في لحظة فاصلة تقف فيها المنطقة على أطراف أصابعها من أجل اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس يجنب الإقليم بالكامل اضطرابًا واسعًا، أو حربًا إقليمية شاملة، ربما لا يريدها في الوقت الحالي سوى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ترفض حماس المشاركة في جولة مفاوضات جديدة.
فبينما كان العالم ينتظر الرد الإيراني على اغتيال زعيم حركة حماس، إسماعيل هنية، خلال وجوده في طهران، وكذلك رد حزب الله اللبناني على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر ؛ دعت الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وقطر، إسرائيل وحركة حماس، إلى استئناف المحادثات بشكل عاجل في القاهرة أو الدوحة.
حاولت الدول الثلاث، في بيان مشترك، حث الطرفين على التوصل إلى مقترح نهائي ينتهي باتفاق على وقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين، وشدد البيان على أنه "يجب عدم إضاعة مزيد من الوقت وألا تكون هناك أعذار لمزيد من التأجيل".
بصمات السنوار
استجاب نتنياهو للدعوة، معلنًا إرسال وفد تفاوضي لحضور الاجتماعات، فيما فاجأت حماس الجميع بموقف صادم سواء لإسرائيل أو الوسطاء، الذين اعتادو على تجاوب الحركة مع كافة دعوات التفاوض طوال الأشهر الماضية.
رفضت الحركة المشاركة في جولات تفاوض جديدة، داعية في المقابل الوسطاء الثلاثة لتقديم خطة لتنفيذ ما سبق وعرضوه على الحركة ووافقت عليه في 2 يوليو/تموز ، استنادًا إلى خطة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي طرحها في 31 مايو/أيار، وقرار مجلس الأمن الدولي 2735.
بدت بصمات زعيم الحركة الجديد الذي أحكم قبضته على الميدان ومائدة التفاوض واضحة
دعت حماس للبناء على ما سبق، بدلًا من الذهاب إلى مزيد من جولات التفاوض أو مقترحات جديدة، ما أثار العديد من التساؤلات بشأن خطط الحركة ورؤيتها السياسية التي تعد أول اختبار للقائد الجديد يحيى السنوار.
بدت بصمات زعيم الحركة الجديد الذي أحكم قبضته على الميدان ومائدة التفاوض واضحة عقب أيام قليلة من توليه منصب رئيس المكتب السياسي لحماس. استعان السنوار بما لديه من مخزون خبرة في التفاوض المباشر مع قادة الاحتلال اكتسبه خلال سنوات سجنه الـ23، إذ كان يترأس هيئة القيادية العليا لأسرى حماس.
صاغت الحركة بيانها بدقة واختارت مفردات غير صدامية، فالحركة لم ترفض الدعوة رفضًا صريحًا، واستعاضت عن ذلك بصيغة دبلوماسية دقيقة تطالب فيها الوسطاء بتقديم خطة لتنفيذ ما اتفق عليه بالفعل ووافقت عليه الحركة.
تحرص الحركة على عدم خسارة الاعتراف الأمريكي بها طرفًا سياسيًا
وفي إشارتها إلى التجاوب مع دعوة بايدن للحل، تحاول الدفع لدوران عجلة المحادثات المتعلقة بآليات تنفيذ ما اتُفق عليه، كما لا ترغب الحركة في خسارة ما يمكن اعتباره اعترافًا رسميًا ضمنيًا أمريكيًا بها كطرف سياسي، وكذلك لا ترغب في إثارة غضب مصر وقطر.
أدركت حماس وزعيمها الجديد أن المفاوضات المفتوحة تحولت إلى ورقة يلعب بها نتنياهو، يلقيها على الطاولة كلما زادت ضغوط واشنطن عليه لدفعه نحو تبريد المشهد الإقليمي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وضعت حماس نتنياهو في مواجهة مع الشارع الإسرائيلي
كما يستخدم نتنياهو ورقة المفاوضات للمناورة وتفادي أزماته الداخلية، سواء المتعلقة بالمحافظة على تماسك تحالفه الحكومي، أو تلك المرتبطة بالتظاهرات الشعبية الرامية لإبرام صفقة لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة، بعد فشله في تحرير نحو 130 شخصًا لم تشملهم صفقة التبادل الأولى.
حياة المحتجزين على المحك
يستميت رئيس الوزراء الإسرائيلي لاستمرار الحرب التي تضع نهايتها خاتمة لدوره السياسي، بل وربما الإلقاء به بين جدران السجن، فمبجرد الإعلان الرسمي عن دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ستبدأ المحاكمات في تل أبيب سواء المتعلق منها بالمسؤولية عن التقصير الذي أدى إلى أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أو تلك المؤجلة على وقع الحرب والمرتبطة بوقائع فساد مالي.
عمدت حماس عبر موقفها الأخير بشأن المفاوضات إلى تصدير الضغط لنتنياهو في لعبة عكسية، فبدلًا من أن يضع رئيس حكومة الاحتلال الحركة وفصائل المقاومة في مواجهة الشارع الغزاوي المثقل بالجراح، باغتته حماس بضربة مزدوجة عبر وضعه في مواجهة الشارع الإسرائيلي وذوي المحتجزين والمعارضة، المطالبين بوقف نزيف المحتجزين الذين تذهب تقديرات إسرائيلية لمقتل قرابة نصفهم، خاصة في وقت كان يزعم فيه أن شروط حماس على موائد التفاوض تعوق الوصول لاتفاق.
حملت القسام نتنياهو المسؤولية عن مقتل وإصابة محتجزين إسرائيليين
لم تنته الضغوط على نتنياهو عند هذا الحد، فجاء إعلان القسام بعد يومين من بيان الحركة ليضاعف الضغوط، فللمرة الأولى منذ الحرب، تعلن الحركة عن مقتل أحد المحتجزين على يد عناصرها، عقب مجزرة "مدرسة التابعين" التي راح ضحيتها مائة فلسطيني بينهم أطفال.
الإعلان جاء في صيغة خطأ مبرر بالضغوط التي تفرضها المجازر الإسرائيلية على مقاتلي الحركة، فيتحمل نتنياهو المسؤولية عن حياتهم، سواء عبر إصراره على إطالة أمد الحرب، أو بالمماطلة في إبرام الصفقة، ما يضع حياة كافة المحتجزين على المحك.
لم يكن بيان حماس بشأن المفاوضات معبرًا عن رفض للحل عبر التفاوض، بقدر ما كان إعلانًا عن وقف مماطلات نتنياهو واستغلاله للعملية التفاوضية من أجل توفير غطاء للعدوان المستمر، فقد تزامن إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية عن إرسال وفد التفاوض، مع التمسك بمطالبه التي عرقلت جولات المفاوضات السابقة، من بينها السيطرة على محور فيلادلفيا، وتحديد آلية لمنع عودة المسلحين إلى شمال القطاع، وزيادة عدد المفرج عنهم من المحتجزين الإسرائيليين الأحياء خلال المرحلة الأولى، وإبعاد بعض الفلسطينيين المتوقع الإفراج عنهم إلى دول مثل قطر وتركيا.
وبالتدقيق في المشهد، يبدو أن ما سعت إليه حركة حماس بشأن تصدير الضغوط الداخلية إلى نتنياهو، قد أتى ثماره سريعًا بعد الانتقادات اللاذعة التي وجهها وزير الحرب، يوآف جالانت، لرئيس حكومته. ففي تصعيد واضح لخطابه تجاه نتنياهو، قال جالانت إن إسرائيل هي سبب تأخير إبرام صفقة إعادة "المختطفين"، مضيفًا أن الحديث عن انتصار مطلق "محض هراء".
وردًا على ذلك، قال مكتب نتنياهو إنه "عندما يتبنى جالانت الخطاب المناهض فإنه يضر بفرص التوصل لصفقة، وكان عليه مهاجمة رئيس حركة حماس يحيى السنوار الذي يرفض إرسال وفد للمفاوضات ولا يزال العائق أمام الصفقة".
السنوار يلاعب أمريكا
ثمة نوع آخر من أوراق اللعبة استخدمها السنوار، محاولًا توظيف كل معطيات المشهد وتطوراته الراهنة لصالحه، فهو يدرك مدى حاجة الإدارة الأمريكية إلى التوصل لاتفاق يوقف الحرب في غزة ولو بشكل مؤقت قبل الذهاب للاستحقاق الرئاسي، فضلًا عن رغبة أمريكا في منع رد إيراني عسكري قد يدفع الوضع في الإقليم للانفجار.
عمد السنوار، ربما بتنسيق مع طهران، إلى رفع تكلفة غياب حماس عن المفاوضات المرتقبة هذا الأسبوع، عبر تسريبات إيرانية، بأن السبيل الوحيد الذي قد يرجئ رد إيران على إسرائيل هو اتفاق جاد لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك بعدما فشلت كافة الوساطات من جانب أصدقاء واشنطن لإثناء طهران عن الرد، أو دفعه نحو سياق مهندس كما حدث سابقًا.
يؤسس القائد الجديد للحركة قواعد مختلفة يلاعب بها إسرائيل وأمريكا، لعلها تدفع للوصول إلى اتفاق يدخل حيز التنفيذ ينهي حرب الإبادة على غزة وتخرج منه حماس بمكتسبات سياسية جديدة.