منذ بداية عملية الإبادة في غزة، حاولت أن تلتزم مقالاتي بعنوان أساسي واحد، هو فلسطين. لأنني أتصور أنها الأولوية، وأن علينا، من تتاح لنا فرص النشر في المواقع الصحفية الحرة القليلة المتبقية، أن ننتهز الفرصة ونساهم في بناء وعي ببعض جوانب القضية الفلسطينية، فربما تُقرأ مقالاتنا لتزامنها مع حدث تاريخي كبير يتشكل أمامنا.
والحديث الآن عن "سعودة مصر" ليس التفاتًا عن غزة. فاستمرار الإبادة، والموت السريع لكل أمل جديد بوقفها، والصمت الرسمي العربي عليها، لا يمكن فصله عن العملية الأخرى التي تحدث وتتطور خلال الأعوام الماضية؛ الهيمنة السعودية على مصر؛ الرسمية، والثقافية والفنية.
السعودة في جوهرها تلتقي بـ"الأسرلة"، وتكملها. ولنتذكر أن أحد أهداف عملية طوفان الأقصى كان عرقلة الشراكة الإسرائيلية الخليجية، وإعادة مبدأ حق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة في الحياة والحرية والسلام إلى صدارة المبادئ الحاكمة للمنطقة والمحددة لمعالمها، بدلًا من المال والتجارة والمصلحة. ولو أنَّ مصر نجت من السعودة، لكان لها أن تفعل الكثير من أجل الفلسطينيين؛ باستقلالية، وبما يراعي مصالحها القومية والاستراتيجية.
ما قبل تركي.. غزو الوهابية
الأجيال الشابة ربما لا تعرف ما كان يخشاه كثير من المثقفين في الماضي. أن الخوف من السعودة وسيطرة البترودولار على مجتمعاتنا كان خوفًا من الوهابية. خوف من تغلغل منظومة فكرية/دينية رجعية. خوف بادٍ بوضوح في خلفية "صراخ" المتنورين فزعًا أمام البشائر الأولى لهذا التغلغل في الثمانينيات والتسعينيات.
لم يعد الخوف الآن من تغلغل وهابي، بل من سيطرة قيم أخطر لا علاقة لها بالدين وتفسيراته. قيم أكثر اتساعًا وخطورةً من مجرد نقل عادات غريبة للمجتمع المصري. فالغزو السعودي في جوهره تدمير لما هو أهم من نوعية تدين المصريين وشعوب المنطقة. إنه إعلاء لسطوة المال، وسحق أي قيمة أخرى لا تتفق مع هذه السطوة. لدرجة استحقاق أصحاب هذا المال إعادة تشكيل كل معالم حياتنا، وخلق نمط مجتمعي يضمن لهم السيطرة السياسية والاقتصادية بالأساس.
في الفترة نفسها التي بدأنا نسمع فيها عن صفقة تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين، نَشَر عدد من الإعلاميين والصحفيين "المتنفذين" مقالات وبوستات عن مآدب إفطار رمضانية في بيت السفير السعودي بالقاهرة. حفلات يُمنحون فيها هدايا عينية، كالساعات الفخمة، ويُبلغون خلالها بدعوتهم للحج أو العمرة على حساب الحكومة السعودية. ونشر بعض الإعلاميين صورًا لهم أثناء رحلات الحج والعمرة تلك.
وحين بدأت أصوات الاعتراض، وكان ذلك قبل غزو تركي آل الشيخ المكثف للحياة الإعلامية والفنية والرياضية المصرية، لم ينشر أيٌّ من هؤلاء، أو صحفهم، كلمةَ اعتراض أو حتى تساؤلًا واحدًا بشأن التنازل عن أرض مصرية لدولة أخرى.
المثل الشعبي الشهير يقدم التفسير؛ اطعم الفم تستحي العين واللسان.
ما حدث من غزو للأموال الخليجية للإعلام المصري بعد ثورة يناير لم يكن جديدًا، بل إعادة إحياء للقديم. سمته الوحيدة الجديدة هي درجة وضوحه وكثافته وكمية الأموال التي أنفقت فيه، وكأنه تصحيح لخطأٍ قديم؛ ترهل محاولة السيطرة على الإعلام المصري في العقد الأخير من عصر مبارك، بتصور أنها لم تعد ضرورية.
لعبة السيطرة القديمة، في السبعينيات والثمانينيات، نبه إليها بوضوح الكاتب الراحل عبد الرحمن منيف، الذي نُزعت عنه الجنسية السعودية، على الأقل مرتين. الأولى في خماسيته مدن الملح، حيث نراقب بتمهل وخلال زمن الرواية الممتد لعقود، كيف بُني جهاز الإعلام لهذا البلد النفطي المتخيل، ليكون القاعدة الثانية للدولة الوليدة مع جهاز المخابرات/الأمن. وكيف كانت المرحلة التالية منع أي نقد يوجه لحكام البلد في صحافة الخارج، سواء بالترهيب أو بالأموال، قبل عقود من تقطيع الأجساد بالمناشير في القنصليات.
المرة الثانية التي تحدث فيها عبد الرحمن منيف كانت في محاضرة ألقاها في مونتريال خريف 1993، ونشرها في كتابه بين الثقافة والسياسة، يفسر فيها ما نراه اليوم قبل حدوثه بأعوام طويلة؛ مظاهر "الرحرحة الدينية"، واستعراض الانفتاح الاجتماعي، والمهرجانات، وحضور النساء مباريات كريستيانو رونالدو.
لم تكن المشكلة الغزو الوهابي. فمنيف يشير إلى أن الصبغة الدينية الخليجية تتجدد من فترة لأخرى لتلبية أهداف سياسية وعصبية. وهي خاضعة لعامل السلطة بالأساس. يقول "المال قيمة أساسية ومستقلة". وهو القيمة التي تخلق تصور أن كل شيء قابل للشراء. وكل شيء تعني كل شيء؛ حتى الأفكار والثقافة. ولنقُل؛ المبادئ أيضًا.
نعود إلى غزة دون قصد! فسطوة المال، وعملية الشراء المخابراتية/الإعلامية، تتم دائمًا لمصلحة العائلات الحاكمة وحلفائها، لا لتدعيم قيم أو مبادئ ثابتة ومطلقة مثل العدل والمساواة والحرية، أو حتى الرقي الفني والروحي. يفسر ذلك كل بهرجة وضجيج المهرجانات والمواسم المسماة بالفنية، أثناء إبادة غير مسبوقة، والتنكيل بممثل مصري تحفظ على هذا التزامن. فالمقصود تحديدًا أن "نلهو" بينما يُباد شعب عربي، دون حتى أن تُستدعى الخطابية الدينية الرجعية القديمة لنصرة المسلمين، فهي لم تعد متوائمة مع المصلحة.
ما بعد تركي.. غزوة الدم الخفيف
لم يعش منيف زمن هيئة الترفيه المتخذة شكل زكائب أموال تتنقل بين البلدان العربية، لشراء "المسليين وخفيفي الدم"، وإن كاد أن يتنبأ بها. ففي نفس المحاضرة يشير إلى السيطرة الخليجية التدريجية على الصحف، وإنشاء دور نشر عربية بأموال نفطية، وكيف أن هذا الغزو امتد لبداية السيطرة على الإنتاج التليفزيوني العربي، ليتوقف تدريجيًا عن لعب دوره وسيطًا لإنتاج المعرفة والثقافة، ويتحول وسيطًا استهلاكيًا. أو بكلمات عصرية، ولأن تعبير الاستهلاك يبدو معقدًا، وسيطًا لـ"الترفيه"، "التسلية"، وإن كانت الكلمة الأدق "السخافة".
يعرف عبد الرحمن منيف الهدف السعودي بدقة، ويطرحه بوضوح وفي كلمات مختصرة "إعادة صياغة العقل وتعميم ثقافة من نمط معين". لكنه لم يحكِ ما هو لاحق، ونعرفه نحن؛ بعد السيطرة جاء الإغلاق. أن تسيطر تدريجيًا على صناعات مصرية لها حضور وقواعد وأسس إنتاجية، مثل الإعلام والسينما والإنتاج الدرامي والنشر، فترهنها بتمويلك، وتطوعها لتصوراتك ومنظومتك الفكرية. تربط صُنَّاعها وفاعليها بالأموال السخية التي تتحكم في درجة تدفقها جيدًا. ثم تغلق "حنفية الأموال" فجأة بعد تدمير كل الموارد الأخرى، وبعد اعتياد السوق على مصدر تمويلي واحد. فتنتهي الصناعة، بعدما لم يعُد الصُناع قادرين على الاستمرار بدونك.
بإمكان المهتمين بمزيد من التفاصيل العودة إلى انهيار صناعة السينما في التسعينيات وبيع أصولها، ثم أزمة المسلسلات التليفزيونية مطلع الألفية، أو الأزمة الكبيرة التي عاشها من اعتادوا على مهرجان دبي بعد توقفه. يتكرر ذلك الآن حرفيًا في صناعة التليفزيون والسينما، وها هو يمتد لمجال الأدب مع جائزة "القلم الذهبي"، التي لن أتناولها مكتفيًا بالإشارة لمقال شديد الأهمية نشره أحمد الفخراني في رصيف22.
وفي استدراك لأخطاء ما قبل ثورة يناير، تتكرر العملية القديمة وبكثافة لضمان عدم وقوعها مجددًا، مع مراعاة بعض التفاصيل الجديدة. من بينها أن تُوضع في واجهة كل مبادرة "تسلية" جديدة أسماء مقبولة ولها حضور واحترام. فيتجنب من لا تعجبهم حالة السعودة الانتقاد. ويكون على أغلبهم الاستجابة بهدوء للموجة، إن أرادوا الاستمرار في مجالهم.
قالت لي صديقة إسبانية/مغربية بعد عودتها من مهرجان البحر الأحمر السعودي إن "كل السينمائيين العرب هناك". وأضافت مُحذَّرةً "إن أردت الاستمرار في المجال فعليك الذهاب". كلانا يعرف أن في كلمة "كل" الكثير من المبالغة. لكنَّ اقترانها بتحذير يخلق شعورًا بالقلق والخوف على المستقبل الشخصي، وكأنني الغائب الوحيد.
كان هناك سؤال مماثل قبل أن يظهر مهرجان البحر الأحمر، يُلقى علينا باستغراب مبالغ فيه "ألن تذهب للجونة؟!"، يلخص واقعًا جديدًا. فالذهاب للجونة ليس ذهابًا إلى السينما، بل إلى العلاقات العامة، من أجل الإجابة عن سؤال هاملت الشهير بما يناسب زمن السخافة؛ أن أكون هو ألَّا أُمحى وينسون اسمي.
هناك تصور شائع بين الكتاب المصريين الجادين بأن وضعهم أفضل من السينمائيين. فعجلة إنتاج إبداعاتهم الأدبية أقل تعقيدًا وتكلفة من إنتاج مسلسل أو فيلم. وبالتالي، فالسينمائيون والتليفزيونيون المصريون معذورون إن انبطحوا أمام شروط دوائر المال الخليجية والسعودية ليُنتجوا أفلامهم ومسلسلاتهم.
لكن الحقائق تقول إن من يذهبون لدائرة المال السعودي لا يعانون البطالة أو التهميش أو كبت رغباتهم في الإبداع. فهم من أباطرة ما تبقى من صناعة الدراما المصرية. وكانوا، ولا يزالون، مسيطرين عليها. دافعهم للذهاب هو المزيد من المال، والمزيد من النجاح التجاري. أي قيمة المال مرة أخرى. بينما من يحتاجون للعمل فعلًا، والمهمومون بأشياء يريدون حكيها، أو لديهم طموحات إبداعية حقيقية، أغلبهم في البيت أو في المنفى البعيد.
شراء صمت المثقفين والفنانين بعوائد وفوائض النفط حجر أساس لعملية السعودة
نعرف جيدًا، من يستجيبون لماكينة الترفيه السعودية ومن يعرضون عنها، ما فعلته صناديق أخرى، أكثر جدية ورحابة، بالسينما خلال العقدين الأخيرين. فمع موضة صناديق الدعم والتطوير المرتبطة بمهرجانات، التي ظهرت كبديل عن النمط الإنتاجي التقليدي، ارتبطت كل العملية الإنتاجية الفنية بأذواق المجموعة الضيقة المتحكمة في هذه الصناديق، وتصوراتهم حول المنتج الفني.
على سبيل المثال، سيادة نوع الريبورتاج التليفزيوني الذي تسميه الجزيرة بـ"الفيلم الوثائقي"، لتختفي الأنواع الأخرى خلال عقدين من الزمان، فيما عدا الفيلم "التسجيلي التأملي" إن كان الممولون من خارج قطر. وامتد الأمر للفيلم الروائي وهمومه، وقضاياه، وشكله الفني أيضًا. بحيث أصبحت أغلب الأفلام المسماة خطأً بـ"المستقلة" ستامبا أسلوبية واحدة. ما يجعل تخيل نوع المنتج الفني الذي سيسود بأموال هيئة تركي آل الشيخ، أو غيرها، عملية شديدة السهولة، إن كان فيلمًا، أو كانت روايةً.
أكاديمية فنون سعودية.. أو التدمير
توجد في جنوب إسبانيا مدينة/منتجع اسمها "بورتو بانوس". تأسست بالكامل نهاية الستينيات وبداية السبعينيات على ساحل البحر المتوسط، لتكون منتجعًا سياحيًا صيفيًا لأغنياء العالم. كان من روادها الصيفيين وأصحاب القصور بها الملك فهد وأخوه حاكم الرياض السابق والملك اللاحق سلمان. لتتوالى القصور والفيلات والفنادق في المنطقة، والكثير منها بأموال البترودولار.
لكنه مجتمع معزول، ومؤقت بشهور الصيف، ومرفوض ثقافيًا وقيميًا من المجتمعات المحيطة. يشتعل بالاستهلاك الموسمي من كل الأنواع، بداية من شراء اليخوت الفاخرة، وصولًا لشراء الأجساد والمتعة، مرورًا بالمجوهرات وغيرها. ليعيش مؤقتًا في الصيف ويموت في نهايته.
زيارة بورتو بانوس مبهرة، فبعبور أمتار قليلة للدخول للمدينة، تشعر بأنك دخلت عالمًا آخرَ مختلفًا تمامًا عن العالم الذي تعرفه، وشهد عملية التدمير الممنهج بسبب نوع آخر من السياحة الجنسية، الخليجية بالأساس، في مصر منذ أواخر السبعينيات حتى اليوم. سياحة زيجات السمسرة السريعة بعقود تُمزق بعد ساعات أو أيام في بعض قرى جنوب الجيزة.
التدمير الثقافي والقيمي والإنساني، والتنموي أيضًا، الذي حدث في هذه القرى، يجعل بورتو بانوس جنة إنسانية بالمقارنة. فهي مدينة مبنية بالأساس لتكون سوقًا موسمية احترافية وفقط. لا تدخل فيها أموال طائلة إلى مجتمع ريفي/صناعي لتحوله إلى سوق مثلما حدث في مصر، حيث لا نتحدث عن ضحايا عملية التدمير المستمرة هذه، لأنهم من أضعف حلقات السلسلة المجتمعية؛ فتيات ونساء فقيرات على أطراف المدينة الكبيرة، لا تستحق الالتفات إليهن.
لذلك لم يزعجني بشكل خاص شراء، أو استئجار، جهات سعودية أو إماراتية لمناطق ساحلية واسعة وبكر، ستتحول لمجسمات جديدة من بورتو بانوس، بقدر ما هي مزعجة ومخيفة حالة السعودة، التي لا تتوقف عند المهرجانات، بل تصل لجوهر أداء السلطة المصرية، التي لم تعد تملك أن ترسم بإرادتها أي سياسة مستقلة عن الخليج، في أي قضية داخلية أو إقليمية.
شراء صمت المثقفين والفنانين بعوائد وفوائض النفط حجر أساس لهذه العملية. فالمثقفون هم من يجب عليهم أن يتحدثوا، ينبهوا، وربما يصرخوا. وهو ما يجيب عن السؤال المتكرر في أوساط أدباء وفنانين وسينمائيين مصريين وعرب؛ لماذا لا يؤسس السعوديون بكل هذه الأموال التي يضخونها في "صناعة الفن المصرية" أكاديمية للفنون، تتضمن معهدًا للسينما والتليفزيون، وآخر للمسرح، وثالثًا للموسيقى والغناء، وأن تكون مكرسة لخدمة أبناء وبنات بلادهم، ليتعلموا الفن وينتجوا الجديد منه؟!
الإجابة سهلة، فالنظام السعودي، ومن يعملون لصالحه، وإن بدوا مستقلين ومرحين، يدركون جيدًا دور المثقف والفنان. يعلمون أنهم خطر على هذا النظام، فإن فُتح هذا الباب سيخرج من عنده، من داخل مجتمعه، من يفكرون، ويبدعون، وبإمكانهم مع الوقت طرح الأسئلة الجادة والمقلقة.
ليست مسألة ترفيه، أو متعة، أو تسلية، وإنما بتعبير أحمد الفخراني "هلس". بل وتتجاوز الهلس، لتعميم السخافة والتفاهة، تدريجيًا. فلا يستطيع الفنان أو المثقف، ليس فقط أن ينتقد أو يتحدث عن أي ملمح من ملامح الحياة السعودية أو الإماراتية، أو أن يتحدث عن غزة، أو أن يصف إسرائيل بالعدو، بل إن عليه أن يمتنع تمامًا عن أن يكون له رأي أو موقف من أي شأن مصري داخلي سوى بما يتوافق مع رؤية الممول الحالي، والممول المحتمل.