
الرئيس لا يعلم
في منتصف التسعينيات، وفي أجواء الخصخصة وتصفية القطاع العام، كان موعد تطبيق قانون تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر للأراضي الزراعية يقترب، فيما المعارضة القومية واليسارية واثقة من أن الشعب، والفلاحين تحديدًا، سيُجهضون تنفيذ القانون، استنادًا لتصور بسيط مفاده أن قوانين الإصلاح الزراعي، وتمكين العمال الزراعيين وفقراء الريف من الأراضي الزراعية، هي أهم منجزات نظام عبد الناصر في نصف مصر غير المديني.
إنجازات تعادل التأميمات، والنهضة الصناعية، وإنشاء القطاع العام، وبناء المساكن الشعبية، تغيرت معها أحوال العمال والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. إذًا؛ لن يسمح الفلاحون المصريون لنظام مبارك بنسف الإنجاز الأهم الذي غيَّر حياة عائلاتهم تمامًا.
بدأت فعاليات واجتماعات محدودة للمعارضة، وتشكلّت لجانٌ في بعض المناطق استعدادًا لما سيكون غالبًا انتفاضة فلاحية عارمة، ستنجح على الأقل في إجهاض القانون، ووقف مسار الخصخصة. ومثلما كانت بقايا المعارضة في زمن انحسارها تستعد، كان النظام بدوره يفعل. ففي سياق الضربات الوقائية الأمنية الدقيقة نسبيًا، قبل زمن العشوائية المطلقة، اعتقلت أجهزة الأمن عددًا من المعارضين القادرين على التحرك، لحين تمرير القانون وفرض الأمر الواقع. كان من ضمن هؤلاء حمدين صباحي.
في مقر الحزب الناصري بشارع طلعت حرب، الذي لم تكن علاقة المعتقل حمدين صباحي به جيدة وقتها، بل يتمايز عنه ببعض الاستقلالية عبر نادي الفكر الناصري الذي يرأسه، عُقد مؤتمرٌ لرفض القانون والتضامن مع المعتقلين والدفاع عن إرث عبد الناصر. أتذكر من بين المتحدثين اثنين؛ ناشط شيوعي متحمس وخطابي، وبرلماني من حزب معارض. يتحدث أولًا الشيوعي الراديكالي الذي سيثير بالطبع حماس القاعة الصغيرة، ثم يأتي الدور على البرلماني المعارض بكلامه الموثق والواضح، الموجه لقاعة أُثيرت بالفعل.
بدأ الشيوعي كلامه مُخصصًا مطلعه لحمدين صباحي، زميله في الحركة الطلابية بجامعة القاهرة في السبعينيات. بدا هادئًا، لكنه قال "أنا عايز من هنا أقول إن جزمة حمدين صباحي أنضف من مبارك"، ومضى يذكر قائمة لا تنتهي من أسماء رموز السلطة، ليقارنها بأحذية المعارضين من حيث درجة النظافة.
ارتبك الحضور. قليلون مَن يعرفون ماذا سيفعلون؛ وهؤلاء كانوا من الشباب والطلاب الجامعيين الناصريين والشيوعيين، المتهورين بحكم السن، الذين لا يعبأون كثيرًا بحَبْسَةٍ، إن طالت، ستمتد بضعة أسابيع لا أكثر. فلا يملكون أمام "سخونية الحقبة العمرية" سوى التصفيق أو الهتاف، إما للمتحدث، أو لحمدين صباحي المعتقل، أو لعبد الناصر، أو لليسار العائد من جديد عبر هبة فلاحية ستكون عارمة؛ "جابلك إيه يا بهية.. عبد الناصر لما مات.. جاب الخونة من المنوفية.. حسني مبارك والسادات".
النائب البرلماني المعارض، وغيره، ولأن اسم مبارك شخصيًا، وليس أي سياسي آخر من المسموح للمعارضين بالهجوم عليهم وسبّهم، حضر دون مواربة، مقرونًا بالخيانة وبنظافة الأحذية، تململوا في مقاعدهم. تحولت هذه المقاعد والقاعة في لحظة لعناصر غير مريحة.
أنهى الشيوعي كلامه، جلس، ليصعد إلى المنصة البرلماني المعارض. بدا ثابتًا وهادئًا ليخفي ارتباكه، واعيًا بالجملة التي ستنقذه، وستشكل جوهر خطابه المُدعي الاستناد على السياسة، وأطلقها مباشرة؛ "الرئيس لا يعلم".
الوزير لا يخبر الرئيس
بعد ثلاثين عامًا من هذه اللحظة، وأيام قليلة من حادث الطريق الإقليمي، المتكررة في جوهرها، التي راح الفقراء كالعادة ضحيتها، شهد البرلمان يوم 1 يوليو/تموز الحالي مشاهد متضاربة، فيما الحملة خارجه دائرة للضغط من أجل إقالة الوزير الذي كان الرئيس يكرر اسمه دائمًا؛ يا كامل.. يا كامل.. يا كامل.
لم ولن يُهدر الفقراء وقت البرلمان الثمين، لهم في النهاية وقت محدود مراعاة للشكليات. فهم في النهاية أعراض جانبية لمشروع التحديث الجبار، الجاري منذ 2013؛ طرق، كَبارٍ، تفريعة، تنازل عن جزر استراتيجية، بيع وتأجير أصول وأراضٍ، مونوريل، مدن جديدة، عاصمة جديدة، وائتلاف قبائل وغيرها. وكأننا نبني ليس فقط نظامًا جديدًا، بل نخترع بلدًا وشعبًا جديدين بالكامل، لا علاقة لهما بمصر التي يتحدثون عنها منذ آلاف السنين. مصر جديدة، لامعة ونظيفة، تخبئ فقراءها وراء أسوار كي لا يراهم أحد، حتى وإن ماتوا على الطريق.
داخل البرلمان وفي خطوة مفاجأة، يوبخ رئيس المجلس وبعض نواب السلطة الحكومة، فقد أتت بمشروع قانون الإيجار القديم مفخخًا دون دراسة، قنبلة قادرة على الانفجار في أي وقت. بل إن انفجارها التدريجي سيبدأ بعد شهر من التصديق على القانون ونشره في الجريدة الرسمية، باتجاه الانفجار الكبير بعد سبعة أعوام، حين يجد الملايين أنفسهم في الشارع حرفيًا، ويكون عليهم أن يجدوا سكنًا جديدًا، أو البيات أسفل كباري الوزير كامل الوزير.
وبَّخ نوابُ النظامِ الحكومةَ، طالبوها بأن تأتي إليهم بأرقام وبيانات محدثة، بالإمكان الوثوق فيها، ليعرفوا عدد المتأثرين بهذا القانون قبل مناقشته، ومناقشة مادته الثانية، الأخطر من بين كل مواده. وغرَّد البرلماني/الإعلامي الشهير، ليحيي قرار إيقاف مناقشة القانون. فتصور المتابعون السذج من أمثالي أن الرئيس، وفي اللحظة الأخيرة، أدرك حجم المشكلة/القنبلة. أدرك أن على نظامه تجنب أي مشاكل إضافية. فهو محاصر بحروب وميليشيات في الجنوب والغرب، وإبادة وحلم تهجير صهيوني في الشرق، وإدارة أمريكية طائشة لا تعلم ما تفعله، وخليج تمر العلاقات معه بفترة باردة، وقروض آتية من جبهة بعيدة، شمال المتوسط، تُغرق البلد تدريجيًا.
الأهم، هو أن الرئيس يعلم لا بد، عبر أجهزة الأمن والمخابرات والإعلام، أن قطاعًا واسعًا من شعبه يعاني ليحصل فقط على قوت أولاده، حتى وإن كان "عيش حاف"، فكيف يغامر بهذا القانون، إلا لو كان يتصور بأنه سيترك الحكم قبل انقضاء السنوات السبعة؟!
كان ذلك يوم 1 يوليو. هدأت النفوس لساعات، اطمأن المتضررون من هذا القانون، وبقايا المعارضين. نسينا أمهاتنا وآباءنا المعرضين للتشرد وهم فوق الثمانين بعد أن سكنوا في بيوتهم عقودًا طويلة. لكن في يوم 2 يوليو، وفجأة، يصوّت البرلمان على القانون ويُقّره، ببنوده الأكثر ترويعًا؛ رفع القيمة الإيجارية بمعدلات خيالية، وبعشوائية تساوي بين مناطق لا تربطها صلة ببعضها البعض، وبتحرير العلاقة الإيجارية بالكامل، بمعنى إنهائها، بعد السنوات السبع، أو ما يطلق عليه بالمادة الثانية الشهيرة.
كان الرئيس يعلم وكانت الناس تعلم أنه يعلم. والناس والرئيس وكلا المعارضَيْن كانا يعلمان نهاية المشهد
ما الذي حدث؟! لا نعلم. أين هي الأرقام والبيانات؟! لا نعلم. فجأة يُمرر القانون. لتعود الأنظار للتعلق بالرئيس، وبسؤال: هل يعلم؟! هل يعلم الرئيس أن أحد قوانينه ينسف منطق القانون والعقود الموقعة بين ملايين الأجراء وأصحاب الملكيات من أساسه؟! ينسف منطق أن العقد شريعة المتعاقدين؟! وأن من يتأثر به هذه المرة ليس حيًا عشوائيًا أو فقيرًا، أو صفًا من العمارات تُزال لتوسيع طريق من طرق الوزير الكامل، بل بلد بأكمله، ببيوته ومتاجره ومصالحه وعياداته وورشه وأفرانه؟! أم أن السيناريو المتفق عليه هو أن يظهر الرئيس في المشهد الأخير، ليعدل القانون، ويُخليه من بعض القنابل، فيستعيد شعبية "المخلِّص" التي يحتاجها في هذا الزمن؟!
مبارك الذي كان يعلم
"الرئيس لا يعلم"!! أُعجبت في التسعينيات بهذه الجملة التافهة والمنافية للحقيقة. اقترنت في ذاكرتي بشخص يحاول النجاة من قاعة متمردة، فلم يجد أمامه سوى الادعاء بأن الرئيس لا يعلم بأهم قانون تتبناه حكومته وحزبه، لصالح هذه الحفنة من ملاك الأراضي الزراعية وبقايا الإقطاع القديم، العائدين لمحاولة استرداد ما يتصورونه ملكًا لهم. بدت لي لحظة مفارقة كوميدية في منتهى الرهافة، من معارض يقارن حذاء أحدهم بالرئيس، لمعارض يقول بأن الرئيس لا يعلم، غير عابئ بنظرات الاستهزاء والشتائم الخفية. المهم أن يتمكن من مغادرة القاعة، سالمًا بقدر الإمكان.
كان الرئيس يعلم، وكانت الناس تعلم أنه يعلم. والناس والرئيس وكلا المعارضين؛ الزاعق والخائف، كانا يعلمان نهاية المشهد؛ سيذهب المعارض الذي قارن نظافة حذاء حمدين صباحي بمبارك إلى السجن لأسابيع، ويعود البرلماني المعارض لدائرته وبرلمانه. وينتهي المصفقون في غياهب التحلل التدريجي، في ظل غياب قوى سياسية قادرة على إيقاف سياسات مبارك ونظامه وحزبه وضباطه.
لكن اللحظة كانت فارقة، ستظل تنضج على نار هادئة، وإن تأخرت 15 عامًا من أجل أن تنضج حقيقة. لم تعد مرتبطة بقانون واحد يخص الفلاحين، بل بمجمل سياسات النظام، لتصل إلى يوم 25 يناير 2011. يومها، ربما، مجرد ربما، أدرك مبارك أن الجميع كانوا يعلمون أنه يعلم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.