رغم دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره السادس، مع فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه المعلنة بالقضاء على حماس والمقاومة وإعادة المحتجزين، لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعاند ويعلن أنَّ حربه مستمرة، ليس فقط حتى تحقيق "النصر المطلق"، بل بوضع القطاع تحت سيطرته الأمنية، من أجل "تحويل واقعه إلى ما يشبه الضفة الغربية".
تصور نتنياهو لمستقبل غزة نشرت ملامحه صحيفة تايمز أوف إسرائيل، نهاية الأسبوع الماضي، نقلًا عن مصادر بمكتب رئيس الوزراء، تحدثت عن خطة تهدف إلى تغيير واقع القطاع بأكمله وتحويله إلى "منطقة مستباحة أمنيًا، كما هو الحال حاليًا بالضفة الغربية المحتلة".
"سوف يستغرق الأمر سنة أو سنتين حتى تنتهي المرحلة الأولى من القتال بالقضاء على حماس، تليها ثماني سنوات أخرى حتى يتم تشكيل حكومة بديلة هناك، هذا إذا تم تشكيلها على الإطلاق. طوال هذه الفترة، ستواصل إسرائيل وجودها في غزة".
هكذا يخطط نتنياهو لمستقبل القطاع، مستهدفًا نزع سلاح فصائله، لتديره سلطة فلسطينية تشبه سلطة رام الله، ما يسمح له بالقيام بـ"هجمات لا نهاية لها" على ما يصفه بـ"المراكز الإرهابية"، وينفذ مداهمات واعتقالات كتلك التي ينفذها جيشه في مدن الضفة. ووفقًا لملامح الخطة المنشورة "لن يكون هناك حكم عسكري لغزة، كما أنه لا توجد، في الوقت الحالي، خطط لإنشاء مستوطنات إسرائيلية، لكن سيكون هناك احتلال من بعيد".
تأكيد المؤكد
ملامح المخطط، الذي سُرِّب للصحافة عمدًا على الأغلب، يؤكد المؤكد، فرئيس الوزراء الإسرائيلي لا يرغب في وقف الحرب على غزة، إلا إذا تحقق له "انتصار" يُمكِّنه من غسل سمعته ومحو عار فشله بعد الهزيمة المذلة لجيشه وأجهزته الأمنية في السابع من أكتوبر.
يستهدف نتنياهو من إطالة أمد الحرب وحديثه المفعم بالكراهية إعادة تدوير شعبيته المنهارة
إفشال نتنياهو لأي تفاوض قد يؤدي إلى وقف ولو مؤقت لإطلاق النار، واستمرار مذابحه اليومية وتدميره لمدن وأحياء القطاع وجعله مكانًا غير صالح للحياة، يثبت أنَّ ما جاء في تلك الخطة هو الهدف غير المعلن لرئيس الوزراء وحلفائه في اليمين المتطرف، بهزِّ معنويات أهالي غزة الذين يواجهون شبح الموت كل لحظة، وغرس مشاعر الندم في نفوسهم لتأييدهم "طوفان الأقصى"، لتتفكك مع الوقت الحاضنة الشعبية للمقاومة.
لم يحاول نتنياهو وأركان حربه مداراة أهدافهم الإجرامية المدعومة من حلفائهم في الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، فخلال حفل تخريج فوج جديد من الضباط المقاتلين الذي أقيم الأربعاء الماضي، عزف رئيس الوزراء ووزير الحرب ورئيس الأركان على نغمة واحدة؛ توصيل رسائل من خلال عمليات الإبادة الجماعية، إلى كل من تسول له نفسه التفكير في "التحرش بإسرائيل مجددًا".
"راغبون في تغيير ميزان القوى ضد العناصر الإرهابية والأعداء الآخرين"، قالها نتنياهو، وهو يعلن أنَّ سياسته في تغيير المعادلة تعمل جيدًا وقابلة للتطبيق في الدائرة الأوسع، "من يختار التحرش بنا عند حدود إسرائيل وخارجها، سيجلب الدمار والخراب على نفسه.. لن نتردد في استخدام القوة، وإذا لزم الأمر، ضرب مراكز القوة لدى العدو".
يُسوِّق نتنياهو ورفاقه في مجلس الحرب أن دولتهم تخوض "حرب بقاء"، وهو ادعاء قد يكون محقًا، فطوفان الأقصى ليس كغيره من جولات الصراع الممتد منذ 75 عامًا، بل يمكن اعتباره خطوةً أولى على طريق تحرير كامل الأراضي الفلسطينية وفناء الكيان الصهيوني.
لكنَّ رئيس الوزراء، المهموم بالفعل بمستقبل بلاده وسط محيط جغرافي تتصاعد فيه موجات عدائها وكراهيتها، مهموم أيضًا بمستقبله السياسي وبقائه رئيسًا للوزراء، هربًا من النهاية الدرامية التي ستلاحقه حال انتهت الحرب دون أنَّ تحقق أيًا من أهدافها المعلنة، حيث لن يقف الأمر عند حدود عزله، بل سيتعرض إلى المحاكمة وقد يدخل السجن.
يستهدف نتنياهو أيضًا من إطالة أمد الحرب وحديثه المفعم بالكراهية إعادة تدوير شعبيته المنهارة، فمَلِك إسرائيل، كما يحب أن يسميه مؤيدوه، لن يكون قادرًا، لو نجا من مقصلة المحاكمة والسجن، على العودة إلى منصبه المفضل مجددًا، إذ تُظهر الاستطلاعات الأخيرة تدهور شعبيته في إسرائيل، وترجح أن يكون بيني جانتس هو رئيس الوزراء القادم إذا ما أجريت الانتخابات الآن.
في انتظار ترامب
يخشى نتنياهو من أن يسبب وقف إطلاق النار، وإن كان مؤقتًا، هزة سياسية كبيرة تؤدي إلى التبكير بالانتخابات، ما يعني الوصول إلى النتيجة التي يحاول الهرب منها بالإيغال في دماء المدنيين العزل من أهالي غزة، ويرى أنَّ رحلةَ شريكه/غريمه بيني جانتس إلى واشنطن، واستقبال نائبة الرئيس الأمريكي، جزءٌ من حملة تعويم زعيم حزب الوحدة الوطنية.
"يدرك نتنياهو جيدًا خطورة الاحتكاك مع الولايات المتحدة، لكن من وجهة نظره، فإن الأزمة هي نتاج حصري للانتخابات في الولايات المتحدة والضغط المتزايد بين الديمقراطيين بسبب ما تبدو أنها خسارة وشيكة لهم أمام الرئيس السابق دونالد ترامب"، يقول شالوم يروشلمي المحلل السياسي في "تايمز أوف إسرائيل".
ويضع يروشلمي انتقادت كامالا هاريس وطريقة تعامل إدارة بايدن مع قضية المساعدات الإنسانية في سياق التعبير عن ضغوط الديمقراطيين قبل الانتخابات، لذا فإنَّ استمرار الحرب على غزة، وخطة الـ10 سنوات للبقاء في القطاع، محاولة لانتظار ترامب الذي يرى فيه نتنياهو ورجاله "المخلص".
سيفشل نتنياهو في وضع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية "عن بعد"
قد يكون بايدن هو الرئيس الأمريكي الأكثر دعمًا لإسرائيل، كما قال في خطاب حالة الاتحاد، وقد تكون إدراته وأركان حكمه من الصهاينة الأكثر رغبة في تصفية فصائل المقاومة الفلسطينية، لكنَّ السيناريو الأسوأ هو بقاء نتنياهو حتى يصل ترامب إلى المكتب البيضاوي، فالرجلان يجمعهما هدف تصفية القضية الفلسطينية برمتها وإلحاق دول المنطقة بالكامل بقطار التطبيع، ودمج إسرائيل ككيان طبيعي في الشرق الأوسط.
من حسن الطالع أنَّ خطط نتنياهو وتصوراته عن مستقبل غزة تتصادم مع جملة من الأمور، أبرزها صمود المقاومة واستمرار عملياتها الباسلة التي تكبد العدو خسائر فداحة كل يوم، بالإضافة إلى تصاعد عمليات الإسناد من ساحات المقاومة الأخرى؛ حزب الله من الشمال وهجمات جماعة الحوثي من الجنوب، وسط توقعات باتساع رقعة العمليات مع تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار.
كما أنه ومع دخول شهر رمضان، فمن المتوقع أن تشتعل الأمور في مدن الضفة الغربية، خاصة بعد أن دعت كتائب القسام عبر متحدثها أبو عبيدة إلى "نفير عام" يشمل مدن الداخل الفلسطيني والضفة، إسنادًا لأهل غزة ودفاعًا عن الأقصى الذي اندلعت أحداث 7 أكتوبر بشعار إنقاذه.
ومع التصعيد المتوقع في المدن الفلسطينية، تتزايد الضغوط الداخلية على نتنياهو ورفاقه؛ من أهالي الأسرى، ومن بعض الإسرائيليين الذين أطلقوا دعوة لوقف الحرب مؤخرًا، ومن قادة الجيش المستنزف والمنهك الذي يبحث عن وقفة لاستعادة الأنفاس حسبما كشفت القناة 13 الإسرائيلية "الجنود متعبون والألوية الثلاثة جفعاتي والكوماندوز والسابع مستنزفون من القتال الصعب".
يضاف إلى ما سبق أن إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدولي حتى من أقرب حلفائها، فمعظم الحكومات الأوروبية التي قدمت مساعدات عسكرية ومادية وسياسية للدولة العبرية تواجه معارضة شديدة من شعوبها التي لا تزال تتظاهر وتحتج لوقف عمليات الإبادة التي يمارسها جيش الاحتلال ضد سكان غزة.
سيفشل نتنياهو في تحويل تصوراته عن وضع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية "عن بعد" لمدة 10 سنوات إلى واقع كما فشل حتى الآن في تحقيق الأهداف التي أعلنها في بداية الحرب، بالقضاء على المقاومة واستعادة الأسرى خلال أشهر، وسيصبح الرجل الذي يحلم بأن يكون أسطورة الدولة العبرية والمدافع عن بقائها سبب فنائها، فكلما أوغل في عدوانه، كلما زادت الرغبة في الانتقام والثأر في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين وكل أحرار العالم، ما قد يضع الكيان الغاصب على أول طريق النهاية.