مع أول ظهور له بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية، بشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سكان بلاده بأن في انتظارهم "أيامًا صعبة"، ومهّدهم لمواجهة "تحديات كبيرة".
ففي خطابه الاستعراضي الذي ألقاه قبل نحو أسبوع، لفت نتنياهو إلى أن الحرب التي بدأت قبل 10 أشهر "ستستغرق وقتًا، وتتطلب من مواطني إسرائيل الصبر والتحمل"، مهددًا كل من يهاجم الدولة العبرية بأنه "سيدفع الثمن".
قد يكون نتنياهو محقًا في تلك الجزئية، فالأيام الصعبة التي بشَّر بها لم تأتِ بعد، فالدولة العبرية التي يقودها مع رفاقه من عتاة اليمين المتطرف من "الكاهانيين" في طريقها إلى الانهيار، على حد ما ذهب الكاتب الصحفي الإسرائيلي نير حسون في افتتاحية صحيفة هاآرتس قبل شهرين.
هاآرتس حذرت في افتتاحيتها من انهيار الدولة العبرية إذا لم تتحرك السلطات السياسية "إسرائيل تمارس الوحشية حاليًا، ما سيجعل انهيارها مسألة وقت إذا لم يكن هناك تحرك لإيقافها"، وانتقدت الصحيفة مسيرة الأعلام التي شارك فيها وزراء ونواب بالكنيست ينتمون للأحزاب الدينية اليمينية، ووصفتها بالقبيحة والعنيفة.
لا تستطيع دولةٌ أن تستمر دون أن تملك آليات البقاء وعلى رأسها القبول الإقليمي والدولي
ونقلت الصحيفة ما حذر منه قبل عقود الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش "الفخر الوطني والنشوة التي أعقبت حرب الأيام الستة/ حرب يونيو 1967، مؤقتة، وستقودنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى القومية المتطرفة والمسيانية المتطرفة، ثم ستكون المرحلة الثالثة هي الوحشية والمرحلة الأخيرة ستكون نهاية الصهيونية".
وترى الصحيفة أن "الوحشية" التي تحدَّث عنها المفكر التقدمي ليبوفيتش لم تعد مقتصرة على الهوامش أو المستوطنات والبؤر الاستيطانية؛ بل انتشرت في كل اتجاه "الأمر المرعب أنها اخترقت حتى المؤسسة العسكرية والكنيست والحكومة".
وختمت الصحيفة بتجديد التحذير من أنه في حالة تراخي المركز السياسي في إعادة المتطرفين إلى هامش المجتمع، والقضاء على الكاهانيين، فإن سقوط إسرائيل النهائي لن يكون سوى مسألة وقت، مستطردة أن "العد التنازلي للانهيار بدأ".
بالطبع لن يتدخل المركز السياسي لإعادة المتطرفين الإسرائيليين إلى الهامش ولن يتمكن من القضاء على "الكاهانيين" ووقف نموه الخبيث، فهؤلاء هم من يقودون الدولة العبرية، يصدرون القرارات ويرسمون السياسات، في ظل غياب شبه تام لليسار الإسرائيلي ولجماعات دعم السلام، المنحازة لصيغة حل يمنح الفلسطينيين حقهم في إقامة دولة مستقلة، وهو ما وضح جليًا عندما صوَّت الكنيست بأغلبية أعضائه على رفض إقامة دولة فلسطينية غرب نهر الأردن.
رفضُ الكنيست لإقامة دولة فلسطينية جاء في سياق الرد على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في مايو/أيار الماضي، بدعم طلب فلسطين للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وتوصية مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب الذي عرقلته الولايات المتحدة مستخدمة حق النقض "الفيتو".
حينها، هاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي المنظمة الأممية، واتهمها بدعم الإرهاب "لن نسمح لهم بإقامة دولة إرهابية يمكنهم من خلالها مهاجمتنا بشكل أكبر.. لن يمنعنا أحد من ممارسة حقنا في الدفاع عن أنفسنا، لا الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا أي هيئة أخرى".
تلك الحالة من الوحشية والتحدي للقرارات الأممية وللقانون الدولي والإنساني، وضعت إسرائيل على مسار النهاية، فلا يستطيع نظام أو دولة أن يستمرا دون أن يملكا آليات البقاء، وعلى رأس تلك الآليات القبول الإقليمي والدولي.
وإذا كانت إسرائيل في تلك اللحظة تحظى بدعم عدد من الأنظمة الحاكمة في الغرب، فإنها في الوقت نفسه فقدت أي مبرر أخلاقي لقبولها في أوساط الشعوب، وعندما يسقط هذا المبرر، لا تصمد فكرة ولا سلطة وبالتبعية لا تصمد دولة.
قاد نتنياهو ورفاقه دولتهم إلى حافة النهاية، دفعوا بتشددهم وإجرامهم المستمر الشعب الفلسطيني ومن خلفه الشعوب العربية، ليس فقط إلى رفض الاعتراف بإسرائيل كدولة طبيعية، بل أيضًا إلى السعي للانتقام والثأر، هذا بالإضافة إلى قناعة الشعوب الحرة بأن "إسرائيل" صارت مرادفًا لكل مفردات التفرقة العنصرية والإبادة الجماعية وغيرهما من جرائم الحرب، وهو ما يضع مستقبلها على المحك، حسبما ذهبَ عدد من المفكرين والمؤرخين.
وفق تحليلات خبراء إسرائيليين، فإن تطرف وتشدد الحكومة الإسرائيلية الحالية لم يعرِّضا أمن الدولة العبرية للخطر ووضعها أمام تحدٍ وجودي فحسب، بل أقاما جدارًا عازلًا يفصلها عن شعوب المنطقة التي لن ترضى بأقل من زوالها. عادت إسرائيل كما كانت قبل فقاعات السلام التي انطلقت في نهاية السبعينيات؛ "دولة تسبح في بحر من الكراهية".
ففي هاآرتس أيضًا، تحدث المؤرخ الإسرائيلي عوفري إيلاني عن احتمالات أن تنضم دولة إسرائيل التي مضى على تأسيسها 76 عامًا إلى قائمة الدول التي لم يعد لها وجود، وأشار الكاتب إلى أن الحديث عن زوال إسرائيل أصبح متداولًا في وسائل الإعلام وفي الاحتجاجات المناهضة لحكومة نتنياهو، وفي تصريحات المثقفين في الداخل وحول العالم.
وفي هذا السياق، يبدو اختيار حركة حماس ليحيى السنوار رئيسًا لمكتبها السياسي، بعد اغتيال سلفه إسماعيل هنية في طهران، نهاية الشهر الماضي، رسالةً مضادةً على التعنت الذي يمارسه نتنياهو ورفاقه، فاختيار زعيم عنيد لا مكان عنده للمساومات أو التنازلات ولا يقبل بتصورات إسرائيل وحلفائها لليوم التالي، هو الرد الذي أرادت حماس أن تطرحه على الجميع.
انتخاب الحركة الرجلَ الذي رسم مسار طوفان الأقصى يعكس المسار الذي ستنتهجه حماس خلال الفترة المقبلة، من حيث مستقبل صراع الفلسطينيين مع إسرائيل؛ فالسنوار الذي تعهد بأن يجعل نتنياهو "يلعن اليوم الذي ولدته فيه أمه"، لن يقبل بما كان سيقبل به سلفه، الذي فرضت عليه مسالك السياسة مزيدًا من البراجماتية، جعلته يعلن في أكثر من موقف قبوله بحل الدولتين الذي طالما عارضته الحركة.
قبل أيام؛ نشر موقع "تايمز أوف إسرائيل" مقالًا لمحرر الشؤون السياسية أمير بن ديفيد، انتقد فيه سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي وإدارته للحرب وفشله في تحقيق أهدافها وإعادة المختطفين، تحت عنوان "السنوار رئيسًا.. نتنياهو المذنب"، اعتبر فيه أن "فشل نتنياهو ساهم في تعزيز وتقوية السنوار".
لن يقف فشل نتنياهو عند حد تعزيز وتقوية السنوار فقط كما ذهب بن ديفيد في مقاله، بل سيؤدي إلى بلوغ إسرائيل حافة الهاوية، فكما صار رئيس الوزراء ورفاقه في اليمين المتطرف عبئًا على المجتمع الإسرائيلي، صارت إسرائيل ذاتها عبئًا على الإنسانية.