يجنح كتّاب وباحثون ومفكرون عرب، يتسترون بعباءات التنوير والحداثة، ومعهم صُنّاع قرار في قصور الحكم، ودبلوماسيون في أروقة وزارات الخارجية، إلى تقسيم ساسة إسرائيل، إلى فريقين، وفق ثنائية؛ الحمائم والصقور. وينادي هؤلاء بخطأ التعاطي مع رجالات السياسة في دولة الاحتلال، بمنطق "أن كلهم سواسية كأسنان المشط"، أو بتعبير اللهجة المحكية يدعون إلى عدم "وضع أبو قرش على أبو قرشين".
على أن تلك الثنائية، لا يبدو أن محلًا لها إلا في خيالات مُريديها ومروجيها، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بغض النظر عمّا إذا كانت ليكودية أو عمالية أو ائتلافية، ورغم ما كان يقع بينها من تباين، لم تنقسم أو تختلف، حتى ولو هامشيًا، بشأن قتل الفلسطينيين، أو الحيلولة دون تأسيس دولة، ولو على مساحة ضئيلة من أرضهم. وكذلك لا خلافات بينهم حول تهويد القدس والمسجد الأقصى، أو هدم بيوت المقدسيين، أو تهجير سكان غزة، وما إلى ذلك من ممارسات عنصرية فظة.
في مسألة سفك الدم الفلسطيني، لا فرق بين إسرائيلي وإسرائيلي، فمجرم الحرب أرييل شارون قائد مجزرة صابرا وشاتيلا، هو وجه العملة الآخر لإسحاق رابين، الذي اغتاله مستوطن من أصول يمينية، بذريعة أنه "يُفرّط في أرض كنعان".
بل إن رابين ذاك، رغم وصفه إسرائيليًا وعربيًا بأنه "حمامة سلام" كأنه نيلسون مانديلا مثلًا، لا يعدو بدوره إلا أن يكون سفاحًا، نشأ في "البلماح" أي سرايا الصاعقة التابعة لـ"الهاجناه" التي تولت مهام تهجير الفلسطينيين، وتنفيذ تفجيرات إرهابية تحت الانتداب البريطاني، منذ عام 1941 وما بعده.
متطرف واضح وآخر مستتر
على هذا الأساس، فإن الساسة في إسرائيل، ليسوا حمائم وادعة، أو صقورًا جارحة، وإنما ينقسمون إلى متطرف ناعم وآخر خشن، واحد يعطي من طرف اللسان حلاوة، ويروغ كالثعلب، وثان فظ غليظ القلب، يبدي البغضاء جهرًا بغير تزويق.
مردُ ذلك أن تركيبة دولة الاحتلال البنيوية، لا تحتمل غير التطرف عقيدةً ومنهجًا وممارسةً. والأرض التي سُلبت من سكانها، لتكون أرض ميعاد للقادمين من كل فج عميق، ليس ممكنًا الاستقرار عليها إلا بإفناء أصحابها الأصليين، فوجودهم يجعل ملفات القضية مفتوحة.
لماذا يحرر العرب شيكات التطبيع لمرابٍ غشاش مقابل بضاعة مستحيل أن يحصلوا عليها؟
لكن حتى إن اعتبرنا تقسيمة "الحمائم والصقور" صحيحة، وغضضنا الطرف عن معطيات الواقع الدامغة، فإن التقارب العربي، أو التكالب العربي الرسمي على التقارب مع الائتلاف الحكومي اليميني الذي يتولى مقاليد الأمور الآن، يبدو غير مفهوم. والمؤكد أن انتظار أي شكل من أشكال السلام مع هذا الائتلاف، أشبه ما يكون باستخلاص "السمنة من ورك النملة"، كما يقول المثل الشعبي.
إن التمعن في تركيبة الائتلاف الذي يقوده نتنياهو، من حيث كونه يتشكل من أحزاب الليكود، ويهودية التوراة، وساش، والحزب الصهيوني الديني، وعوتسما يهوديت، ونعوم، وهي كلها أحزاب يمينية، إنما يكشف عن أننا إزاء توليفة من دعاة سحق العرب، يتبنى جميع أعضائها مقولات استعلائية تلمودية، تجعل "الأغيار" في مصاف الدواب الذين خلقهم الرب لخدمة شعبه المختار.
في هذا السياق، تأتي هرطقات نتنياهو قبل أيام بأن جيش إسرائيل سيحقق نبوءة العهد القديم الواردة في سفر إشعياء، في حربه ضد حماس. والثابت يقينًا أن الاستناد في خطبة رسمية على السِفر الذي يصف آل إسرائيل بـ"أمة النور"، وسواهم من الأمم بـ"أهل ظلام"، لا يفيد سوى أن الكيان الصهيوني متمسك بالمنطلقات الفكرية اليمينية، أو على الأقل يناغي نوازع التشدد في نفوس مستوطنيه، وكلا الاحتمالين يفضي إلى النتيجة ذاتها.
أشد الحكومات يمنية
هذه أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل. هكذا علَّقت بي بي سي البريطانية، بعد إعلان نتنياهو تشكيل حكومته، فيما عنوَّنت يورو نيوز تقريرها "نتنياهو يعود بحكومة سادسة.. يمينية متطرفة متشددة متزمتة"، ورأت شبكة مونت كارلو الفرنسية أن نتنياهو الذي يواجه تهم فساد، سيقود طائفة من المتشددين في وقت حرج.
والأخطر من ذلك كله، أن كاتبًا إسرائيليًا، هو يانيف ساجي، حذر من خطورة هذه الحكومة المتشددة على علمانية الكيان، ودعا في مقال بصحيفة هآرتس العبرية إلى تشكيل ائتلاف يساري موازٍ، لوقف قانون السلطة القضائية الذي كان مرّره نتنياهو والذين معه.
تلك ليست مقولات أحزاب عربية قومية بعثية أو ناصرية، وليست أوصاف أسبغتها على ذاك الائتلاف حركتا حماس والجهاد، وإنما تقديرات الإعلام الغربي مع الأخذ بعين الاعتبار أن دأب هذا الإعلام أنه يطفف الميزان، ولا يقيم الوزن بالقسط، إذا ما تعلّق الأمر بالكيان الإسرائيلي، فكفته صهيونية دائمًا.
وهو ما يطرح الأسئلة مجددًا: لماذا تهرول عواصم عربية للحاق بقطار التطبيع؟ وهل ثمة فرصة لإبرام سلام بأي صيغة مع حكومة يصفها الغرب، ومعه الإسرائيليون أنفسهم، بأنها الأكثر يمينية؟ ولماذا يحرر العرب شيكات التطبيع لمرابٍ غشاش مقابل بضاعة مستحيل أن يحصلوا عليها؟
إن أحدًا لا يملك إجابة عن هذه الأسئلة المبهمة، فحتى المبرر الأكثر استعمالًا من قِبل الكتّاب والمحللين، الذي يذهب إلى أن ثمة ساسة في قصور عربية، يفتقرون إلى الشرعية السياسية والأخلاقية المعنوية، يجدون مبتغاهم وضالتهم في "الحنجلة" على مسارح حانات التطبيع الموبوءة، فلاذوا بها عساهم يحظون بالرضا من البيت الأبيض عبر بوابة تل أبيب.
وصول نتنياهو وعصبته المتطرفة، إلى سدة الحكم، أشاع الخوف في نفوس أنصار مدنية الدولة في إسرائيل
حتى هذا المبرر لا يكفي تفسيرًا، ولا يستقيم تأويلًا، ذلك أن قصور الحكم ذاتها، بوسعها إن أرادت أن تجد مبررات لوجودها، أن تستدعي هتافات الستينيات، وبإمكانها رفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ولو على سبيل "النضال بالحناجر"، وعندئذٍ ستصطف الشعوب تحت راياتها، فتغدو شرعيتها من شرعية عدالة القضية التي تعلو في الوجدان الجمعي العربي من نواكشوط حتى مسقط.
نمو سطوة "الحريديم" وهروب "الأشكناز"
وبعيدًا عن ممالك وإمارات وجمهوريات التطبيع، وكذلك بعيدًا عن توليفة الحكومة اليمينية، فإن المجتمع الإسرائيلي بدوره يمضي نحو المزيد من التشدد، إلى درجة أن معهد الديمقراطية الإسرائيلي رصد في تقرير حديث ارتفاعًا مطردًا في نسبة يهود الحريديم المتشددين، مُرجِّحًا أنهم سيشكلون أكثر 16% من السكان، نهاية العقد الجاري، بزيادة نحو 3% عن نسبتهم الحالية.
على الصعيد ذاته، فإن الزلزال السياسي المتمثل في وصول نتنياهو وعصبته المتطرفة، إلى سدة الحكم، أشاع الخوف في نفوس أنصار مدنية الدولة في إسرائيل، إلى درجة أن عمليات الهجرة العكسية أخذت في النمو، إبان المظاهرات الغاضبة من تمرير قانون السلطة القضائية. حتى أن رجل الأعمال الأمريكي اليهودي مردخاي كاهانا هرع إلى تأسيس حركة باسم "لنغادر البلاد معًا"، لتسهيل سفر آلاف الإسرائيليين، إلى الولايات المتحدة. وفي المقابل، هرع الائتلاف الحاكم إلى بحث تشديد إجراءات منح الجنسية، التي كان يحظى بها المهاجر ما إن تطأ قدماه "أرض الميعاد"، وذلك تحت ذريعة الحفاظ على يهودية الدولة.
ومن نافلة القول، أن الهروب من إسرائيل ارتفعت وتيرته ربما بشكل غير مسبوق مع عملية طوفان الأقصى، رغم حرص دولة الاحتلال على التغطية، والسبب معروف طبعًا، وهو الحفاظ على الروح المعنوية للمستوطنين، بعد انهيارها يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتكفي المشاهد المتداولة على السوشيال ميديا للمستوطنين إذا يتقاطرون وحدانًا وزرافات إلى مطار بن جوريون يوم الثامن من أكتوبر، دليلًا على أن مصطلح "النزوح" لم يعد فلسطينيًا فقط.
اليهودي العلماني يريد الهروب من جحيم أرض الميعاد، في حين تقل نسبة المهاجرين
كما تفيد شهادات متواترة من الضفة الغربية، بأن المستوطنين يصطفون أمام مكاتب شركات الطيران، كل ينشد "تذكرة نجاة"، وهذه شهادات مقبولة عقليًا بالنظر إلى مشاهد ومنعطفات تاريخية مماثلة، شهدت فرارًا جماعيًا من قِبل "أولئك الغرباء" عن الأرض.
إن الإسرائيليين سرعان ما يقفزون من السفينة، حين تشتد الرياح، كونهم ليسوا منها وليست منهم، كما يقرر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، في عبارة جامعة مانعة.
ومصداقًا لذلك، فإنه وفق بيانات صدرت قبل نحو أربعة أعوام عن مركز الإحصاء الإسرائيلي، فإن عدد الذين غادروا فلسطين المحتلة، في غضون عملية العصف المأكول عام 2016 بلغ 16 ألفًا و700 مستوطن، لم يعد بعد أن وضعت الحرب أوزارها إلا نصفهم.
على أي حال، رحيل المهاجرين اليهود ليس ظاهرة مستجدة، غير أنها صارت أكثر تفاقمًا في العقدين الأخيرين، هذا مع تراجع أعداد الوافدين من قارتي أمريكا وأوروبا، بنسبة لا تقل عن 20%، وفق إحصائيات وزارة الهجرة واستيعاب القادمين الجدد الإسرائيلية.
وهي إحصائيات تكشف أيضًا أن نحو ثُلث الإسرائيليين يفكرون في العودة إلى بلدانهم الأصلية، خوفًا من تنامي التطرف، وإثر حزمة القوانين المقيدة للحريات، وكذلك خوفًا من تصاعد عمليات المقاومة، الأمر الذي يهدد ديموغرافية دولة الاحتلال، مع العلم بأن نصف مستوطنيها العلمانيين "الأشكناز" لا يزالوا يحملون جوازات سفرهم الأصلية، أي أنهم على أهبة الاستعداد للفرار، متى كان ذلك ضروريًا.
لماذا لا يهاجر اليهودي الحريدي؟
هكذا يبدو المشهد، أن اليهودي العلماني يريد الهروب من جحيم أرض الميعاد، في حين تقل نسبة المهاجرين أو تنعدم في أوساط اليمينيين المتشددين، وذلك لعوامل متشابكة، منها أن "الحريديم" هم الفئة الأكثر تمسكًا بالمقولات التلمودية ذات العلاقة بأحقية اليهود في أرض كنعان، وهم يتبنون التفاسير الأشد غُلوًا على غرار أن "المسيح اليهودي"، أو قل "المهدي اليهودي المنتظر"، سيهبط من السموات ليقيم مملكة الرب على هذه البقعة "المقدسة"، ومن ثم فإن الرحيل عنها من المحرمات الشرعية التي تستجلب العار في الدنيا، وتقذف مقترفها في جهنم في الآخرة.
وهناك سبب آخر يعوق اليهودي الحريدي عن الهجرة حتى إذا أراد، وهو أن الحريدي "أي النقي الذي يعتزل المجتمع الكافر"، لا يلتحق بالمدارس العلمانية، كونها "كُفرية"، ومن ثم يكتفي بالتعليم الديني الذي يستغرقه حتى يبلغ الأربعين من العمر، وعليه فإنه لا يملك مؤهلات تكفل له توفير قوته، إذا ما غادر الأراضي المحتلة.
هو إذن محدود المهارات، لا مكان له في سوق العمل، وهو متطرف يكره الآخر ويُكفّره، ومتحجر لا يُحسن العلاقات الاجتماعية.
على هذا الأساس، فإن المجتمع الإسرائيلي بصدد تهديد وجودي حقيقي، إذ تتنامى سيطرة "الحريديم" فيما تفر الكفاءات بشكل مطرد، والأرجح أن أرقام المهاجرين المتكتم عليها بعد "طوفان الأقصى" فادحة للغاية. ومع اكتمال موجات النزوح، ستتزايد بلا ريب هيمنة اليمين على القاعدة الشعبية، وهم بالمناسبة يرفضون لأسباب عقائدية تحديد النسل، ومتوسط الإنجاب في الأسرة الواحدة سبعة أطفال.
ستسير الأمور بخطى الجنون نحو المزيد من التطرف، إذ يتحكم المتشددون في القرار السياسي، بينما يولي "الذين لم يهاجروا" وجوههم شطر اليمينية الصهيونية، مما يعزز على الجانب العربي موقف دعاة عودة الأمور إلى المربع الأول، أو المعادلة الصفرية، التي يختزلها شاعرنا محمود درويش في عبارته "هذه الأرضُ لا تتسع لهويتين، إما نحن أو نحن.. نحن الباقون وهم العابرون".