قبل أن أعرف شيئًا عن كهف أفلاطون، تساءلت دائمًا عن الحياة المحجوبة خلف صورة فوتوغرافية.
ربما لا أدين لفطنتي الخاصة بهذا التساؤل بقدر ما أدين لغباء صحافة وتليفزيون كسولين، ظلا يكرران بدأب في كل انتخاب واستفتاء نشر صورة رجل هرم يسنده ابنه الكهل، داخلًا أو خارجًا من لجنة الاقتراع. يريد مهندس الصورة أن يقنع القراء أو المشاهدين بأن ذلك الشيخ تحمَّل المشاق الكبيرة لكي يؤدي واجبه الانتخابي. والبقية معروفة؛ فالمواطن أيًا كان عمره، لن يكون شريفًا وأمينًا مع الوطن إلا إذا صوَّت بـ"نعم".
كانت كل انتخابات جديدة بمثابة مناسبة كي يصبح ذلك المواطن المنسي موجودًا، وهو يعرف أن صورته لن تفوز بمكانها في الجريدة أو بثوان في النشرة التليفزيونية إلا إذا أعلن بفخر أنه قال نعم لسيادة الرئيس من أجل الاستقرار.
في سنوات بعيدة أقل حزنًا، لم يكن القول المأثور "حتى لا نصبح مثل سوريا والعراق" ظهر في سماء الفكر، حتى يردده المواطن المسن الذي يتَّبِع ولا يبتدع. كما أن العراق في ذلك الوقت كان يبدو بخير، وكذلك كانت سوريا، وكان ما يتقاضاه المدرس السوري يساوي مرتبات ثلاثة مدرسين مصريين، كذلك كان الخوف هناك أكثر، ولهذا تحديدًا كان خراب سوريا والعراق أعمق من خرابنا.
على أية حال، لم يشغلني عجز المواطن المسن عن اكتشاف الصلة بين "نعم" التي يقولها مرة بعد مرة وتزايد منسوب بؤس حياته.
لقد أخذني تكرار الصورة إلى تأمل آخر. تمحور تفكيري كله حول المسافة بين الصورة والحياة. وانتبهت إلى أن الصورة مجرد ظل لحقيقة ما لا نعرفها، وأخذت أتساءل بيني وبين نفسي عن "حقيقة" حياة ذلك الرجل الذي حوَّلته الانتخابات إلى كليشيه.
هل يمكن أن يكون "عُهدة" يدخل مخازن الداخلية مع الصناديق والأختام والحبَّارات بعد كل انتخابات؟ هل هو إنسان حقيقي؟ ماذا يجرى في حياته قبل لقطة الانتخابات وماذا يجري بعدها؟ هل تناول إفطارًا جيدًا قبل أن يغادر بيته ليقول نعم؟ هل يكفيه معاشه؟ هل يجد رعاية طبية عندما يحتاج؟ وابنه ذلك الذي يمسك بيده في الطريق إلى لجنة الانتخاب بكل حدب وعطف أمام كاميرات الصحافة كيف يعامله في غير أيام؟ هل يضيق بطلباته؟ هل يرافقه إلى الطبيب؟ وهذا الشرطي الصالح الذي يبادر إلى دفع الكرسي المتحرك للمواطنة العجوز بكل حنان، كيف يعاملها لو تعثرت قدمه بكرسيها في مكان آخر بعيدًا عن العرس الديمقراطي وكاميرات التصوير؟
لا يريدنا صُنَّاع الصور أن نسأل تلك الأسئلة، كل ما علينا هو أن نؤمن بالوهم الذي تتضمنه اللقطة، وذلك جوهر فكرة أفلاطون عن حدود الوعي البشري ومفهوم الحقيقة.
لقد شنق الممثل الكوميدي روبن ويليامز نفسه، ولم تزل صوره تضحك
جوهر الظل
في محاورة كتاب الجمهورية يتصور أفلاطون البشر مقيدين بالسلاسل من رقابهم وأرجلهم داخل كهف مظلم، لا يستطيعون النظر إلا في اتجاه واحد، أمامهم، حيث ينتصب جدار تنعكس عليه ظلال العابرين خارج الكهف، دون أن يتمكن السجناء من رؤيتهم، لذلك سيعتقدون أن الظلال التي يرونها هي الجوهر. وإن صدر عن البشر الحقيقيين خارج الكهف صوت سيتصور السجناء أن الظلال التي يرونها هي التي تتكلم.
بعد ألفي وثلاثمئة عام على محاورة الجمهورية، تم اختراع التصوير الفوتوغرافي. وهو في جوهره ظل يسقط على سطح فينتج صورة تشبه صاحبها لكنها ليست الشخص نفسه بأي حال، ولا تتكلم، وبعد نحو مئتي عام أخرى تكلمت الصور في السينما ثم في التليفزيون، لكن ذلك لم يجعلها تتحول إلى أصل. لقد شنق الممثل الكوميدي روبن ويليامز نفسه، ولم تزل صوره تضحك.
ونحن المقيدون في سلاسلنا الثقيلة، لا يُراد لنا أن نرى الحقيقة المحجوبة خلف الصور التي تظهر في التليفزيون، لا حياة الضحايا المؤيدة من الفقراء ولا المدّاحين المأجورين من المذيعين الذين يصرخون فينا اليوم لنتقشف. لا تقول صورهم على الشاشة شيئًا عن أرقام حساباتهم البنكية، ولا تكون الكاميرا عليهم عندما يُذلون ويهانون بسبب هفوة ارتكبوها على الهواء، رغم كونهم مواطنين شرفاء يفعلون ما ينبغي أن يفعلوه من أجل استقرار الوطن.
هل كان أفلاطون نبيًا أم هي المصادفة الحسنة التي جعلت سطح صفحة كل منا على فيسبوك يُسمى جدارًا كما رسم جدار الكهف بالضبط؟
ظلال السجن
صار الأمر أسوأ بعد أن دخلنا كهف الإنترنت. لم يعد من الممكن تحمل الخسائر كما كان قبل عقود مضت، عندما كان عدد الظلال أقل، وعندما كانت سلاسل رقابنا أقل ثقلًا. كان يكفي أن نغلق التليفزيون ولا نشتري جريدة لكي نعيش في سلام. الآن، نمتنع عن رؤية برنامج فتتعثر أقدامنا في لقطات منه على فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب.
الأدهى أن كل سجين في الكهف الحديث صار بوسعه أن يخلق ظله الخاص ويعرضه أمام السجناء الآخرين. يرفع آحاد الناس صورهم الثابتة والمتحركة على صفحاتهم، ويتفحصون في الوقت نفسه ظلال الآخرين على حوائط السوشيال ميديا وتطبيقاتها.
هل كان أفلاطون نبيًا يرى المستقبل أم هي المصادفة الحسنة التي جعلت سطح صفحة كل منا على فيسبوك يُسمى جدارًا wall كما رسم هو جدار الكهف بالضبط؟
في المحاورة، يُشبِّه أفلاطون جدار الكهف بالجدار الذي يُقيم عليه المهرجون ألعابهم. وهذا عينه جدار فيسبوك ووسائل التواصل كلها؛ لقد صارت جدرانًا للتهريج وعروض خيال الظل وألعاب الأراجوز. ما يظهر في السوشيال ميديا ليس سوى ظلال، فنحن لا نعرف عن بعضنا البعض سوى الابتسامات واللحظات السعيدة. وكم من روبن ويليامز، أقل شهرة، ابتسم على صفحته قبل أن ينتحر.
مؤخرًا صرنا نعرف عن اللحظات الحزينة لكن في تدوينة "أبي إلى رحمة الله"، أو"أمي مريضة، ادعوا لها"، وربما تُرفق بالمنشور صورة فوتوغرافية للأب أو للأم أو صورة لصاحب المنشور مع أبيه أو أمه. لكن تظل المسافة بين المنشور السعيد الذي تصاحبه صورة باسمة في مكان سياحي والمنشور الحدادي الذي ترافقه صور الذكرى مسافة مظلمة بالنسبة لنا.
هل ثمة حياة حقيقية بين اللحظتين؟ كيف يعيش صاحب الصورة في مدينة ليس فيها محطة أتوبيس واحدة؟ هل تعرض للحظة كاد يُدهس فيها تحت عجلات ميكروباص طائش في الشوارع الموسعة حديثًا؟ هل دبَّر مصروفات العام الدراسي الجديد؟ وكيف كانت سيرة صاحب المنشور مع عزيزه الراحل، أو المحتضر؟ كم مرة ضاق بأنينه من المرض؟ كم مرة تباطأ في استعاضة دواء نفد من أدويته؟ هل كان يرافقه إلى الطبيب مثلما كان ابن الرجل الكليشيه يرافقه إلى لجنة الاقتراع؟
الكهف والطلب
ظلال كهف الإنترنت ليسوا على درجة واحدة من الشهرة والتأثير. الكثير من المنشورات تحظى باستجابات أعداد مفردة لا تتخطى دائرة الأسرة، يبدون الإعجاب لبعضهم البعض من الحجرة المجاورة.
لكن البعض يحظون بمتابعات واسعة، تتعملق ظلالهم وتغادر الكهف إلى الحياة الواقعية، تنفتح لهم أبواب مسؤولين كبار بوصفهم مؤثرين influencer. يلتقطون الصور مع وزراء ومحافظين، ويرفعونها على جدار فيسبوك لتغذي من جديد مكانتهم بين سجناء السوشيال ميديا، وهكذا في تدوير للظلال لا يتوقف، ودون عمل حقيقي تؤديه. تعزز احتفالاتهم في الواقع ظلالهم في الكهف وصورتهم في الكهف تجعلهم مطلوبين في الواقع.
لديَّ صفحة على فيسبوك، ككل الناس، لكنني لا أدخل الكهف إلا قليلًا، وكلما دخلت أجده ينبهني إلى تدوينات يصفها بالمهمة قد تكون فاتتني. أركض لفتحها فأرى فتيات وشبانًا مبتسمين، وهم يرفعون بأيديهم سلعة قد تكون قطعة ملابس أو كتابًا بسيطًا، أو يصافحون موظفًا كبيرًا. بعد ذلك بوسعهم أن يفتحوا متاجرهم الخاصة أو يكتبوا كتبهم البسيطة ويرفعونها في وجوهنا بدلًا من رفع كتب الآخرين، ولا يستفيد السجناء المتابعين إلا فقدان لحظات كان بوسعهم أن يقضوها في متعة أو عمل ذي معنى في حياتهم الحقيقية خارج الكهف.
ظلال الحقيقة
طوال التاريخ كان هناك مؤثرون، لكن تأثيرهم كان يشع من ضوء إنجازات حقيقية حققوها فأصبحوا ملهمين للآخرين بعملهم وليس بصورهم.
طه حسين كان ولم يزل influencer لملايين من العميان والمبصرين بسبب المكانة التي حققها في الفكر والإبداع، بينما كان قدر العمى في قرية يؤهله بالكاد لتلاوة القرآن على المقابر. محمد علي كلاي كان مؤثرًا بإنجازاته، واستطاع سليل المستعبدين ذاك لفت الانتباه إلى السود والإسلام والملاكمة.
صور المؤثرين قبل الإنترنت كانت مثل الصور على جدار كهف أفلاطون: انعكاس لحياة حقيقية. كهف الإنترنت يعرض ظلالًا لا أصول لها خارجه، تتوحش الظلال وتغادر الكهف لتقتل كل قيمة في الحياة لا تنعكس صورها على الجدار. وقد تأتي صاعقة فتحرق نجمًا إنترنتيًا، لكن نجمًا جديدًا يولد، يقوم بدوره في الإبقاء على الحياة منفية وبعيدة.
وإذا لم ننتبه لخطورة كهف الإنترنت وأهمية الوقت الذي نقتله هناك، لن يكون بوسعنا أن نفعل شيئًا دفاعًا عن الحياة، سوى أن نُنشد معارضة مريرة لقصيدة محمود درويش، حالة حصار:
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الصور.