في الفيديو الذي بثته طبيبة أمراض النساء مؤخرًا، وأثارت به جدلًا واسعًا في الرأي العام على السوشيال ميديا؛ هناك العديد من الملحوظات التي تتداخل أو تتماس مع ما صرحت به في حديثها.
في البداية بالطبع، لا أغفل نية الطبيبة المبيتة في الترويج لسلعة، وأنها تحاول بكل الطرق أن تغري مستهلكًا ما بشرائها، حتى لو لم يكن هناك كسب مادي، فهناك كسب معنوي ملحوظ سيتحقق من وراء هذا النوع من الفيديوهات. وربما هذا هو أهم الأسباب التي دفعتها للحديث بهذه الصورة الفجة، فهذه النية سبقت أي شيء آخر.
وأولى الملحوظات تساؤل: إلى من كانت توجه الطبيبة حديثها؟ بالطبع ستكون الإجابة أنها كانت تتحدث إلى الرأي العام الموجود داخل وسيلة التواصل المختارة، وهو وضع عمَّمته الميديا الحديثة وأتاحته للجميع؛ فردٌ يخاطب جماعةً دون تفريق أو تمييز. فبعد شيوع السوشيال ميديا، أصبح الوعي/الضمير الجمعي حاضرًا بوضوح أمام الفرد، ويمكن مخاطبته ومحاولة التأثير فيه مباشرة، بل ومحاكمته أحيانًا، أو مطالبته بإصدار أحكام عاجلة، ثم يأتي رد الفعل في الحال.
كانت الطبيبة تخاطب فئة تمثل الضمير الجمعي للمجتمع، الذي تشكل المرأة بجسدها وسلوكها أحد جواهره. تستفز هذه الفئة بكلامها، لتجعلها تنقلب على الأوضاع والحريات الممنوحة للمرأة، والتي تراها السبب في تدهور وضعها الاجتماعي، وانحراف أخلاقها.
لا شك أنها رأت في هذا الضمير الجمعي، الذي هي جزء منه، تبدلًا ما، وتريد أن تعود به إلى سابق عهده في الماضي، وتطالبه بأن يقتص من التحولات التي أصابت المجتمع في الحاضر، وأصابتها بدورها؛ لينقلب عليها، ويستعيد وجهه النقي القديم المتمثل في نقاء المرأة، وطهارتها، وطريقة ممارستها لحياتها.
الضمير الجمعي ليس شيئًا ثابتًا
تعاملت الطبيبة مع الوعي الجمعي باستخفاف شديد، لم تقرأ تحولاته أو تكوينه بدقة، ولم ترَ مكانها بداخله، بل نَسَخَته كصورةٍ منها، ومن أفكارها، باعتبارها ممثلةً له، وليست فقط جزءًا صغيرًا منه. بالتأكيد هناك فارق بين الدورين والمسافة بينهما، التي لا تجسر إلا بتقمص دور، والتحدث بلسانه، وهو دور يفوق إمكاناتها الشخصية كفرد.
فالطبيبة لم تكن تتحاور مع الوعي الجمعي، بل تُملي عليه، وتدين أفعاله، عن طريق استمالته، تبعًا لنظرتها؛ بنماذج درامية منحرفة، لمجموعة من الفتيات اللاتي احتجن لمساعدتها في الولادة. قامت بشخصنة هذا الوعي وحولته إلى كتلة مجهولة، لذا جاء كلامها ممتلئًا بكل هذا البعد والبرود وعدم اللياقة.
حتى لو كان هذا الضمير الجمعي يعاني فلا يمكن أن ننفي عنه في حاضرنا سمة التعدد
يُعرِّف عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم الضمير الجمعي في كتابه قواعد المنهج في علم الاجتماع بأنه "مجموعة من المعتقدات والمشاعر العامة لدى أعضاء المجتمع الواحد وتسود هذه المعتقدات والمشاعر مهما اختلف القطاع الجغرافي وتعددت أشكاله، إنه الرابط الذي بين جيل وآخر، فالأفراد يتحركون مع تيار الحياة، ولكن الضمير الجمعي هو الذي يبقى، إنه ليس شيئًا خاصًا بكل فرد على حدة، ولكنه مشترك بين أعضاء المجتمع، وأن التماثل العقلي والعاطفي بين غالبية الأعضاء مستمد من الضغط الذي يمارسه الضمير الجمعي على كل منهم".
عطفًا على تعريف دوركايم، أتصور أن الضمير الجمعي لكل مجتمع ليس شيئًا ثابتًا. فهو ليس فقط ابن الماضي وخبراته المشتركة، بل أيضًا يتجدد في كل زمن، ويضاف إليه، فهو خلاصة حوار جمعي عابر للزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الملايين من الأشخاص الذين يشتركون فيه، لذا النسبية جزء من تكوينه، وليس الإطلاق.
أيضًا يتسم هذا الضمير الجمعي بتعدد أوجهه التي تضع الصياغة النهائية لهذه التحولات، وتضبطها في صورة حدود ومعايير مرنة يمكن القياس عليها، والحوار معها، وطلب المشورة منها في الأزمات، والتعامل من منظورها مع ظواهر المجتمع المفاجئة.
ربما نشعر جميعًا في مصر بأن الوعي/الضمير الجمعي الآن في أضعف حالاته التي يعيشها، لا يحتاج للهجوم عليه، بل لترميمه وإعادة إنتاج مشتركات و"تماثلات عقلية وعاطفية"، وذكريات، وملاحمَ جديدةٍ لبث الروح فيه وإعادة تنشيطه، ليعود ويمارس ضغطه على أعضاء المجتمع الواحد، كما يشرح إميل دوركايم.
ولكن حتى لو كان هذا الضمير الجمعي يعاني، فلا يمكن أن ننفي عنه، في حاضرنا، سمة التعدد، فهو مُركَّب له طبقات وأوجه متعددة، ولا يمكن أن نختصره ونجعله أحادي الجانب في نظرته الأخلاقية، إلا إذا كان مُسيَّسًا، أو كما رأته الطبيبة وسيلة للقصاص، فقط، وليس للحوار والتعلم.
ربما الانتفاضة القوية التي شهدتها السوشيال ميديا ردًا على استفزاز الطبيبة كانت مبررة، وبالطبع عبَّرت هذه الانتفاضة عن حقيقة تمثُّل المجتمع داخل وخارج العالم الافتراضي، حتى ولو كانت مؤقتة، فقد قامت الميديا الحديثة الافتراضية بالرد نيابةً عن هذا الضمير الجمعي الغائب، لأن من المستحيل أن يكون مكان الضمير فارغًا في أي مجتمع.
السلوك الأناني للطبيبة والجموع
على الطرف الآخر، كان لا بد لمن يشغل مكان الضمير الجمعي، نظرًا لحجم تمثيله، ألَّا ينسى الأسس التي بُني عليها هذا الضمير، وأولها التعدد والنظرة الشاملة الأعمق، ويضاف إليها التسامح، والحكمة، كونه يمثل جماعات متعددة الاتجاهات والأفكار، يصوغ هذا الضمير تماثلاتها العقلية والعاطفية، وليس فردًا.
هذه الجماعات تعاملت مع نفسها كأنها فرد، تتحكم فيها غريزة الإدانة، والحكم المطلق، ووصلت أحيانًا لرغبة الانتقام.
ربما حديث الطبيبة يحوي ضمنيًا نزوة للكسب والشهرة والتسلط، ولكن من وقف على الجانب الآخر من نزوتها، بوصفه ممثلًا للمجتمع، لم يتخلَّ أيضًا في رده عن طارئية النزوة، فجاء رد فعله مبالغًا فيه، به شيء من سلوك القطيع، الذي تنتشر بينه الآراء بالعدوى.
ولكن يظل هناك سؤال، من يتحكم في ردود أفعال مستخدمي السوشيال ميديا؟ ربما هي متروكة الآن لموجات تتداخل وتتصارع من عدة اتجاهات وآراء وكتل فكرية وطبقات اجتماعية جديدة، وليس الطبقة المتوسطة فقط كما يكتب البعض، لتشكل في النهاية هذا الناتج الذي نراه أمامنا، من كولاج لضمير اجتماعي هجين ومتشظ.
الضمير الجمعي، في هذه الحالة، اتَّخذ بدوره مكان الطبيبة الأحادي نفسه، وتخلى عن أساس تكوينه الحِواري، والمتعدد، وحاول شيطنة موقفها عبر إدانتها المطلقة. فالآلاف الذين تبنوا هذا الرأي، رأوا في أنفسهم داخل هذا الفضاء الأزرق، ممثلين لهذا الضمير ولهم الحق في الإدانة.
ربما من أهم وظائف هذا الضمير الجمعي أن يشكِّل رأيًا عامًا، ولكن عليه أيضًا الابتعاد عن الإدانة المباشرة وتركها لأناس أكثر تخصصًا، فالعلم والتخصص ليسا إنتاجًا فرديًا، بل جزء من الخبرة المتراكمة التي تشارك في صياغة هذا الضمير الآن، طالما أصبحت له هذه السلطة في إطلاق الأحكام والإدانة.
ربما في هذه الحالة احتل الفرد العادي، لا المتخصص، مكان الضمير الغائب، وأصدر حكمه.
الاثنان؛ الطبيبة والجموع، اتخذا سلوكًا أنانيًا في التعامل مع الضمير الجمعي، والاثنان استهانا به ولم يُقدِّرا تكوينه المعقد والمُركَّب والمتعدد.
ربما كان يجب أن تتسم الجموع، تبعًا لموقعها وحجمها والدور الذي منحته لنفسها، بعدالة ونزاهة القاضي، وليس بوصفها ممثلة لهذا الضمير الجمعي لإدانة أحد أفراده، كأننا في محكمة، فأي من أطراف هذه المحكمة لا يمثلون أنفسهم، إلا المتهم فهو الوحيد الذي يمثل نفسه.
قد يكون السبب في تحول هذا الضمير الجمعي الهجين إلى قاضٍ يصدر الأحكام هو غياب رأي النقابة التي تنتمي إليها الطبيبة بوصفها الجانب المتخصص في القضية لعدة أيام، فجزء كبير مما قالته يمس مهنتها كطبيبة، بجانب وضعها كمواطنة.
الضمير الجمعي هو الباقي
ربما الظاهرة الأفضل في هذه القضية، هو دخول طرف ثالث جديد يقف ضد تدخل الدولة التي قبضت على الطبيبة، ومطالبتها بأن يقتصر الأمر على المحاسبة من النقابة، أي يتم حل الأمر فيما بيننا، الطبيبة والضمير الجمعي الممثل، بعيدًا عن سلطة الدولة.
هنا حدث تصالح ما بين الضمير الجمعي والطبيبة، ووُضعا الاثنان في كفة واحدة، لأن أصحاب هذا الرأي، أو الضمير الجزئي المستقطع من ضمير جماعة السوشيال ميديا، خاف على مكانته أيضًا، ونفاذية حكمه.
أغلب من طالب بهذا الرأي ينتمون لجمعيات حقوقية، ولهم علاقة شائكة مع السلطة بشكل عام، ويتحفظون على أن تأخذ سلطة الدولة مكان هذا الضمير الجمعي، ويكون لها الحق وحدها في محاكمة الطبيبة، وهذا من شأنه إلغاء حراك المجتمع لإنتاج هذا الضمير، وإحلال سلطتها مكانه.
ربما من الصعب الآن وقف ردود الفعل المتباينة، ولكن من المهم خروج تلك الآراء الجديدة التي تضع المشكلة داخل إطار قانوني ما، بجانب إطارها الأخلاقي، وأن نمتلك أدوات بحث اجتماعي نقرأ بها ظواهرنا الاجتماعية وتحولات وعينا الجمعي، ونستبعد الجزء المنهك والمؤذي منها، ولا نجعل غرائزنا الشخصية فريسة لأقل استثارة، ربما لأن لها مهامًا أخرى منها تذوق الحياة والخوض فيها.
وكما قال دور كايم؛ "فالأفراد يتحركون مع تيار الحياة، ولكن الضمير الجمعي هو الذي يبقى".