في مطلع صيف 1991، مع بداية زمن جديد من الانكسارات والهزائم؛ بحرب تدمير العراق مطلع السنة، وانهيار الاتحاد السوفيتي في نهايتها، يُقدِّم شريف عرفة وماهر عواد فيلمهما سمع هس. منذ مشاهدته للمرة الأولى، أصبَحت لهذا الفيلم، العابر للتصنيفات، مكانةٌ خاصةٌ عندي، تكرَّست أكثر فأكثر مع الوقت. ومع توالي أعمال شريف عرفة اللاحقة، وانفصالي عن سينماه، ظلَّ هذا الفيلم أفضل أفلامه وأصدقها في نظري.
مع افتتاح العقد الثاني من الخراب المباركي، الذي دشنه الرئيس بالمشاركة في تدمير بلد عربي آخر، نجد حمص وحلاوة/ممدوح عبد العليم وليلى علوي، يصرخان صرختهما الأخيرة وهما ينظران للكاميرا مباشرة، إلى عيوننا كمشاهدين، صرخة تتناقض مع واقعهم البائس وهزيمتهم الحاسمة؛ "هتشوفوا". فيكونون بهذه الصرخة، بالإضافة إلى الصرخة الأولى التي منحت الفيلم اسمه، يأمروننا بالانتباه، بأن نسمعهم وأن نراهم، بينما تنزل التترات الختامية على الشاشة.
هزيمة حمص وحلاوة كانت انتصارًا إن رأيناها من جانب آخر، فخلودهما تحقق؛ شارلي عازف البيانولا الأخرس، المتشرد، يتحدث رغم خرسه نيابة عنهما، يحرك آلته في الشوارع، ليسمع الجميع أغنيتهما التي سُرقت منهما، وصورتهما مطبوعة عليها.
الاحتماء بالسينما من الواقع
الصدفة وحدها ذكرتني بهذا الفيلم قبل أسابيع، لأعود لمشاهدته، وكأني أحتمي بإصرارِ وصمودِ حمص وحلاوة، ورفضهما للاستسلام، وأتبنى دون أن أنتبه صرختهما، في وقت فُرض علينا الصمت تجاه الكثير من الكوارث التي تحيط بنا، وأولها إبادة الشعب الفلسطيني، والحرب الإسرائيلية على لبنان.
كانت صدفة أن تكون هذه المشاهدة الأخيرة قبل إعادة تقديم أغنية أحد أفلام يوسف شاهين بعد تغيير كلماتها، لصالح طاحونة الأموال الخليجية التي تأكل كل شيء، بكل ما أثارته من نقاش وخلافات وغضب. وكانت صدفة كذلك مشاهدته قبل أن تُكشف فضيحة السفينة "كاثرين"، الذي وجد له مكانًا في مواني مصرية، في الوقت الذي تذبح فيه إسرائيل الفلسطينيين واللبنانيين، وتقصف اليمن وسوريا والعراق. بكل ما للحادثتين من دلالات سياسية حارقة، وانبطاح كامل أمام الخليج وإسرائيل.
هزيمة حمص وحلاوة تُستعاد إذن على شاشة في بيتي، في وقت تُفرض فيه علينا هزيمةٌ جديدةٌ، لم تكن قَدريَّة أو حتمية، ويُفرض علينا كذلك أن نصمت تجاهها. هزيمة لا تقارن بأي هزيمة قبلها، لها سمات جديدة من بينها أنَّ على الضحية/المهزوم إعلان استسلامه الكامل والنهائي أمام الجميع. ولا ينحصر المعتدي هذه المرة في من كان يُشار لهم بـ"عواصم أجنبية". بل إن حلفاء هذا المعتدي في العواصم العربية، هم من يقولون لنا الآن "سمع هس". وصوتهم، بنبرته الإرهابية والدموية، هو ما سيسود في الأعوام المقبلة التي لا نعرف عددها.
فيلم سمع هس من بين أفلام النصف الأول من التسعينيات، التي كان صُناعها يحاولون مقاومة انهيار ونهاية صناعة السينما المصرية، وأن يستمروا في صناعة تصفّيها الدولة، ومواجهة زمن جديد يرفض سينماهم الجادة. وتمثَّل صمودهم هذا في أن يعافروا لصناعة أفلام تبحث عن جمهور مصري بدأ في ذلك الوقت يهجر قاعات العرض السينمائي التقليدية قبل زمن المولات.
كان هؤلاء السينمائيون على وعي بأن "المهرجاناتية" لا تمنح سينماهم الاستمرارية. وأن المهرجانات ربما تلقي على الأفلام بعض الضوء، تمنحها بعض الدعاية، لكن ما يمنح السينما الاستمرارية والحياة، هي الصناعة نفسها، وكل فيلم جديد بمجرد صناعته، وكل فرد من الجمهور بشراء تذكرة مشاهدته. بينما الوجه الأكثر خطورة للهزيمة الجديدة، هو المهرجاناتية الحالية نفسها، التكريس لعادية الهزيمة والإبادة، وكأنها أصبحت جزءًا من مفردات الواقع الطبيعي المطلوب التعايش معه وقبوله. ولكي لا أبتعد عن السينما المصرية ومنطق المهرجانات، لأستعيد مؤقتًا مهرجان الجونة.
بعد تأجيله بضعة أسابيع، خصصت إدارة مهرجان الجونة دورته السابقة للتضامن مع فلسطين، بطريقة بدا منها بشكلٍ أو بآخر، أنه لا يجوز الاحتفال وإحياء الحالة المهرجاناتية المعتادة في زمن الموت المعمم والإبادة. لكن المهرجان عاد هذه السنة بنفس روحه القديمة، حيث يُسلَّط الضوء على الشو والأزياء ونميمة المشاهير أكثر من الأفلام والسينما، فيما الإبادة مستمرة، وكأنها باتت جزءًا من الواقع الطبيعي، عادية، علينا التعايش معها، وأن تستمر الحياة بموازاتها. وكأن المهرجان في العام الماضي "قضى واجبه" نحو جاره المتوفي، بالتزام الهدوء وتعزية أهله، وانتهى الموضوع.
لا تنحصر المسألة في هذا المهرجان وفقط، بل نجدها في عشرات آلاف التفاصيل اليومية التي نمارسها جميعًا كل يوم. فالإبادة والموت والقصف والاغتيالات والخطف والاعتقالات، وتدمير الشعبين الفلسطيني واللبناني، أصبحت وكأنها واقع يومي، نتطلع إلى أخباره بدافع العادة. وكأن البحث عن الأخبار أصبح فعلًا معادلًا لقزقزة اللب.
لحن الصمود الحزين
بدايةُ سمع هس معبرة عن زمنه والزمن الذي بشرت بمجيئه سينما الثمانينيات وأول التسعينيات؛ بالسيرك الشعبي الفقير، بما يرمز إليه كعالم كامل في شادر صغير، يتصارع فيه فقراء على جلباب مهلهل. وهناك فقراء مثلهم يتفرجون ويضحكون عليهم. فقراء يضحكون على بعضهم البعض بدلًا من أن يتحدوا في مواجهة عدوهم، القوي وصاحب السلطة، الذي جعلهم فقراء، ليهزموه ويحولوه لمسخرة.
حمص وحلاوة يحددان من هما ولمن ينتميان، منذ هذه البداية بكلمات أغنيتهم؛ "إحنا اللي هم.. لا مؤاخذة.. لا مؤاخذة عايشين بالتيلة". لكن صراع الفقراء فيما بينهم لا يستمر، مع توالي ظهور الأغنياء والأكثر قوة من حمص وحلاوة، ليفرض منطق الصراع من أجل البقاء عليهما ضرورة تحديد الوجهة.
أبرز هؤلاء الأغنياء/الأقوياء المغني غندور المتغندر "المزنوق في مناسبة وطنية"، فيسرق لحن أغنيتهما ليضع عليه كلمات طنطنة وطنية، مناسبة لزمن مبارك هذا، ولم تعد حتى مقبولة في زمننا الحالي. فبدلًا من أن تكون الأغنية "أنا حمص حمص يا حلاوة.. آخر عفرتة كلي شقاوة"، تتحول على يديه، كسلطة/كقوي، إلى "أنا وطني بنشد وبطنطن.. وأتباهى بمجدك يا وطنطن.. على كل الأوطان متسلطن.. رجالتك طول عمرها رجالة". لكنهم كثيرون، كل من هم في حال أفضل منهم، وجميعهم يضغطون على البطلين ليقبلا الهزيمة ويعلنا الاستسلام، ليكونا مجرد بواقي خبزٍ أُكِل ولم يبقَ منه إلا الفتات، ملقىً على الأرض، لينهش بقاياه الآخرون من الفقراء.
من رحم هذه الهزيمة، ورفض إعلان الاستسلام، يُولد لحن جديد. فمثلما ولدت صرخة التحدي، يبدأ حمص صياغة أغنيته الجديدة الحزينة؛ "هافضل طول عمري صعلوك.. صايع متشرد بعكوك.. متهان.. غلبان.. وسط ملوك". لكن شريف عرفة وماهر عواد، وكذلك ممدوح عبد العليم الذي شاركهما في إنتاج الفيلم، لا يتركون الجملة القدرية المُسلِّمة بالضعف لتستمر.
ترد حلاوة على حمص، تنبهه؛ "روق بس يا واد أُمَّال.. بكره تحلو الأحوال.. بكره يجونا.. يترجونا.. علشان غنوة أو موال". ليتحقق التصاعد والوحدة الحقيقية بينهما من جديد في نهاية الأغنية، فيتَّحدا في وجه كل من يحاولون إجبارهما على الاستسلام؛ "هاتشوفوا طريقنا مودي لفين.. على ما تهل سنة ألفين.. هانكون فوق.. فوق.. فوق.. وأطول واحد فيكوا هاييجي تحت كتفانا كده بشبرين".
اللافت في رحلة حمص وحلاوة أننا نستطيع رؤية معادلاتها في حياتنا المعاصرة. في محاولات صمود الفقراء دفاعًا عن حقوقهم. بداية من دفاع أهالي جزيرة الوراق عن بيوتهم وأرضهم، وصولًا لصمود الفلسطينيين دفاعًا عن أرضهم وحقهم في الحياة والحرية. وإذا كان العنف الذي يلجأ إليه القوي وصاحب السلطة هو أكثر أدواته وضوحًا، فإن لديه أيضًا أدوات أخرى؛ التهديد والتزييف ومحاولة الرشوة للإسكات، دون نسيان إرهاب وقمع الفقراء المحيطين، ليتكثف رعبهم من أن يكونوا الضحية المقبلة. كما أنه، صاحب السلطة ومرتكب الجريمة، يلوِّح لهم بما لن ينالوه أبدًا؛ الأموال والحياة المريحة. ومثلما تقول كلمات استعراض آخر في الفيلم "الفلوس.. قد موج البحر فلوس.. قد رمل الشط فلوس.. السما هاترخ فلوس.. صيف شتا نوة فلوس".
بينما أشاهد الفيلم من جديد، تذكرت الوهم الذي باعه السادات لقطاعات من المصريين، بأن مع السلام سيحل الرخاء وسنغرق في بحر من الفلوس. نفس الوهم الذي يُباع اليوم إماراتيًا وسعوديًا وإسرائيليًا، مُعمَّدًا هذه المرة في بحر واسع من الدم، عن رخاء اقتصادي سيعم المنطقة بعد كسر مقاومة الفقراء، وعلى أشلاء الفلسطينيين واللبنانيين.
انتهى زمن سمع هس. مات ممدوح عبد العليم. انعزل ماهر عواد. وأصبح شريف عرفة مخرجًا "مهمًا" لم يعد يصنع مثل هذه الأفلام التي تمجد الفقراء ومقاومتهم وصمودهم. أصبحنا في زمن فرض الطاعة والخنوع والاستسلام. زمن يُصوَّر فيه فعل المقاومة، بكل أشكاله، باعتباره النشاز الوحيد. لكنه النشاز الذي نحبه، نشاز ضروري، يشكل استمرارية لحن الفقراء في مواجهة الطنطنة الفارغة لوطن تم تدميره.