أصبح من السهل توقع ردود الفعل المصرية بناءً على الموقف الإماراتي، حتى تجاه تهديدات السياسة الخارجية وأقصى قضايا الأمن القومي الوجودية؛ على رأسها التعامل مع الاختراق العسكري الإسرائيلي الأخير للمنطقة الحدودية العازلة لمحور صلاح الدين وصولًا إلى معبر رفح والسيطرة على جانبه الفلسطيني، دون الالتزام بالتنسيق الأمني اللازم، ورغم كل التحذيرات المصرية بالعواقب، والتهديد إعلاميًا بأنه قد يتسبب في نقض معاهدة كامب ديفيد للسلام.
لكنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يأبه لكل ذلك، وأمعن في إحراج أبرز الدول العربية المطبعة معه، بالذات مصر والإمارات، ونفذ بدباباته ومدرعاته يوم 8 مايو/أيار الجاري ما هدد بتنفيذه في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين قال "إن ممر فيلادلفيا/صلاح الدين نقطة النفاذ الجنوبية، إلى غزة، يتعين أن تكون بأيدينا وأن يتم إغلاقها.. فمن الواضح أن أي ترتيبات غير ذلك لن تضمن نزع السلاح الذي نريده".
صحيح أنَّ مصر لم تسحب سفيرها من إسرائيل، على الأقل حتى الآن، احتجاجًا على هذا الانتهاك السافر والمتواصل، مثلما لم تفعل ذلك على مدى سبعة أشهر منذ بداية حرب الإبادة والتهجير على غزة ردًا على طوفان الأقصى، لكنها أخذت الأسبوع الماضي فقط خطوةً تأخرت خمسة أشهر، في الانضمام إلى جنوب إفريقيا في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
من جانبها وتزامنًا مع التحرك المصري، تزعمت الإمارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة المجموعة العربية في تقديم مشروع قرار يوصي مجلس الأمن بمنح فلسطين عضوية كاملة في المنظمة الدولية، بدل وضعها الحالي كمراقب. وجاءت نتيجة التصويت كاسحة بموافقة 143 دولة، وامتناع 25 عن التصويت، ومعارضة تسع دول بينها إسرائيل والولايات المتحدة، التي سبق لها إجهاض مشروع أمام مجلس الأمن بقبول عضوية فلسطين الكاملة في المنظمة الدولية.
بيد أنَّ أبرز ما يلفت الانتباه في الموقف الإماراتي الذي كان الأقرب عربيًا إلى الموقفين الإسرائيلي والأمريكي منذ توقيع اتفاقات التطبيع في سبتمبر/أيلول 2020، ما أعلنه منذ بضعة أيام وزير الخارجية الإماراتي بعد الاختراق الإسرائيلي لمحور صلاح الدين، حيث كتب الشيخ عبد الله بن زايد على إكس يستنكر دعوة نتنياهو الدول العربية للمشاركة "في إدارة مدنية لقطاع غزة" مع إبقاء الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، بقوله "تشدد دولة الإمارات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يتمتع بأي صفة شرعية تخوله باتخاذ هذه الخطوة، كما ترفض الدولة الانجرار خلف أي مخطط يرمي لتوفير الغطاء للوجود الإسرائيلي في قطاع غزة".
لكنَّ تصريحات الوزير الإماراتي جاءت متأخرة، بعد أيام من الاختراق الإسرائيلي للمنطقة العازلة مع مصر، وتصريحات بايدن المتشددة نسبيًا تجاه حكومة نتنياهو، حين أعلن في مقابلته مع سي إن إن عدم تقديم قنابل أمريكية ضخمة أخرى لإسرائيل مغبة استخدامها في أي هجوم على تكتلات سكانية في رفح، وانتقد دخول إسرائيل المنطقة العازلة مع مصر والسيطرة على معبر رفح، موضحًا أنه تصرف "يزيد التوتر مع مصر"، التي أصبحت حليفًا لأمريكا منذ سلامها مع إسرائيل أواخر السبعينيات.
إحراج نتنياهو لأصدقائه العرب
جاءت تصريحات وزير الخارجية الإماراتي، يوم الجمعة الماضي، وهو اليوم الذي كشف فيه نتنياهو خطته لمستقبل غزة بعد انتهاء الحرب بالإفراج عن المختطفين الإسرائيليين والتخلص من حماس، وهي خطة يُفترض أنه كان يُعدِّها بالتنسيق مع عواصم عربية، في جزء منها، لكنه كشف عن مراحلها الثلاثة التي تمتد 15 سنة، لن يتمتع فيها الفلسطينيون في غزة والضفة باستقلالهم، بل بحكم ذاتي واندماج اقتصادي إقليمي، مما أحرج الجميع بما فيهم الإدارة الأمريكية.
المرحلة الأولى من خطة نتنياهو لمدة سنة، ويسميها "إنسانية"، يتم خلالها تقسيم غزة إلى "مناطق آمنة" بلا حماس، تبدأ من الشمال ثم تتسع جنوبًا، ويتولى الإشراف على جهود الإغاثة والمساعدات ائتلاف عربي من مصر والإمارات والسعودية والأردن والمغرب. أي أنه أضاف السعودية مُقدَّمًا قبل أن تباشر التطبيع رسميًا! وسيشرف هذا الائتلاف العربي على موظفين فلسطينيين يديرون هذه المناطق.
أما المرحلة الثانية فعنوانها إعادة الإعمار والتأهيل، وخلالها يتم نقل المهام الأمنية من الجيش بالتنسيق مع هيئة عربية من الدول المطبّعة، سيكون اسمها "هيئة تأهيل غزة"، مع بقاء سيطرة إسرائيل. يعمل تحت هذه الهيئة موظفون فلسطينيون من غزة! في هذه المرحلة ستطبق خطة إعادة إعمار على غرار خطة مارشال، ومعها خطة نزع الثورية أو الراديكالية. وستمتد هذه المرحلة من خمس سنوات إلى عشرٍ، وفق سرعة استجابة الغزيين لمحاولات نزع توجهاتهم الثورية، ستكون مدة هذه المرحلة.
وفي المرحلة الثالثة والأخيرة، سيُمنح الفلسطينيون في غزة حكمًا ذاتيًا، مع بقاء السيادة والسيطرة العليا لإسرائيل، وسيتحدد وقتها إن كان الحكم الذاتي من أهل غزة وحدهم أم بالاشتراك مع الضفة الغربية!
ويتم تتويج هذه المرحلة بإدماج غزة في المناطق الحرة للتكامل الاقتصادي بين إسرائيل ومصر والسعودية وباقي العرب، بحيث تدخل غزة في منطقة حرة مفتوحة من العريش جنوبًا إلى بلدة سديروت بالنقب داخل إسرائيل، وكذلك ربط غزة بمنطقة نيوم السعودية لتصبح معبرًا وميناءً صناعيًا لهذه المنطقة عند انتهاء عملية التكامل.
لكن لا توجد في خطة نتنياهو، ولو بعد عقود، أي دولة مستقلة للفلسطينيين، أو أي خروج حتى من غزة!
حلول للمعبر.. لا لمصر
الاعتراضات المصرية والتصريحات الإماراتية تبقيان في إطار عدم تجاوز الخلافات البسيطة بين إدارة بايدن الضعيفة المضغوط عليها من الكونجرس الموالي أغلبه لإسرائيل وحكومة نتنياهو التي لم تعد تأبه بإحراج الحكومات العربية الوسيطة أمام شعوبها.
وفقًا لمصادر موقع أكسيوس الإخباري، رفضت مصر عرض إسرائيل مواصلة توصيل المساعدات لغزة عبر معبر كرم أبو سالم، احتجاجًا على سيطرة قواتها على الجانب الفلسطيني لمعبر رفح. كما يوضح الموقع نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين أنهم سيعيدون فتح معبر رفح بعد إيجاد موظفين فلسطينيين يديرونه غير حماس، ولو من السلطة الفلسطينية، لكن دون تعريفهم بأنهم يمثلونها! وهكذا يصر نتنياهو على أن يحرم السلطة حتى من هذا التمثيل، كما أنها لا تريد أن تُستخدم من الباطن بهذا الشكل.
أما بالنسبة لمصر، فلم يعد مطروحًا الخروج من محور صلاح الدين والمنطقة العازلة، بل مجرد البحث عن بديل لإدارة معبر رفح.
على الجانب الأمريكي، الذي يحدد باختلافه مع نتنياهو أقصى مسافة مسموحة لحلفائه العرب في التشدد مع إسرائيل، خرج مستشار الرئيس الأمريكي للبيت الأبيض جيك سوليفان في مؤتمر صحفي ليخفف من حدة انتقادات بايدن لحكومة نتنياهو، مؤكدًا استمرار دعم إسرائيل عسكريًا ما عدا استخدام القنابل زنة الألفي طن لقصف التجمعات السكنية في رفح، فقط!
وأعاد التأكيد على الاتفاق بشأن هدف التخلص من حماس وكذلك تحميلها وحدها مسؤولية الحرب ومسؤولية عدم قبول الصفقة المعروضة من إسرائيل للهدنة والإفراج عن المختطفين، والأهم بعد انضمام مصر لدعوى جنوب إفريقيا، ما قاله مستشار البيت الأبيض بأن إسرائيل "لم ترتكب أي أعمال إبادة جماعية في غزة"!