد حين يستخدم سلاحًا كيميائيًا ضد شعبه، لكنه لن يقدم بنفس مستوى التهور على مخاشنة روسيا فيما تعتبره مجالها الحيوي، إلى حد دفعها لشنِّ عدوان كامل على بلد أوروبي كبير.
يتجلى الصراع بين التصورين في أسلوب تعاملهما مع الإشكال الصيني. يعترف الأول بتداخل رؤوس الأموال الأمريكية والصينية إلى درجة لا يمكن معها فصلهما، فينتهج مع بكين سياسة احتواء تأديبي لتقديم تنازلات جوهرية في إطار علاقة شراكة لا يمكن فضها، في حين يعتبر التصور الثاني الصين عدوًا اقتصاديًا وجوديًا تجب منافسته بشكل قومي وحرمانه من الاستثمارات الأمريكية التي تساعد في تراكم رساميله هو.
الخلاف هنا أمريكي حول طريقة إدارة التجبُّر دوليًا. التصور الثاني أكثر واقعية مع تقادم صيغة الإمبراطورية المهيمنة عسكريًا وثقافيًا وأخلاقيًا، بينما التصور الأول "الليبرالي" في مظهره أكثر رفضًا لتجاوز مرارة الواقع الجديد.
وأريد هنا بينما أختم هذا المقال الطويل، أن أعرب عن قلقي الشديد من مستوى الرعونة والتهور الشديد للإدارة الأمريكية الديمقراطية الحالية، الذي يدفع مناطق مختلفة في العالم إلى منزلقات تفوق كل تصوراتي. فمنذ شهر زفَّ جو بايدن للعالم فجأة نبأ إنشاء خطٍّ تجاريٍّ دوليٍّ يبدأ من الهند وينتهي في تل أبيب، ليتصل بأوروبا عبر اليونان. وفي مساره الشرقي؛ يربط الإمارات بإسرائيل، خطُّ سكة حديدي يمر بالسعودية والأردن. أعلن بايدن عنه كمشروع سيغير وجه البشرية.
يُعاد تشكيل حركة التجارة في المنطقة والعالم؛ بمشروع بوزن اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وشق قناة السويس، بمعزل عن إرادة دول بوزن مصر وإيران وتركيا. لا يحتاج الفرد منَّا إلى الكثير من الذكاء ليفهم أنَّ محاور سياسية ستنشأ من داخل هذه المحاور التجارية الاستراتيجية لحماية مصالحها.
وأثناء المرور بين طيات هذا المشروع، تتم تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، ويُمنح هذا الثور الصهيوني المأفون شريانًا تجاريًا استراتيجيًا، فما الغريب إذن لو حاول سجن غزة تفجير نفسه بدعم ومساعدة وتواطؤ أطراف أخرى؟ ولماذا لا ينتهى الأمر في النهاية بانتداب أمريكي على فلسطين، لنبدأ من جديد؟