
من التمر إلى النفط.. مشروع الاستعباد العربي
في أبريل/نيسان 1931، كتب الأخوان عبد العزيز وعبد الرحمن بن عبد اللطيف المناع إلى ناصر بن محمد المنيع، ليخبراه أنهما باعا في الدوحة خمسَ نساء سودانيات جُلِبن من الدمّام في السعودية، إلى جمعة الصومالي، بمبلغ 1000 روبية، أي حوالى 135 دولارًا.
كان ناصر، المقيم في البحرين، أوكل للأخوين الانطلاق في رحلة استثمارية تجارية بجزء من رأسماله. وفي الرسالة التي كتباها له أوضحا أنهما أتمَّا صفقة البيع سريعًا وبمبلغ أقل من المتوقع، لأن الإماء كلما عُرضن للبيع تظاهرن بالمرض. لكن جمعة الصومالي، الذي كانت معه سيارة، قال إنه سيشتري النساء ويسافر بهن، فأراد الأخوان تخليص البيعة والخلاص من النساء وتلبيسهن للصومالي.
أوقفتني تفصيلة "السيارة" في تلك الحكاية، وأنا أقرأها في كتاب عبيد لسيد واحد: العولمة والعبودية في الجزيرة العربية في عصر الإمبراطوريات لماثيو هوبر. فهو مشهد يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الجربعة والمظهرة، بين التخلف واستهلاك التكنولوجيا، بين فهلوة السيد وكفاح العبد. والسيارة اختراع السيد الأبيض الأكبر تحمل الجميع.
هذه واحدة من الحكايات التي يذكرها هوبر لتوثيق انتشار وتوسع تجارة العبيد بالذات في إمارات الساحل العربي الممتد من مسقط حتى البصرة، وهي التجارة التي توسّعت وتوحشت منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الأربعينيات، قبل أن يتغير اسمها بعد الحرب العالمية الثانية ليصبح كفالة العمالة، متخذةً شكل الاستعباد الحديث.
في سنة 1943 مثلًا وصَلَت إلى الوكالة السياسية البريطانية في البحرين أَمَةٌ تُدعى فاطمة بنت محمد، تشكو إساءة معاملة مالكتها. فاطمة أصلًا كانت من جزر زنجبار (جزء من تنزانيا حاليًا في إفريقيا مع حكم ذاتي)، اختطفها التجار العرب ضمن آلاف الأطفال الذين اختطفوهم من شرق إفريقيا.
باعوها أولًا إلى عائلة في الدمَام السعودية، ثم باعتها تلك العائلة لامرأة أخرى في البحرين. قالت فاطمة إن سيدتها الجديدة تضرِبُها يوميًا بالحذاء والسوط، ويذكر التقرير أن جسدها حمل آثار تعذيب وسوء معاملة، فأصدرت السلطات البريطانية شهادة عتق وحررتها.
عبودية التمر واللؤلؤ
حكاية فاطمة وغيرها من العبيد والإماء في إمارات الساحل العربي تعود إلى قرون خلت. فمنذ القرن السادس عشر، تشكل خطان أساسيان لتجارة العبيد، ينبع كلاهما من إفريقيا؛ الخط الأول هو الأقدم، ويبدأ من شرق القارة، حيث كانت سلطنة عُمان تحتل زنجبار وعددًا من جزر إفريقيا وسواحلها ومناطق في وسطها.
جرت العادة بأن يُغري العرب من شبه الجزيرة الأطفال الأفارقة بتمرٍ محشوٍّ بمخدّر، يأكله الطفل فينام، وحين يستيقظ يجد نفسه على مركب تأخذه إلى مسقط أو دبي، العاصمة التاريخية لتجارة العبيد والقرصنة. ومن هناك، يُباع العبد لتجار البصرة في العراق أو إمارات الساحل، بل ويمتد خط تجارة العبيد ذلك حتى الهند في أقصى الشرق والشمال.
أما الخط الثاني فيبدأ من الساحل الغربي، حيث يُنقل الأفارقة المختطفون عبر المحيط الأطلنطي للعمل في المستعمرات الأوروبية في أمريكا الشمالية والجنوبية.
المحظوظون من العبيد المحررين كانت القوات البريطانية ترسلهم إلى مومباي أو للمدارس التبشيرية في البحرين
هناك فروق ثقافية وسياسية بين نمطي التجارة؛ فعبيد الخط الشرقي المحكوم بالشريعة الإسلامية كانوا جزءًا من الديكور الاستهلاكي للسادة والأغنياء، لذلك فالإقبال أكثر كان على الإماء. وقيمة العبد تزداد إذا كان يُحسِن القراءة والكتابة، أو العزف والغناء، لأن عدد العبيد وإمكاناتهم كانا يعكسان المكانة الاجتماعية للسيد وثروته.
يخالف هذا النمط تمامًا ما يحدث على سواحل الأطلنطي، حيث بلغت أعداد العبيد الذاهبين إلى مستعمرات العالَم الجديد أضعاف من أبحروا من سواحل إفريقيا الشرقية إلى إمارات الساحل العربي، إذ قُدِّرت أعدادهم بالملايين استُخدموا في ظل القوانين الأوروبية والشرائع المسيحية أيدي عاملة في الزراعة وبناء المستعمرات الجديدة.
لكن بعد سنوات من إعلان الاستقلال الأمريكي، وصلت سفينة التاجر الأمريكي ألكسندر هاملتون إلى مسقط نهاية القرن الثامن عشر، في أول رحلة تجارية بين الساحل العربي وميناء بوسطن في الفيدرالية الأمريكية الوليدة. عاد هاملتون بمجموعة بضائع مختلفة كان من بينها البلح، الذي أحدث بوصوله إلى هناك ثورة في المطبخ والاقتصاد، استمرت وتعاظمت طوال القرن التاسع عشر، خصوصًا وأن جلبه من إمارات الساحل العربي تزامن مع استيراد اللؤلؤ من هناك.
شهدت بداية القرن التاسع عشر تزايدًا في عدد سفن الشحن والتجارة الذاهبة والآتية بين الولايات المتحدة ومسقط والبصرة وسائر إمارات الساحل. أقبل الأمريكيون على شراء البلح الذي جرى تسويقه باعتباره "ثمرة المسيح" القادمة من جنات "عدن الشرق"، ومعه اللؤلؤ الذي أصبح رمزًا للتفاخر أقبلت عليه نساء الطبقة البرجوازية الأمريكية.
أمام هذا الإقبال من السوق الأمريكية، توسَّعت زراعة النخيل وصيد اللؤلؤ في إمارات الساحل لتصديره إلى أمريكا، في مقابل الكيروسين وغيره من مشتقات البترول التي تُصدِّرها أمريكا للخليج. وسبحان مغيِّر الأحوال ومبدِّل الأدوار.
في تلك اللحظة من القرن التاسع عشر، تغيرت محددات واقتصاديات خط تجارة العبيد الشرقي الهندي/العربي؛ فبدأ عرب الساحل في خطف وشراء المزيد من الأفارقة من السواحل الشرقية للقارة لإجبارهم على العمل في زراعة البلح واستخراج اللؤلؤ. ونلاحظ هنا أن معظم هؤلاء العبيد كانوا مسلمين أفارقة، يختطفهم مسلمون عرب، فلا مجال هنا لـ "المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص".
استخدَمت العائلات والأسر التي توسعت في تجارة العبيد تلك الأيادي العاملة في مراكمة الثورة، وقدَّمت نفسها مبكرًا للضباط البريطانيين والتجار الأمريكيين ورُسل التبشير المسيحي بصفتهم أهل الحل والعقد. ومع نهاية القرن التاسع عشر ستعترف بريطانيا بسلطات بعض تلك العائلات، ليصبح سادةُ العبيد هؤلاء حُكَّامَ المستقبل.
جرَّمت بريطانيا تجارة العبيد بشكل رسمي عام 1833، وبناءً على هذا كلّفت قواعدها العسكرية في الخليج باعتراض السفن العربية التي تجلب العبيد المخطوفين من إفريقيا وتحريرهم. بالطبع هذه الحملات لم تكن ناجحةً بدليل أن تجارة العبيد ازدهرت في الخليج واستمرت حتى أربعينات القرن العشرين.
فحين كانت القوات البريطانية تحرر هؤلاء المختطفين، كان بعضهم يُختطف ويباع مرة أخرى. والمحظوظون كانت القوات البريطانية ترسلهم إلى مومباي في الهند، أو المدارس التبشيرية المسيحية الأمريكية في البحرين، حيث يتم تنصيرهم وتعليمهم الإنجليزية. أما من لم يتمكنوا من الهرب، فعاشوا في ظروف أسوأ حتى مما تُرتّبه قوانين الشريعة الإسلامية وفقه العبيد.
على سبيل المثال، في عام 1921، وقبل وفاتها، أقدمت عائشة بنت خليفة آل نهيان، شقيقة حاكم أبوظبي السابع زايد بن خليفة (زايد الأول) المتوفى عام 1909، على عتق جميع عبيدها، وأوكلت إلى ابنها سيف بن محمد مهمة توثيق هذا العتق رسميًا في صكوك مكتوبة.
لكن بعد وفاتها، ومع تولي الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان الحكم في أبوظبي عام 1922، لم يعترف بتلك الصكوك، وأعاد استرقاق العبيد الذين اُعتقوا واعتبرهم ملكًا لعائلة آل نهيان. أحد هؤلاء العبيد كان طفلًا، تمكَّن من الهرب والوصول إلى مكتب الشؤون البريطانية واشتكى من إجباره على الغوص لصيد اللؤلؤ رغم صغر سنه، لكن رجال الشيخ طاردوه وأعادوه قسرًا إلى أبوظبي للعمل في موسم الغوص.
لم تنتهِ العبودية في إمارات الساحل الخليجي بسبب كفاح بريطانيا ضد تجارة البشر، ولا بسبب كرم أخلاق حكّام وتجار الساحل، بل لأن الولايات المتحدة توسعت منذ عشرينيات القرن الماضي في زراعة البلح جنوب كاليفورنيا كما أوضحت في مقال سابق. وإلى كاليفورنيا أيضًا انتقلت مزارع اللؤلؤ الصناعي من اليابان ليغزو الأسواق، بينما عصفت المجاعات والأوبئة بالنخيل العربي في العشرينيات فانفتحت السوق العالمية أمام البلح الأمريكي.
حينها فقط لم تعد هناك حاجة لأطفالٍ عبيد مخطوفين من إفريقيا لزراعة البلح وصيد اللؤلؤ.
سنوات النفط
بعد سنوات قليلة من الحرب العالمية الثانية، بدأت عمليات استكشاف واستخراج البترول من إمارات الساحل العربي التي منحتها بريطانيا الاستقلال، بعد عقود من حمايتها من النفوذ العثماني والسعودي، لتسلمها بيضة مقشرة إلى روزفلت وأمريكا.
ومع البترول، ظهرت الحاجة لنوع جديد من الأيدي العاملة لكن هذه المرة لم تكن شرق إفريقيا قادرة على توفيرها، لأن إمارات الساحل كان تحتاج لمهندسين وأطباء ومدرسين وغيرهم من نخب الطبقة الوسطى التي سافرت للعمل في نظام الكفيل، أُجراء لا شركاء.
في حالة سنوات التمر واللؤلؤ، كما في حالة سنوات النفط، استثمرت النخب الخليجية الإقطاعية في علاقتها بالإمبراطورية الغربية الكبرى، بريطانيا أولًا ثم الولايات المتحدة، لتحصين حكمها ونظامها الاقتصادي، إلى جانب الاستثمار في صياغة الصورة الذهنية وتحديثها في محاولة للإيهام بإمكانية تحقيق هذا التزاوج بين الأصالة والمعاصرة. أن تستمر كنظام اقتصادي إقطاعي بينما تتحدث عن التعديل الجيني والذكاء الاصطناعي. أو كحالة أبناء مناع منذ حوالى مائة عام؛ تبيع النساء بـ135 دولارًا على متن سيارة حديثة تمخر عباب الصحراء.
اليوم؛ ينظر اليمين الأمريكي والغربي بإعجاب لهذا النموذج. ترامب في زياراته الأخيرة لبعض إمارات الساحل كررها مرارًا؛ "لديكم شيء رائع هنا، حققتم معجزة". وهو لم يكن يقصد بالطبع الرخام الإيطالي الأبيض في قصر حاكم قطر. بل لأن هؤلاء العرب حققوا الحلم الذي يشتاق ويحن إليه ملايين البيض الأمريكان؛ علاقة عمل عبودية في ظل الذكاء الاصطناعي.
بالنسبة لليمين الأمريكي، هناك جرح غائر في الوعي اسمه الحرب الأهلية التي انتهت بإنهاء العبودية. وكل مشاريع ومناورات اليمين الأمريكي تظل عودًا أبديًا لتلك اللحظة، لعالم الأصول والقواعد، حيث السيد الأبيض في مزرعة القطن يحتسي عصير الليمون ويراقب العبيد في الحقل.
انتهت هذه الأيام، لكنهم اليوم ينظرون بحسد لإمارات الساحل العربي، لأن هؤلاء العرب حققوا الحلم الذي يشتاق ويحن إليه ملايين البيض الأمريكيين. ومشروع أمريكا 2025، الذي يمثل خطة العمل لليمين، يتحدث عن تغيير جذري لقوانين الهجرة والتجنيس، لخلق نموذج شبيه بنماذج الخليج الآن.
نموذج يربط فيزا الدخول بوجود عمل و"كفيل"، والحصول على الجنسية الأمريكية بـ"الجدارة" لا بسنوات الإقامة والالتزام بدفع الضرائب، في محاكاة لنموذج كارت الإقامة الذهبية، الذي تمنحه دول خليجية ومعه الجنسية أحيانًا لفنانين ورجال أعمال وأكاديميين، في عملية تجريف للثروة البشرية لدول المنطقة، بينما ملايين العمال والمهاجرين المقيمين منذ أجيال في تلك الدول لا ينالون ربع هذه الحقوق.
يبرر البعض موقف إمارات الساحل العربي من ثورات الربيع العربي بأنه نتيجة الخوف من الإسلام السياسي، لكنَّ الأمر أعقد من ذلك. مثَّل الربيع العربي استعادةَ وصعودَ ثقافة الحكم والاستقلال الذاتي. رأت الشعوب العربية ونخبتها من الطبقة الوسطى أنهم بشر وأحرار، ولديهم القدرة على العيش المشترك خارج قواعد العالم الإقطاعي ولعب بني هاشم بالملك.
بالنسبة لإمارات الساحل العربي، تمثل هذه الأفكار التحررية تهديدًا وجوديًا. فالإقطاعية هي المُركَّب الأساسي لحمضها النووي، ومن هنا كان الاستثمار في نموذجين لا ثالث لهما؛ حكم إسلامي لا يعرف الديمقراطية وتداول السلطة، ويكرّس سلطة وشرعية المجتمع الإقطاعي -ولعلّ حالة الشرع/الجولاني خير دليل، أو تفتيت هذه الدول والمجتمعات بإبادة ذاكرتها الجماعية والقضاء على أي مشروع للسلام الأهلي أو الوعي الجمعي أو الخيال الذي قد يجمعها، كما حدث في ليبيا والسودان.
وفي هذا السياق، استثمرت إمارات الساحل بشكل ممنهج في دعم وتأجيج الحروب الأهلية، وتفكيك المؤسسات، وإعادة هذه المجتمعات إلى حالة بدائية من الحُكم القبلي والإقطاعي، ليُدرك الجميع في النهاية أنهم عبيد لسيد واحد. أما من تسوّل له نفسه التمرّد على القبيلة، فكرباج الاقتصاد وتجويع الشعوب حاضر دائمًا لتأديبه.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.