
ترامب يستعدي العالم
إذا كنا نحن العرب نشعر بالرعب والفزع من مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتهجير سكان غزة إلى مصر والأردن تمهيدًا لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، فإن حالنا أفضل نسبيًا من جارتي الولايات المتحدة في الشمال والجنوب؛ كندا والمكسيك، ومن حلفائها الأوروبيين الذين يشعرون أن تاجر العقارات ذا الشعر البرتقالي شديد الاعتداد بنفسه وذكائه وقدراته الخارقة على عقد الصفقات، ينسف قواعد هذا التحالف التاريخي منذ الحرب العالمية الثانية بتعمُّد إهانتهم وإذلالهم تنفيذًا لشعاري "أمريكا أولًا" و"لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا".
فمنذ وصوله إلى البيت الأبيض الشهر الماضي، يبدو ترامب على الساحة الدولية مثل ملاكم ضخم يسدد اللكمات للجميع وبسرعة، ويفقدهم توازنهم، عبر مقترحاته وقراراته التي أصابت أصدقاءه قبل أعدائه. خصص الملاكم هذا الأسبوع لمواجهة الأوروبيين ليس فقط في الحلبة الأوكرانية الروسية، بل أيضًا فيما يتعلق باعتمادهم المفرط على الحماية الأمريكية، وحصارهم لخطاب اليمين العنصري، وقمع "حريته" ذلك اليمين في "التعبير".
مع النازية ذاك أفضل جدًا
جاءت الضربة القوية الأولى في المكالمة المطولة التي أجراها نهاية الأسبوع الماضي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وكسر بها العزلة التي سعت إدارة سلفه الديمقراطي بايدن إلى فرضها على موسكو منذ غزوها أوكرانيا قبل ثلاثة أعوام. وللإمعان في الإهانة، أجرى ترامب هذه المكالمة دون أي تنسيق مسبق أو تشاور مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وبقية الحلفاء الأوروبيين، وعلى رأسهم بريطانيا وألمانيا وفرنسا الذين شاركوا في تمويل الحرب الساعية لهزيمة روسيا، بناءً على خشيتهم الحقيقية من أن التساهل مع بوتين من شأنه فتح شهيته لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق بداية بدول أوروبا الشرقية، ومنها إلى القارة برمتها.
وبعدما أنهى ترامب مكالمته مع بوتين، هاتَف الرئيس الأوكراني ليخطره بما طرحه من مقترحات، بصيغة مَن عليه الانصياع وحسب.
ولم يسلم زيلينسكي شخصيًا من انتقادات ترامب وإشارته إلى تضاؤل شعبيته إلى الحضيض، وأنه قد لا يبقى في منصبه بعد الانتخابات المقبلة. واضطر الرئيس الأوكراني الذي بدا في أسوأ أحواله إلى القول إن بلاده لن تكون مُلزمة بتنفيذ أي التزامات لم يؤخذ موقف بلاده في الاعتبار بشأنها. ولتهدئة الثور الهائج، وافق زيلينسكي على نظر طلب ترامب الحصول على معادن ثمينة من أوكرانيا مقابل المعونات العسكرية التي دفعتها الولايات المتحدة.
وبعدما عبَّر ترامب مرارًا عن تشككه في جدواه ولوح باحتمال الانسحاب منه بزعم أن الولايات المتحدة تتحمل الجانب الأكبر من أعبائه المالية مقارنة ببقية أعضائه من الأوروبيين الأثرياء، صدم وزير دفاعه الجديد بيت هيجسيث، وفي أول مشاركة له باجتماع لحلف الناتو، يوم الخميس الماضي، المشاركين، بتحديد خطوط عامة لسياسة إدارته تجاه حرب أوكرانيا، مثّلت من وجهة نظرهم تنازلات مسبقة قبل البدء في أي مفاوضات مع روسيا.
فمن مقر حلف الناتو في بروكسل، استبعد هيجسيث انسحاب روسيا من كل الأراضي الأوكرانية التي احتلتها منذ 2014 أو في أعقاب الحرب الأخيرة، أو أن تنضم أوكرانيا إلى الناتو، مشددًا على أن الحلف لن يكون جزءًا من أي ترتيبات أمنية بعد نهاية الحرب، كيلا تضطر الولايات المتحدة للتدخل العسكري لنجدة أوكرانيا بناءً على ميثاقه.
ومقابل الشروط الأمريكية التي أغضبت الأوروبيين لاستمرار التعامل مع ملف أوكرانيا، صب نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس المزيدَ من الزيت على النار أثناء الخطاب الصادم الذي ألقاه الجمعة الماضية في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في مدينة ميونخ الألمانية.
وبدلًا من تبني فانس لهجة دبلوماسية كممثل لإدارة جديدة لها أولويات مختلفة، هاجم حلفاءه بضراوة وعبَّر عن اعتقاده بأن التهديد الحقيقي الذي يواجههم ليس خارجيًا ولا يأتي من روسيا أو الصين، ولكنه "تهديد داخلي" يتمثل في خوفهم من الناخبين وتضييقهم على الأحزاب اليمينية التي تزداد شعبيتها وسعيهم لفرض قيود على حرية الرأي والتعبير، وحبسهم للمعارضين ومحاربتهم المتدينين المعارضين للإجهاض، وشركات السوشيال ميديا الأمريكية مثل فيسبوك وإكس.
مشكلة ترامب أن وقته في النهاية لا يتجاوز الأربع سنوات
وهاجم فانس سياسة الأوروبيين في التساهل مع دخول المهاجرين في حقبة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، ونكأ جرحًا ينزف لدى الألمان، بقوله إن الهجوم الأخير الذي نفذه مهاجر أفغاني في ميونخ قبل يومين من افتتاح المؤتمر هو نتيجة لسياساتهم المتسامحة مع المهاجرين.
كما تعمّد نائب الرئيس الأمريكي عقد لقاء مع زعيمة حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي يعدُّ امتدادًا للأفكار النازية والشعبوية، وذلك قبل تسعة أيام فقط من الانتخابات البرلمانية الألمانية، التي يُتوقع أن يزيد بعدها نفوذ الأحزاب اليمينية المحافظة.
كندا والمكسيك
وفي الوقت الذي فتح فيه ترامب وكبار المسؤولين في إدارته النار على الحلفاء الأوربيين، لم يتخلَّ الرئيس الأمريكي عن طموحه أن ترضخ جارته الشمالية كندا، وتقبل الانضمام للولايات المتحدة ليحظى العلم الأمريكي بنجمة إضافية. وصرح ترامب مجددًا بأنه من دون الحماية التي توفرها بلاده لكندا فإنها لن تتمكن من الدفاع عن نفسها، وأن هذا هو السبب الذي يدفعها لعدم الإنفاق على برامج التسليح والدفاع.
تربط الجارتان علاقات تاريخية وحدود شبه مفتوحة، غير أن ترامب يرى أن كندا، مثل بقية حلفائه في أوروبا وجنوب شرق آسيا، تستغل بلاده بتصدير البضائع إليها دون قيود أو رسوم جمركية، بينما تفرض رسومًا مرتفعةً على الواردات الأمريكية. غاضًا الطرف عن العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة خارج نطاق التجارة والمال، وعن كل ما قد يسببه ذلك من ارتفاع للتضخم في الولايات المتحدة نفسها مع زيادة أسعار الواردات، سواء الآتية من الصين العدو اللدود، أو من الحلفاء الأوروبيين، أقرَّ ترامب قاعدة المعاملة بالمثل فيما يتعلق بالرسوم الجمركية مع كل دول العالم.
أما المكسيك، وبجانب الخطاب العنصري الحاد الذي يستخدمه تجاهها ترامب باعتبارها أكبر مُصدِّرٍ للمهاجرين غير النظاميين إلى بلاده، فلم تسلم بدورها من فرض الرسوم الجمركية على صادراتها للولايات المتحدة بنسبة 25%، كما هو الحال لكندا.
يعتقد ترامب أن أحد أسباب نجاحه في الانتخابات الأخيرة هي تحذيراته المتواصلة من "الغزو" الذي تتعرض له بلاده من المهاجرين، وكشفه عن تعمد أمريكا اللاتينية توجيه القتلة ومغتصبي الأطفال وتجار المخدرات والمختلين وأكلة الحيوانات للهجرة إلى الولايات المتحدة.
ولأن الرئيس الأمريكي يعتقد أن منصبه الحالي يتيح له القيام بما يشاء بحكم "السلطة الأمريكية"، وبغض النظر عن أي قوانين دولية أو قرارات أممية وحقائق تاريخية وجغرافية، قرر منفردًا تغيير اسم "خليج المكسيك" إلى "خليج أمريكا"، وفرض هذا التغيير على كافة الخرائط الرسمية الأمريكية. وعندما تمسكت وكالة أسوشيتد برس الأمريكية بالتسمية التاريخية للخليج، لم تسلم من عقوبات ترامب، إذ أعلن البيت الأبيض حرمان مراسلي الوكالة من ركوب الطائرة الرئاسية وحضور بعض المؤتمرات الصحفية.
رغم هذه البداية التي تشبه الإعصار، على الصعيدين الداخلي والدولي، يبقى السؤال قائمًا حول قدرة ترامب خوض المعارك على كل هذه الجبهات في الوقت نفسه. صحيح أن إمكانات الولايات المتحدة ضخمة ونفوذها هائل، ولكن مشكلة ترامب أن وقته محدودًا، لا يتجاوز أربع سنوات، وهو الآن يستعدي العالم برمته تقريبًا؛ جيرانه المباشرين وحلفاءه المقربين في أوروبا، ومعهم حلفاءه العرب الذين يستجدونه التوقف عن إحراجهم أمام شعوبهم كما فعل مؤخرًا مع العاهل الأردني عبد الله الثاني، الذي لم يملك سوى الصمت أمام الثور الهائج.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.