مع الاجتياح البري لرفح، تصل العملية العسكرية الإسرائيلية إلى مرحلتها النهائية، بعدما أنجزت الهدف المعنوي الأكبر لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحققت مكاسب سياسية لدعم حكومته، التي تقضي أيامها الأخيرة في غرفة الإنعاش، عبر مسكنات للإسرائيليين الغاضبين.
يستهدف نتنياهو توجيه رسالة للرأي العام الإسرائيلي المتعطش للثأر، بعدما ترك الانتقام آثاره في كل مكان في غزة، من خلال العمليات العسكرية ورحلة البحث عن الأسرى، رغم أن آلة الحرب الإسرائيلية نفسها قتلت الكثير منهم.
بالتأكيد، تعرضت المقاومة لضربات قوية، ودفع المدنيون في غزة الثمن الأكبر منذ انسحاب إسرائيل منها في 2005. لكن على الجانب الآخر، هناك درجة كبيرة من الإرهاق القتالي، وهو المصطلح الذي يفضله الإعلام الإسرائيلي وجيش الدفاع لوصف أوضاع الجنود الإسرائيليين الصعبة جراء القتال.
وعند حساب الثمن، علينا الأخذ في الاعتبار الفرق الكبير في الخسائر بين الطرفين بسبب الأفضلية النيرانية الساحقة للسلاح الأمريكي والصواريخ الذكية والقنابل الغبية والوحدات الهندسية المعقدة وتكنولوجيا التسليح، وهو الفرق بين الدبابة والرجل المسلح ببندقية بطيئة الطلقات.
ضربات المقاومة مستمرة
بعد امتناع حكومة نتنياهو عن إرسال مفاوضين للقاهرة في آخر أبريل/نيسان الماضي، شعرت المقاومة بفشل المفاوضات وإصرار إسرائيل على اجتياح رفح، فسارعت باختيار الزمان والمكان للضربة الأولى في هذه المرحلة، فقصفت معبر كرم أبو سالم، لكنها عادت بعد يومين وقبلت عرض الهدنة.
وجهت حماس من خلال ضربتها للمعبر رسالةً مزدوجةً لإسرائيل وللمجتمع الدولي، تثبت فيها قدرتها على الاستمرار في توجيه الضربات، ليبقى هدف إسرائيل وحلفائها في التفكيك النهائي للمقاومة صعب المنال. كما استهدفت بضربتها تلك توصيل رسالة لجانب من الرأي العام الإسرائيلي تعكس عبثية الحرب، التي لم تحقق أي غرض لها سوى استمرار نتنياهو وحكومته لأطول وقت ممكن.
وبشكل عام، ورغم الضربات الإسرائيلية شديدة الدموية، أثبتت الحرب صحة هذه الفرضية إلى الآن، حيث أكدت سبعة أشهر من العمليات العسكرية، أنه من الصعب على آلة الحرب الإسرائيلية تفكيك المقاومة الفلسطينية، كفكرة في العقول وكفصائل على الأرض، إلا باختفاء الفلسطينيين أنفسهم. وهو ما لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه منذ نشأتها، رغم كم المذابح والممارسات التطهيرية التي مارستها بهدف تفريغ أرض فلسطين التاريخية من الفلسطينيين.
وفي الجزء الثاني من رسالتها، تحاول حماس دفع المجتمع الدولي لقبول عرض الهدنة، والضغط على إسرائيل ووضعها في مواجهة سياسية مع شركائها الدوليين الراغبين في التهدئة.
ما بعد الاجتياح
رغم إصرار إسرائيل على الاجتياح البري لرفح، يبدو أننا أقرب من أي وقت مضى لإدراك نهاية هذه الحرب، لأن رفح هي المحطة الأخيرة لبنك الأهداف المعنوية لحكومة الانتقام الإسرائيلية.
ومع ذلك، يتزايد احتمال انتهاء الحرب بخيبة كبيرة للحكومة الإسرائيلية، إذا ما صمدت المقاومة في معركة رفح، ورفعت معدلات الخسائر التي يمكن إلحاقها بالقوات البرية، مع فشل استخباري جديد في تحرير الأسرى.
إن انتصار كل طرف مرهون في النهاية بتحقيق أهدافه الكبرى وليس الصغرى، والهدف الأكبر للمقاومة هو رفع الحصار عن غزة وليس مجرد عودة الأوضاع لما قبل 7 أكتوبر، والهدف الأكبر للقضية الفلسطينية هو الاقتراب من حلم الدولة وليس بقاء فصيل بعينه في الحكم أو رحيله.
ومهما كانت النتيجة النهائية، لن تكون الحرب على غزة مجرد أسوأ عملية تحرير رهائن قامت بها إسرائيل، بل ستكون الأسوأ في التاريخ بشكل عام.
تستكمل إسرائيل مشاهد النصر السينمائي برفع الأعلام على معبر رفح
في السادس من مايو/أيار وافقت المقاومة على الهدنة لإجبار المجتمع الدولي على تصعيد الضغوط على إسرائيل لقبول الهدنة، إلا أن حكومة الحرب الإسرائيلية اختارت التصعيد واجتاحت رفح بريًا، ورفعت الأعلام الإسرائيلية على معبر رفح من الجانب الفلسطيني، واحتلت محور فيلادلفيا، وهو المشهد الإعلامي الأهم الذي انتظره نتنياهو لتحقيق نصره السينمائي.
رفع الأعلام الإسرائيلية لا يعني أن إسرائيل حسمت حربها، بل إنها تمارس حرب الدعاية والصورة والمشهد، أما الانتصارات العسكرية فهي أمر آخر، لم تحققه بعد.
رسائل اجتياح رفح
يقدم هذا الاجتياح بعض الرسائل لمصر الرسمية وللمقاومة الفلسطينية. وضعت السيطرة على محور فيلادلفيا مصر في موقف شديد الصعوبة، فاحتلال المحور هو تجاوز لخط مصري أحمر، وخرق أمني خطير باحتلال منطقة عازلة تحكمها اتفاقية "محور فيلادلفيا" الموقعة بين مصر وإسرائيل سنة 2005، كملحق لاتفاقية السلام الموقعة عام 1979.
وحتى اليوم، لم تظهر ترتيبات أمنية "معلنة" بين مصر وإسرائيل تدل على موافقة مصر إعادة احتلال المحور، وهو ما يطرح تساؤلًا حول طبيعة الاتصالات والتوافقات "غير المعلنة" بين الطرفين، وإن كان من بينها هذا الإجراء أم لا؟
لكن، وبناءً على الترتيبات المعلنة، يعد هذا الاجتياح خرقًا لاتفاقية السلام، وهو ما يضع مصر الرسمية في موقف صعب يجعلها مطالبة باتخاذ إجراء واضح ضد هذا الخرق، دون التورط بين خيارين إما الحرب الكاملة أو الصمت الكامل، فعالم السياسة مملوء بالاختيارات التي تتوسط هذا وذاك.
أما المقاومة، فيضعها اجتياح رفح في اختبار القدرة على التماسك، إذ تعد معركة رفح المحطة النهائية لنتنياهو وحكومته، ولا يوجد أمامه في مخطط ما بعد رفح سوى طريقين لا ثالث لهما، إما تحقيق كل الأهداف أو القبول بحل سياسي قاوم قبوله كثيرًا.
وفي حال قدرة المقاومة على التماسك في أيام الحرب الأخيرة، واستمرار فشل إسرائيل في تحرير الأسرى، سيفرض الطريق الثاني نفسه على إسرائيل وحكومتها، وسيحدد مصير تلك المعركة، ويعد كل الثمن المدفوع مقبولًا لتحقيق مكاسب سياسية في مسار القضية الفلسطينية.
فقط علينا طرح التساؤلات؛ من سيبقى في النهاية؟ ومن ستضطره نيران الحرب وضغوط السياسة لتقديم التنازلات؟