تصميم: أحمد بلال، المنصة
بنيامين نتنياهو

هدنة غزة ومعركة السؤال الخاطئ

أفراح النصر وبكائيات الهزيمة وتجاهل النظر إلى سلام الردع الصهيوني

منشور الاثنين 20 يناير 2025

كنت أنوي تخصيص هذا المقال لمناقشة بعض مستجدات القضية الفلسطينية التي لا يلتفت إليها أحد على صعيد القانون الدولي، لكن وجهتي تغيَّرت. لم يحدث ذلك بسبب إعلان اتفاق الهدنة في غزة بين الاحتلال وحماس والذي سيكون هشًّا في الغالب ولن يتطور إلى مراحل أخرى كما نأمل جميعًا، بل بسبب انغماس قطاع كبير من الرأي العام العربي في معركة جدلية حول سؤال الانتصار والهزيمة.

فعلى السوشيال ميديا والصحف وشاشات الفضائيات، احتدمت المعركة حامية الوطيس بين من يرى أن حماس مُنيت بهزيمة ساحقة، مستشهدًا بصور التدمير الهائل في غزة وأعداد الضحايا التي لا تُحتمل، في مقابل المتشبثين بانتصار المقاومة، وبأن شعب غزة ليس فَرِحًا فقط بوقف المقتلة بل أيضًا بالنصر متكامل الأركان على العدو، الذي لم يحقق أيًّا من أهدافه الرئيسية من الحرب، مستدلين بالعديد من التحليلات الإسرائيلية التي تهاجم بنيامين نتنياهو وحكومته، وتتهمه بالفشل واللجوء إلى استمرار الحرب كهدف في حد ذاته، للتغطية على هزيمته في مواجهة بعيدة عن التكافؤ ابتعاد الأرض عن شمسها. 

والحقيقة، أن في هذا الجدل انتقاصًا من طبيعة الصراع، وتسرّعًا في التحليل. ولاحتدامه ثلاثة أسباب: أولها الاستقطاب السياسي الحاد بشأن مفهوم المقاومة وأهميتها، خاصة مع فشل ثورات الربيع العربي وتصاعد الحرب الدعائية ضد فصائل المقاومة، باعتبارها امتدادًا لقوى الإسلام السياسي، وتنامي التيار القابل لجوار إسرائيل والتطبيع معها.

أما السبب الثاني، فهو شعور الكثيرين بالتقصير تجاه القضية، نتيجة المواقف العربية غير الكافية في أحسن الأحوال والسلبية في أحايين أخرى، ولهم في ذلك كل الحق. لكن هذا الشعور انقلب على ما يبدو إلى رغبة في إضفاء حالة صافية من الانتصار على الصمود الفلسطيني، وكأنه سعي لا شعوري لتكريم المقاومة وشعب غزة، تعويضًا عمّا فاتنا جميعًا من واجب المساندة والدعم.

ويرتبط السبب الثالث بتحول النقاشات السياسية كافة إلى السوشيال ميديا، بما تتسم به من استعجال وخطاب حاد ومتكثف، بحثًا عن استقطاب جمهور من المناصرين والاستقواء بهم على المختلفين فكريًا، بالتالي لا تجد المناقشات الموضوعية ذات الأوجه المتعددة مساحتها المستحقة على تلك المنصات.

مركزية القضية سلاحٌ ذو حدين

يذهب البعض إلى أن احتفالات الفلسطينيين في غزة ليست فقط بوقف المقتلة بل أيضًا بالنصر

هذه الأسباب مجتمعة تُفضي إلى واقع فكري مأزوم، تسيطر عليه رؤية قاصرة للقضية باعتبارها مواجهة ثنائية بين أصحاب الأرض والمحتلين الصهاينة، ليكون حلّها ممكنًا بإقامة دولة فلسطينية مصطنعة تعيش بجوار إسرائيل قوية يمكن التفاهم معها وبناء مستقبل مشترك جديد للمنطقة في وجودها على حالتها.

ويمتد ذلك إلى تشفّي البعض في المقاومة بسوء نية، أو مساءلتها بحسن نية على حصيلة ما حدث وكأنها في موقع كان يضمن لها وضع تصورات كاملة لما شهده العام الماضي من تحطيم صهيو-أمريكي ممنهج لجميع قواعد الاشتباك القديمة، والأسس التي كانت محفوظة لإدارة المعارك في الشرق الأوسط، فضلًا عن تخاذل تام للقوى الدولية الكبرى، وتراجع عربي مطّرد أبقى حلول الإسناد منحصرة في المحور الإيراني الذي تبين للجميع انكشافه.

وبالتبعية، ينظر هؤلاء لما حدث في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كحرب منفصلة عما سبقها وما سيتبعها.

يفهم الإسرائيليون القضية أفضل منا، وعلى رأسهم نتنياهو الذي لم يعد الآن مجرد رئيس حكومة متهم رسميًا بارتكاب جرائم إبادة جماعية، بل أصبح الشخصية الأبرز في تحريك اللوبي الصهيوني وصاحب الكلمة المسموعة في جميع الدوائر الغربية الداعمة لإسرائيل.

ففي كتابه الذي يجب أن نعود له مرارًا، مكان بين الأمم، الذي أصدره نتنياهو إبان مفاوضات أوسلو وهو من مقاعد المعارضة متحمسًا للقفز إلى مقعد الحكم، يعدد العناصر الأساسية للصراع في الشرق الأوسط "رفض العرب لوجود أية سيادة غير عربية في الشرق الأوسط، وسعي الإسلام الأصولي لتطهير المنطقة من أي نفوذ غير إسلامي، وعداء الشعوب العربية الشديد والتاريخي للغرب. إن مصدر رفض وجود إسرائيل ليس الدولة اليهودية، بل إن عداء العرب لإسرائيل هو جزء واحد ضئيل من عداء أوسع بكثير، كان سيظل موجودًا حتى لو لم تقم دولة إسرائيل".

إذا صدرت اليوم تلك العبارات عن سياسي أو مثقف عربي فربما يُتهم بالسباحة عكس عقارب الزمن، وبأن أفكاره تنتمي لزمن ولّى. غير أن الصراع بالفعل أوسع مما يبدو، وأكبر من القضية الفلسطينية. ولذلك فإن مركزية القضية منذ نكبة 1948 سلاحٌ ذو حدين. إنّها تبقى البوصلة الأساسية غير القابلة للعطب أو التلاعب من خلال صمود الشعب الفلسطيني وتشبثه بأرضه وجذوره مهما كانت الريح عاتية، وبقاؤها حيّة هو الرهان الأكبر على إفشال المخطط الإمبريالي الصهيوني للسيطرة على المنطقة ومقوّماتها.

لكن في الوقت ذاته، كان لطغيان هذه المركزية مع توالي نجاحات إسرائيل في تحييد دول المواجهة والدول العربية الأخرى أثر سلبي على وعي أجيال متوالية، باتت تظن أن الصمود والمقاومة فعلان قاصران بطبيعتهما على الشعب الفلسطيني وأن دور  العرب ينحصر في التشجيع والهتاف وإدخال المساعدات وربما تمويل إعادة الإعمار. ومع توالي خروج دولة وراء أخرى من حلبة الصراع، شاع النظر إلى كل جولة كحرب مستقلة لها بداية ونهاية، منعزلةً عن سياقها المفترض. وبالتبعية يجب أن تُختتم بفرحة غامرة أو بكائيات ناحبة.

المكاسب والخسائر.. حساب الضرورة

في المقابل يرى نتنياهو وحكّام إسرائيل عبر العقود السبعة السابقة، أن كل حرب كبرى أو صغرى ما هي إلّا جولة في هذا الصراع الطويل. نلمس هذا في الاستنفار الدائم سياسيًا ودعائيًا، والتعطش للمزيد عسكريًا واقتصاديًا، وفتح المجال للتقييم المستمر بحساب المكاسب والخسائر على مختلف الأصعدة.

وهذا بالضبط ما يجب أن نعيه الآن وننطلق منه. فالصراع لن ينتهي بجولة واحدة حتى وإن استطاعت إسرائيل تحقيق مكاسب استراتيجية غير مسبوقة: نكسة إقليمية كبرى لإيران ومحورها مع انهيار نظام الأسد وإعادة قدرات حزب الله ثلاثين عامًا إلى الوراء، دفعت طهران إلى المقايضة مباشرة على مشروعها النووي بعد تلاشي خطوط دفاعها وهجومها خارج حدودها.

نفي النصر الإسرائيلي لا يعني أيضًا أن المقاومة انتصرت

بالإضافة إلى ذلك، تخلصت إسرائيل من رموز المقاومة الشهداء حسن نصر الله وإسماعيل هنية ويحيى السنوار وغيرهم، وتأكدت من تحويل الدول العربية إلى وسطاء سلام في أفضل الأحوال، وكرست عدم اتخاذ أي دولة عربية خطوة سياسية صارمة، بل لا أبالغ إذا اعتبرت أن ازدهار علاقة إسرائيل ببعض الدول العربية إزاء الأزمة هو مكسب مهم يحطّم تابو قديمًا.

لكن كل هذه المكاسب لا تعني أن إسرائيل حققت هدفها من الصراع، وهو تركيع المنطقة بشكل كامل وفرض السلام بالردع، وفق رؤية نتنياهو التي وضعها في كتابه بأن "سلام إسرائيل يرتبط بصورة مباشرة بقدرة إسرائيل في الردع، وكلما بدت إسرائيل أقوى أبدى العرب موافقتهم على إبرام سلام معها، وكلما أبدت ضعفًا وترددًا زادت احتمالات الحرب ضدها".

هل نجح نتنياهو؟ الإجابة: لا. لأن أسطورة الردع تظل صرحًا من خيال بسبب المكاسب التي حققتها المقاومة بالفعل ومنها؛ الاستنزاف الاقتصادي للاحتلال، واستمرار القدرة على توجيه ضربات ولو محدودة في سائر الأراضي الفلسطينية، ونجاحها في قتل أكثر من 400 عسكري إسرائيلي، وعجز جيش الاحتلال عن تحرير أسراه في غزة بالقوة. ومسألة الأسرى عميقة الدلالة، لأنها ستبقى كابوسًا للصهاينة قابلًا للتكرار، مع تجذّر المقاومة في الأراضي المحتلة.

وسياسيًا؛ تبرز عودة اهتمام الشعوب العربية بالصراع الكبير واعتبار إسرائيل عدوًا، مهما أصيب الوعي بالاختراق والتآكل، وقد لعب طوفان الأقصى دورًا تاريخيًا في ذلك، بإعادة تجديد دماء القضية عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، بالإضافة إلى المكاسب القانونية والدبلوماسية التي تحققت في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لأول مرة في تاريخ الصراع.

ولكن نفي النصر الإسرائيلي لا يعني أيضًا أن المقاومة انتصرت، فلا يمكن غض الطرف عن كل ما أصاب غزة وشعبها من دمار؛ كارثة بشرية تدور حول 50 ألف شهيد ونحو 120 ألف مصاب، نسبة كبيرة منهم أصبحوا في حكم العاجزين والمعاقين، جلّهم من شباب الغد، بالإضافة إلى حوالي 10 آلاف أسير، وإفناء مقوّمات الحياة والخدمات الأساسية في نحو 75% من القطاع، ومستقبل ضبابي للإدارة السياسية، وسيطرة إسرائيلية على المنافذ وخلق مناطق عازلة تعيد القطاع عمليًا إلى وضع الاحتلال، ومحاصرة حماس في أصغر مساحة جغرافية لقدراتها العسكرية وبنيتها التحتية منذ ربع قرن.

يخبرنا ميزان المكاسب والخسائر أنه لا منتصر ولا مهزوم في حرب غزة التي لم تضع أوزارها بعد، فهي ليست حربًا نهائية بل محطة مركزية في الصراع، تصادف أن حلّت في عصر رديء، حيث المنظومة الدولية أضحوكة، وثمن الأرواح والدماء بخس.

يؤكد الميزان أيضًا أن بناء الوعي الشعبي في مواجهة دعاة التدجين؛ بتفجير الطاقات الكامنة، وحتمية الاستثمار في معترك الدعاية العالمية، والتعاون مع الشعوب والدول المساندة للقضية. كلها أمور لم نعد نملك رفاهية الانصراف عنها. تلك هي الواجبات المفروضة وفاءً لتضحيات الشهداء، ولتعويض خسائر المقاومة، عسى أن نحمي مستقبل أبنائنا من سلام الردع الصهيوني.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.