
ذهب إيزابيلا تحت قدمي كولمبوس
هل تسفر عتمة وكر ترامب عن نور؟
عقب لقاء ترامب بقادة أوروبا يوم 18 أغسطس/آب الماضي، انتشرت على السوشيال ميديا صورة لأولئك القادة يجلسون صفًا لصق جدار، كأنهم طالِبو حاجات ينتظرون الإذن بالدخول على عظيم، ثم اتضح أن الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي لإظهار القادة في حالة إذلال. ويخيل إليَّ أن فبركة الصورة القابلة للتكذيب بعد ذلك، كانت عملية مدبرة لصالح القادة الأوربيين أنفسهم، لصرف الانتباه عن الصورة الحقيقية للقاء، التي جلس فيها ترامب إلى مكتبه من جهة، بينما يتكربس القادة أمامه من جهة أخرى. الواحد في مواجهة المجموع.
الصديق المفكر عبد السلام بنعبد العالي، كان من أوائل من قرأوا علامات صورة سبقها استعداد جيد لإخراجها على هذا النحو ولا يمكن أن تكون اعتباطية. كتب مقالًا عشية اللقاء تحت عنوان "فوضى من أجل نظام عالمي مغاير" مُصدِّرًا ما كتبه بمقولة لأنطونيو جرامشي "عالم قديم يموت وعالم جديد تأخر في الظهور، وفي خضم هذا النور الغامض ينبعث ما يُرعب".(*)
التكوين الكاشف
الحديث ليس عن لقطة واحدة، بل لقطتين (وش وقفا) نُشرتا متلازمتين للّقاء، واحدة في الأعلى ملتقطة من الجهة المقابلة للرئيس الأمريكي تظهره وحده في كرسيه العالي والثانية في الأسفل تُظهر وجوه الزائرين في تكدسهم العشوائي وتلاصقهم على مقاعد صغيرة دون هيبة، ولسان حالهم يؤكد "العدد في الليمون". بين الصورتين عبارة "السلام من خلال القوة".
يقارن بنعبد العالي في مقاله بين أبهة ترامب في الكادر الأعلى، والكادر الأسفل حيث يجلس القادة الأوروبيون "في هيئة تذكرنا بأقسام الدراسة في ثانوي". من الطبيعي أن يجد خيال المفكر والأستاذ الأكاديمي ضالته في صورة أستاذ مع تلاميذ، لكن خيالي ذهب إلى صورة زعيم عصابة في وكره السري، استدعى صبيانه لتوبيخهم على ضآلة الأسلاب التي عادوا بها من غارة. هذا ما يوحي به المكان؛ فبخلاف زحمة النياشين والأعلام والأثاث، والخريطة الكبيرة على الحامل، هناك عشرة صناديق صغيرة أمام الزعيم على المكتب.
سألت ChatGPT عن المصدر الأول الذي نشر الصورتين متلازمتين هكذا للمرة الأولى، فأكد أن الصورة نشرها الحساب الرسمي للبيت الأبيض على إكس، لكنه ليس متأكدًا بشأن تركيب اللقطتين مع العبارة PEACE THROUGH STRENGTH وقد تكون هذه الإضافة قد بدأت كسخرية على المنصات ثم انتشرت. والعبارة على أية حال، شعار يعود استخدامه إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية وتبناه الجمهوريون فيما بعد.
التكوين بفوضاه لا يوحي بأنه جرى في المكتب البيضاوي، لكن هكذا برع ترامب في قلب معنى القاعة الرئاسية التي استُخدمت بكياسة بروتوكولية على مدى أكثر من مئة عام وجعل منها فخًا لتحقير قادة الدول.
أداء مسرحي
دفعتني العروض التمثيلية المتوالية التي يؤديها ترامب في فترة رئاسته الثانية إلى البحث في تاريخ القاعة، وتأمل صورها خالية ومشغولة برؤساء أمريكيين آخرين وضيوف آخرين. وعرفت أن المكتب الذي بدا في الصورة مقبضًا وفوضويًّا وسوقيًّا إلى هذا الحد يتمتع بثلاث نوافذ وأربعة أبواب. ولم تبد هذه الفوضى من قبل، في مقابلات الرؤساء الآخرين مع ضيوفهم، ولم تكن أمام أحد ممن سبقوا ترامب في المنصب الرفيع هذه الصناديق التي وضعها أمامه لتبدو مثل سبائك الدهب الممهورة.
مثل أكثر الممثلين غرورًا ينظر ترامب إلى نفسه بينما يؤدي، رأسه المترفع ونظرته الهابطة من أعلى لأسفل لا ترى ضيوفه، بل إلى عظمته الخاصة، يخاطب بها الجمهور يفكر في مردود خروج هذه النظرة إلى العلن دون أن يهتم إن كان ما يتفوه به معقولًا أو يتمتع بأي قدر من إمكانية التحقيق.
هذه النظرة لأي ممثل لا يمكن أن تخلق علاقة طيبة مع ممثل زميل أو مع مشاهد لديه أدنى علاقة بمبدأ التعاطف الإنساني. الممثلون من هذا النوع لديهم جماهيرهم قليلة الحساسية الغارقة في مازوخيتها وعلاقتها الملتبسة بالعدوانية والإهانة. ونظرة ترامب تذهب إلى حيث يريد لها أن تذهب؛ إلى القوى الشعبوية التي حملته للمرة الثانية إلى السلطة، والتي تأكدت من أن وجوده لم يحقق من مصالحها سوى الرغبة في رؤية النخب السياسية التقليدية في وضع إذلال.
الجماهير المتعطشة للأذى
لدى جمهور ترامب، مثلما لديه، نقمة على السياسيين التقليديين الذين يزدرون العاميين كما يزدرون ترامب ويعتبرونه خطرًا على القيم الديمقراطية. هذه هي رابطة الثأر التي تجمع ترامب بجمهوره، حتى لو كانت كل ممارساته السياسية تصب في مصلحة الأغنياء وضد الفقراء.
لا يمكن لوم جمهور ترامب على كفره بقيم الديمقراطية التي لم تعد مقنعة، ولا تجرؤ الرئيس وجمهوره على مؤسسات الدولة وتقاليد الممارسة الانتخابية التي انتهت بالحزبين الأمريكيين إلى التطابق، حتى أن تداولهما السلطة لم يعد يصنع فرقًا. ولسان حالهم يقول "نحن المهانين في هذا النادي المغلق للسياسيين وجدنا أخيرًا من يمثلنا ويهين أعضاءه"!
جماهير ترامب تشبه جمهور الإمبراطورية الرومانية، متعطشة للأذى، وتريد أن ترى الأسد الذي وضعته في سدة حكم الإمبراطورية يمزق ضحاياه؛ حتى لو كان هؤلاء الضحايا من العِرق الأبيض الذي ينتمي إليه الجمهور الترامبي وحتى إذا كان من القارة الأم التي غزت ما وراء المحيط وارتكبت جريمة الاستيطان والتطهير العرقي الأولى، وأسست فوق جماجم السود والحمر هذه الإمبراطورية الجديدة.
الوقت الذي مرَّ على جريمة المستوطنين الأوروبيين في الأرض الجديدة أصبح كافيًا لكي تأتي إيزابيلا وفرناندو ويجلسا بهذه الطريقة المهينة أمام كولمبوس وأن يضعا بين يديه ذهب أوروبا.
إخصاء أوروبا
المدهش أن القادة الأوروبيين شاهدوا سوابق ترامب في استقباله لضيوفه، ولم يتوخوا الحذر، وحتى لو افترضنا أنهم توقعوا أن يلقوا معاملة أفضل من ممثلي الأعراق الأدنى وفاجأهم المشهد، فقد كان أمامهم ألا يمتثلوا للمسرحية الترامبية. ولكن يبدو أن أحدًا منهم لم يهمس في أذن جاره "هذا لا يليق، لننسحب".
أحاول تصوُّر المستشارة ميركل في لقاء كهذا. لكن تخيل سيناريوهات بديلة أمر بلا جدوى، فالواقع أن اللحظة الأوروبية شديدة البؤس، ويبدو أن التحدي غريب بالفعل. الرجل يأمر بالسلام على حساب أي طرف، وهي طريقة ترضي جمهوره الذي ينتشي بمشاهدته يصدر الأوامر أيًا كان نوعها، ومهما كانت غير عادلة أو غير حصيفة.
كان أقصى ما يطمح إليه القادة الأوروبيون تمرير اعتراضات بسيطة في الحدود التي لا تزيد الأسد هيجانًا وتعرضهم لمزيد من الهوان. الغريب أن زيلنسكي دافع عن نفسه عندما وقع بين مخالب ترامب بمفرده في اللقاء الأول. واستطاع رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا أن يسخر من كولمبوس الجديد عندما فاجأ ضيفه بتخفيض إضاءة القاعة وتشغيل فيديو يستعرض ما يبدو تفرقة عنصرية ضد البيض في جنوب إفريقيا، فما كان من الضيف إلا أن قال له؛ "أنا آسف، ليست لديَّ طائرة أقدمها إليك".
ترى أوروبا الإبادة في غزة وتلقي باللوم على أصحاب الأرض منتظرة أوامر ترامب لنتنياهو "بإنهاء هذا الأمر"
الأوربيون مجتمعون لم يدافعوا عن أنفسهم، ليس لأنهم ضعفاء، بل لأن القارة صارت مخصية أمام الولايات المتحدة. والغريب أن دول أوروبا تمكنت من الارتفاع فوق ثارات الماضي وبحار دم الحروب التي جرت بينها واستطاعت خلال عقود من المثابرة أن تصبح كيانًا واحدًا بعملة موحدة وبرلمان اتحادي، لكن هذا لم يجعلها تضع استراتيجية للمنافسة، بل وحدة مستسلمة لتبعية موحدة وغير لائقة للولايات المتحدة.
باختصار جعلت أوروبا من نفسها صفرًا أمام الولايات المتحدة يضاعف قيمتها وحدها، وتبنت طوال العقود الماضية الرؤية الأمريكية بشأن قضايا تختلف مصالحها فيها عن المصالح الأمريكية، وأبرزها بالطبع قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ثم أوكرانيا وروسيا مؤخرًا. أمريكا بعيدة متعالية خلف المحيط، لكن أوروبا جارة، مصالحها مع العالم العربي يفرضها الجوار والتداخل العرقي المتزايد من خلال أعداد الأوروبيين من أصول عربية الذين يجب احترام مشاعرهم.
ترى أوروبا الإبادة في غزة وتلقي باللوم على أصحاب الأرض منتظرة أوامر ترامب لنتنياهو "بإنهاء هذا الأمر" ثم، ها هي لا تستطيع أن تناقش أمنها الخاص في مواجهة روسيا، لأن ترامب يريد "إنهاء هذا الأمر" ولو على حساب أوروبا!
لنتخيل ما الذي كان من شأنه أن يحدث لو أن ممثلي القارة المؤسِسة لكل وحشية الرجل الأبيض قرروا رفض الإهانة الشخصية على الأقل وانسحبوا من اللقاء. هل كان بوسع ترامب أن يمدهم على أقدامهم أو يشعل حربًا ضد شركائه في الناتو؟!
كسر ترامب عزلة بوتين المفروضة بقرارات غربية وتنازل عن شرطه العنتري بوقف إطلاق النار قبل التفاوض
مَن يمكنه إيقاف هذه النرجسية الشخصية إذا لم يوقفها قادة القارة الأم للولايات المتحدة؟ على الأغلب كان الممثل سيرتبك ويتقهقر. لكنهم تركوه يفعل ما فعل بهم شكلًا وموضوعًا حيث لامهم على بدء الحرب في أوكرانيا، وتركهم لإجراء مكالمة مع بوتين حرص الكرملين على الإعلان عن طولها (40 دقيقة) ظل خلالها قادة القارة العجوز ينتظرون.
استقبالهم الذي لم يوصف بالقمة سبقه بأيام لقاء قمة ترامب مع بوتين في ألاسكا استمر ثلاث ساعات، نال خلالها بوتين مراسم استقبال لائقة وركب سيارة ترامب المصفحة وتحدث أولًا في مؤتمرهما الصحفي المشترك. كسر ترامب عزلة بوتين المفروضة بقرارات غربية وتنازل عن شرطه العنتري بوقف إطلاق النار قبل التفاوض، ولم يأخذ في المقابل سوى الوعد باستمرار الاتصالات!
وقد كان من السهل على جماهير ترامب تمرير لحظات تواضع أسدهم في مواجهة بوتين. في الغابة تبدو مراعاة أسد لدب أمرًا بديهيًّا لا ينتقص من مهابة الأسد. يمكن استيعاب هذا التساهل مادام في العالم من الخراف ما يكفي لسد جوع الأسد والدب.
كان العالم كله في الفخ فعلًا. الوحشية بلا سقف، والشعوب في مكان وقادة الدول في مكان آخر، فهل يمكن لهذه الفوضى أن تتمخض عن نظام جديد؟ هل يمكن لعتمة المكتب البيضاوي أن تسفر عن نور قريب؟ وهل علينا نحن سكان أكثر أقاليم الأرض تعرضًا للمهانة أن ننتظر ما تسفر عنه الضلمة؟
أليس لدينا ولو لهب شمعة؟!
(*)نشر بنعبد العالي مقاله القصير في موقع أنفاس برس ثم عاد لتوسعة فكرته في مقاله الدوري بمجلة المجلة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.