برخصة المشاع الإبداعي: جيجي إبراهيم، فليكر
من تظاهرات 2011 في ميدان التحرير

من فيصل إلى التحرير.. أحلام ثورة لم تكتمل

منشور الاثنين 27 يناير 2025

"مصر مش تونس"، أو "مصر مش أقل من تونس". هكذا تصاعد الجدل في دوائر النخبة المصرية نهاية عام 2010، بين فريقين؛ الأول يرى أن الشعب المصري "الصَّبور الحَمُول القادر على التكيف" لن يُقدِم على تكرار ما جرى في تونس من مشاهد احتجاج اتسعت رقعتها بعد وفاة الشاب محمد بوعزيزي بعدما أضرم النار في نفسه لأن شرطيةً صفعته وصادرت عربة كان يبيع عليها الخضروات والفاكهة ليكسب عيشه.

أما الفريق الثاني، فكان يؤمن بحتمية الثورة على نظام مبارك، ويعتقد أن شرارة الحريق الذي أتى على نظام حكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ستنتقل إلى مصر وفي أسرع وقت، وأن الأجيال الجديدة التي أطلَّت على العالم عبر شاشات هواتفها ستصنع مستقبلها على طريقتها.

ثورة تونس على مقهى فيصل

لم تمنع برودة ديسمبر/كانون الأول اللقاء اليومي لعدد من الصحفيين على أحد مقاهي شارع فيصل. بل تحولت جلستهم اليومية إلى ستوديو تحليلي لما تنقله الفضائيات العربية من أحداث تونس الساخنة، ولم يخلُ الأمر من التندّر والسخرية على وسائل الإعلام المصرية التي تجاهل بعضها الحدث، فيما انهمك البعض الآخر في إثبات أن ما يجري هناك مؤامرة يصعب نقلها إلى مصر التي ينعم شعبها بسلطة رشيدة قادرة على مواجهة المؤمرات بفضل حكمة فخامة الرئيس مبارك.

بعد وفاة الشاب محمد بوعزيزي متأثرًا بحروقه، في 4 يناير/كانون الثاني 2011، تحولت الاحتجاجات إلى مواجهات وصدامات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن في معظم المدن التونسية، وصفها بن علي بأنها "أعمال إرهابية تنفذها عصابات ملثمة".

أُغلقت صفحة الرئيس الذي بشَّر برخاء لن يتحقق إلا بالسلام مع الأعداء، قبل أن ينقلب على معارضيه وينهشهم بأنياب ديمقراطيته

ولم يمضِ أسبوع، حتى خرج بن علي ليعلن أنه لن يترشح لانتخابات 2014، ويتعهد بتنفيذ إصلاحات ديمقراطية واقتصادية، وما إن أنهى خطابه، حتى طَرح السؤال اليومي نفسه مجددًا على جلسة مقهى فيصل. "هتحصل يا محمد؟"، سألني الكاتب الصحفي حمدي عبد الرحيم، كأنه يحاول التقاط حلم عابر مرَّ من أمامه، فأجبته "هتحصل يا عم حمدي وقريّب جدًا"، ليردَّ "إيه الثقة دي؟".

كنت أصغرهم سنًا في تلك الجلسة التي جمعت أيضًا الصديقين الكاتبين الصحفيين أسامة سلامة وهشام أبو المكارم. لذا كنت أكثرهم حماسًا وحلمًا؛ فكلما تقدم العمر تضاعفت المسؤوليات وزادت الحسابات، وهو ما أدركه الآن وأنا على مشارف الخمسين.

اندفعت لدعم وجهة نظري بأدلة قد يكون بعضها واقعيًا، أما البعض الآخر فلم يعبّر سوى عن رغبة في الخلاص من نظام رئيس لم يرَ جيلنا غيره، إذ لا نتذكر من حقبة سَلفه السادات سوى ما نقله التليفزيون المصري من مشهد إطلاق رصاص على منصته وضيوفه ثم كادر مثبت على الأرض، وبعدها ينقطع الإرسال، لتُغلق صفحة الرئيس المؤمن الذي بشَّر بتأسيس دولة العلم والإيمان، وبرخاء لن يتحقق إلا بالسلام مع الأعداء، قبل أن ينقلب، قبيل نهايته، على معارضيه وينهشهم بأنياب ديمقراطيته.

بعد أسابيع قليلة من اغتيال السادات "بيد أولاده"، احتل نائبه حسني مبارك موقعه، ووقف في خطاب تنصيبه ليؤكد أمام نواب الشعب أنه "لن يتهاون مع فساد أيًا كان فاعله ولو كان أقرب الناس إليه"، ويصك تعبيره الأشهر "الكفن مالوش جيوب"، ويتعهد بأنه "لن يحكم مصر مدى الحياة"، وسيكتفي بالتجديد لمدة رئاسية واحدة، ويدعو المعارضين إلى تفهم مصالح مصر العليا في تلك المرحلة الحرجة التي تواجه فيها البلاد جماعات تستهدف أمن الوطن واستقراره.

لكنَّ الرجل الذي وعد بألَّا يؤبّد في الحكم، أكل عمر جيلنا بالكامل، إذ استمر في الحكم 30 عامًا، انقلب خلالها على كل وعوده؛ فلا نزاهة ولا تداول سلطة ولا احترام لإرادة الشعب، ولا حتى تعليم وصحة وغيرهما من خدمات. حوّل مبارك البلاد إلى عزبة خاصة يملك وحده زمامها، يمنح ويمنع، يرفع ويخفض، يفعل ما يريد فلا يملك أحد أيًا كان موقعه آلية مساءلته.

لم تفلح عبارة الرئيس التونسي "فهمتكم" في امتصاص غضبة المحتجين، إذ عمَّت المظاهرات كل المدن التونسية، ليستجيب القدر للشعب الذي أراد الحياة، ويهرب بن علي إلى السعودية في 14 يناير 2011، وتنقل شاشات الفضائيات مشهد ذلك المواطن الذي اخترق هتافه "بن علي هرب.. بن علي هرب" صمت الليل وحظر التجول، ويتحول هذا الهتاف لاحقًا إلى عنوان للثورة التونسية.

"مبارك هرب.. مبارك هرب.. هل نسمع هذا الصوت قريبًا في مصر، أم ستكون هناك نهاية أخرى؟"، اقترب الحلم، الذي تطور أمامنا في جلسة مقهى فيصل اليومية، للدرجة التي وصلنا فيها إلى رسم سيناريو مشهده الختامي.

روشتة هيكل

كان معرض الكتاب على الأبواب، ونصح حمدي عبد الرحيم وهو من كبار المثقفين وآكلي الكتب بالبحث عن كتيب صغير، لخص فيه الأستاذ محمد حسنين هيكل أعراض المرض الذي أصاب بلادنا بسبب سيطرة حكم مبارك وحزبه الوطني، وختمه بروشتة علاج لم يلتفت إليها أهل السلطة.

استعرض هيكل في كتيبه 1995.. باب مصر إلى القرن الواحد والعشرين، الذي نشرته دار الشروق في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أبعاد الموقف الصعب الذي يحيط بالبلاد، وأشار إلى "مفرق الطرق الذي يفرض على الجميع ضرورة الاختيار بين الاستمرار فيما هو قائم من سياسات وبين محاولات إيجاد مَخرج واستكشاف المستقبل".

وفي هذا الوقت من حكم مبارك، اتضحت الصورة أمام الكاتب الكبير، "الشعب المصري بلغ به الإحباط واليأس الذي راح يتنامى ويتراكم ثم يتخطى الخيبة إلى الحد الذي وصل به إلى مرحلة السخط العام بسبب التناقض الحاد بين الفقر والغنى، والتفاوت الكبير في توزيع الثروات".

تحدث هيكل عن الخلل الذي اعترى المجتمع المصري، وعن التفاوت الكبير بين طبقات الشعب، وعن تصاعد أسباب العنف وموجباته بما يهدد السلام الاجتماعي "أننا أمام وضع لا مفر من التسليم بأنه بالفعل مخيف، لأن النار قريبة من الحطب بأكثر مما تحتمله سلامة الأحوال في مصر".

لم يفتح معرض الكتاب أبوابه ذلك العام، فالسيف قد سبق العزل، وشرر نار تونس أصاب حطب مصر، وانفجر الناس في الشوارع ينسخون مشاهد الثورة التونسية، ويدعون إلى إسقاط النظام الذي تجاهل كل دعوات الإصلاح، واتهم الناصحين والناقدين بأنهم مدفوعون لتنفيذ أجندات خارجية.

بداية من 25 يناير إلى 11 فبراير، انتقلت جلسات مقهى فيصل إلى ميدان التحرير، هناك كان الجميع على يقين بأن نظام مبارك سقط بالفعل، وما هي إلا أيام حتى تأتي البشارة ويدخل إلى الميدان في وسط الليل من يهتف "مبارك هرب.. مبارك هرب".

لم تخرج الملايين في يناير 2011 للاحتجاج على سوء الأحوال المعيشية فحسب، بل خرجوا للثورة على الفساد والاستبداد والتأبيد في السلطة واحتكار الصلاحيات وتأميم المجال العام وتهميش الشعب وتزوير إرادته.

نزل الناس إلى الشوراع لتحويل حلم الدولة التي يتمتع فيه الجميع بالحرية والمساواة والعدالة إلى واقع، دولة يختارون فيها الحاكم ويحاسبونه ويعزلونه عبر صناديق الاقتراع.

أيقَنَ الشعب بعد عقود من التسلط ألَّا سبيل للخروج من متاهة التخلف والفقر والمرض والتبعية إلا باستقلال مؤسسات الدولة وإنهاء سيطرة الرئيس المهيمن على صناعة القرارات والسياسات.

أما لقاء مقهى فيصل الشهير، فانفضَّ برحيل أعضائه من الشارع المزدحم في غرب الجيزة إلى أحياء أخرى، ومثله انفضَّت أحلام الثورة في مصر كما في تونس، ليعود البَلَدان إلى النقطة ذاتها، وكأنَّ شيئًا لم يكن؛ نفس السياسات والممارسات، الأمر الوحيد الذي جدَّ هو تقدمنا في العمر، فقدنا الحلم والشغف، وزادت مسؤولياتنا فتعقدت حساباتنا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.