
صرخات يائسة وسُلطة صمَّاء
من علامات الدول الحديثة التي تشكِّل ملامحها المبدئية، وجود سلطات ثلاث مستقلة عن بعضها البعض، تتمتع كل واحدة منها بكامل صلاحياتها التي كفلها الدستور ونظمتها القوانين؛ فنجد الرئيس والحكومة يطبقان برنامجًا أقرّه الناخبون، في ظل رقابة نواب الشعب القادرين على المحاسبة، فيما يفصل القضاء وفق القانون في النزاعات المعروضة أمامه. ومع هذه السلطات، هناك سلطة افتراضية رابعة تمثل الرأي العام؛ وهي وسائل الإعلام والصحف المستقلة.
لم تعرف الجمهورية في مصر جوهر هذا النظام إطلاقًا. ولكن على الرغم من ذلك حافظ الرؤساء المتعاقبون على شكله؛ ظلَّ البرلمان يستخدم أدواته الرقابية على المؤسسات التنفيذية، وظل أعضاؤه يتمتعون بحريةٍ في تقديم طلبات الإحاطة والأسئلة والاستجوابات للوزراء ورؤساء الجهات التنفيذية. لذلك، لمعت في سماء الوطن أسماءٌ نبيلةٌ تميّزت بالشجاعة فى مواجهة السلطة، مثل ممتاز نصار ومحمود القاضي وكمال أحمد وأحمد طه والبدري فرغلي وغيرهم.
أما الصحافة فشهدت توهجًا كبيرًا بعد سنة 1976، عندما استبدل السادات صيغة المنابر السياسية بالاتحاد الاشتراكي، وهو التنظيم السياسي الوحيد لثورة يوليو، وسرعان ما تحوّلت هذه المنابر إلى أحزاب، لتصبح صحفها ساحة هائلة لتبادل الرؤى والأفكار في مختلف قضايا الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وما زلت أذكر كيف كنا نسهر حتى الفجر انتظارًا للطبعة الأولى من صحيفة الأهالي أو مجلة روزاليوسف أو الأهرام الاقتصادي وغيرها.
كما كانت الوقفات الاحتجاجية المُعبِّرة عن مواقف القوى السياسية من السياسات والأحداث عديدة وثرية، فقد وقفنا أمام مجمع التحرير دعمًا للانتفاضات الفلسطينية، ثم تنديدًا بالغزو الأمريكي للعراق. وتعددت الوقفات أمام نقابتي الصحفيين والمحامين ضد التوريث أيضًا، ووقف القضاة بأروابهم وأوشحتهم أمام دار القضاء العالي رفضًا لتدخل السلطة التنفيذية في أعمالهم.
خلاف ذلك، اعتاد رؤساء مصر السابقون على عقد لقاءات دورية مع النخب والمثقفين والشخصيات العامة، وما زال الشيوخ من أمثالي يتذكرون مهابة عبد الناصر أثناء مناقشاته في اجتماعات المؤتمر القومي أو مجلس الأمة مع بنت الشاطئ ورفعت المحجوب. كما أذكر حواره المثير مع الشيخ عاشور إمام وخطيب مسجد سيدى المرسى أبو العباس، الذي راح يدعو الرئيس للتصدي لموضة الميني جيب والميكروجيب المثيرة.
استغل النظام المخاوف التي أعقبت ثورة الناس على حكم الإخوان ليُصدر عددًا من القوانين الشاذة
كما أتذكر أيضًا الحوار الشهير عام 1977 بين السادات وعدد من زميلاتي وزملائي في الجامعة آنذاك، وكان من بينهم حمدين صباحي ونازلي محجوب وعبد المنعم أبو الفتوح وحمدي ياسين ومحمود الحاجري وغيرهم، عندما انفعل الرئيس بطريقة مسرحية وهو يشخط في أبو الفتوح الذي سأله عمَّن ينافقونه "الزم مكانك.. الزم مكانك وحدودك"، قبل أن يُذكّر الحضور بأن "الدين ماقالش إنه يقف ويقول هذا الكلام أمام رئيس العيلة رئيس البلد، اللي سمحله ييجي علشان يقول رأيه بصراحة".
أما مبارك، فكان لقلة محصوله من الثقافة ربما مُقلًّا في حوارته، وإن كان حواره الصفيق والمثير مع الدكتور محمد السيد سعيد ماثلًا في الأذهان.
لم نكن بالطبع نعيش يوتوبيا سياسية أو حلمًا ورديًا، فقد كان ذلك الهامش المتاح من الحوار والمساءلة والمحاسبة جزءًا من موازين القوى حافظ عليها النظام الذي استخدم حالة الطوارئ الممتدة، أداةً فعالةً للقمع. وتعددت مرات القبض على النشطاء السياسيين على غرار قبضة السادات الكبيرة على الجميع في سبتمبر/أيلول 1981، قبل موته بشهر.
أما اليوم، وبعد ثورة مجيدة كان شعارها الجامع "عيش حرية كرامة إنسانية"، نجدنا قد حافظنا على "شكل" الدولة الحديثة الذي عرفناه قبل قرن من الزمان، وظلت مؤسساتنا وسلطاتنا الدستورية قائمةً كما نعرفها، ولكن بلا دور ولا فاعلية وبلا قدرة حقيقية على أداء وظائفها الدستورية.
فقد استغل النظام المخاوف التي أعقبت ثورة الناس على حكم الإخوان، ليُصدر عددًا من القوانين الشاذة التي تسجن وتُغرِّم كل من تظاهر دون إذن، وابتدعت عقوبات قاسية على البحث عن المعلومات ونشرها، وعُدِّل الدستور ليسمح لرئيس الجمهورية باختيار رؤساء الهيئات الرقابية والمحاسبية والقضائية.
أما قوائم نواب البرلمان فتُعدُّ مسبقًا، ويكتفي الناس في الانتخابات بالتصديق عليها. أما في الجلسات، فلا يستخدم النواب أدواتهم البرلمانية في الرقابة على أعمال الحكومة، حتى عند اشتداد المصائب، كما أنهم لا يمثلون صوت الشارع في القوانين المثيرة للجدل أو التي تمس حيوات ملايين المصريين وحقوقهم وأرزاقهم.
أما وسائل الإعلام، فاستحوذت على أغلبها الشركة المتحدة المملوكة للمخابرات العامة، فلم نعد نرى في قنوات التليفزيون المحلية أو الصحف "الخاصة" إلا ما يسمح به النظام.
أصبحت القرارات المصيرية التي تنظم حياة الناس وتؤثر على معيشتهم ومستقبلهم تتنزل وكأنها قرارات علوية لا قِبل لهم بمناقشتها وفهمها فضلًا عن مواجهتها. فتتراكم الديون بلا رقيب، وينتهي الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، ترتفع الأسعار ويفقد الجنيه قيمته مع التعويمات المتتالية. تُباع أصول الدولة وأراضيها ومصانعها وشركاتها، دون أن يكون للناس أي خط مفتوح مع السلطة للفهم والإفهام، فضلًا عن الاحتجاج والمساءلة.
ثم إن غياب المساءلة وانقطاع التواصل شجّعا على التورط في جرائم حقيقية، مثل أزمة الطائرة المصرية التي ضُبطت في زامبيا محمّلة بالدولارات والذهب، ولم نرَ برلمانيًا في مجلس النواب يسأل أو يستجوب أي وزير بشأنها، أو قضية الرشوة الكبيرة في وزارة الصحة، دون أن نرَ لها صدىً في أي برنامج تليفزيوني.
انقطعت سُبل الحوار بين النظام والشعب الذي يحكمه، ولم نعد نسمع إلا صرخات ملتاعة على السوشيال ميديا، لا نعلم يقينًا متى ستنفجر، أو كيف.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.