برخصة المشاع الإبداعي: جيجي إبراهيم، فليكر
جرافيتي لثورة يناير

سرديات يناير الصحفية| غضب الطبقة الوسطى

منشور الأربعاء 29 يناير 2025

سناء امرأة في منتصف العمر، تعيش في شارع شهاب بحي المهندسين، زوجها يعمل في دبي، وليست لهما اهتمامات سياسية. لديهما ثلاث بنات، وابن وحيد اسمه مازن، طالب في كلية التجارة بجامعة القاهرة، ومن هواة تنظيم الرحلات الترفيهية.

تتكرر محاولات سناء الاتصال التليفوني بابنها مازن، الذي لا يرد على مكالماتها. تذهب إلى حسابه على تويتر، لتجد فيه ما يشير إلى وجوده في ميدان التحرير. تفزع، وحين يتحدثان تليفونيًا، يؤكد لها أنه هناك، ويؤكد لها أيضًا أنها ستندم إذا لم تلحق به، فمصر كلها في الميدان. تحاول الأم التخلص من قلقها بمتابعة تويتر وفيسبوك وبرامج التوك شو، لتكون على علم بالتطورات.

هذه القصة منشورة بالصفحة الأخيرة من الشروق يوم 27 يناير 2011، تحت عنوان "مازن من الرحلات الترفيهية إلى مغامرة ميدان التحرير". لا يَرِد في تفاصيلها السبب الذي جعل مازن يترك "الترفيه" ليهتم بالسياسة؛ اهتمام يبدو وكأنه نبت جديد ظهر فجأة بلا أي صلة بما سبق. نعرف أنه ينتمي للفئات العليا من الطبقة الوسطى، بحكم عمل والده في دبي وسكنهم في المهندسين.

يقول مازن لأمه "ياه النشيد الوطني له طعم تاني.. أول مرة أحس أن كلماته حلوة وأنا بقوله في وسط الناس مش في طابور المدرسة.. هاتندمي يا ماما انك في البيت ومصر كلها متجمعة هنا في التحرير".

المصريون الجدد

تغطية الشروق لقصة الفتى مازن الذي ترك الرحلات الترفيهية إلى "مغامرة التحرير"، 27 يناير 2011

في الأعداد السابقة من الشروق، لم يكن نموذج مازن تبلور بعد. لكن مع سرد قصته، نعرف أحد هؤلاء المجهولين الذين ظهروا مع 25 يناير. ولاختيار مازن دلالة؛ فالصحيفة لم تذهب إلى أيٍّ من المناضلين السياسيين الشباب، الناشطين قبل الثورة، من أي حركة معارضة من التي تبلورت منذ 2005. ولم تختَر بالطبع شخصًا ينتمي للطبقات الأفقر. فمازن وأمه سناء، النموذجان المثاليان لتحفيز الطبقة الوسطى للقبض على ثورتها.

في نفس هذه الصفحة، وبجوار قصة مازن وسناء، صورة كبيرة بداخل برواز مخصوص، لا تبارح أرضية نخبنة الثورة طبقيًا، لكنها تُعالج مسألة تجهيل وضع أخوات مازن الثلاث، وعلاقتهن بالثورة. الصورة لمجموعة كبيرة من الشباب، يشكلون دائرة على الأرض، بعضهم مستلقٍ بحثًا عن وضع مريح، وجميعهم يستمعون لما تقوله شابة "مودرن"، تقف في منتصف الدائرة وهي تتحدث بحماس.

في هذا العدد تبدأ الجريدة وضع "لوجو"، أو برواز مخصص وثابت للتغطية، مثبت في أعلى بعض صفحاتها، لصورةِ يدٍ مرفوعة بعلامة النصر، وفي خلفيتها جموع متظاهرين. وعنوان البرواز هو "مصر الغاضبة". بينما يتكثف تدريجيًا استخدام هذا التعبير.

تغطية الشروق لحملة الاعتقالات الواسعة التي سبقت جمعة الغضب، عدد 27 يناير 2011

لا تتجاهل الشروق المحافظات المختلفة، وما يقع فيها من أحداث. لكن القاهرة تحتل، وبفرق كبير، المساحة الأكبر من التغطيات. على صفحتها الأولى من عدد 27 يناير، تبدأ بعض الأسماء المنتمية لتيارات أو أحزاب في الظهور؛ خبر عودة البرادعي المرتقبة في المساء. وآخر عن مصدر ما من جماعة الإخوان المسلمين يؤكد أنهم سيحشدون بكثافة لمظاهرات اليوم التالي، ويدعو المصريين لجعله "جمعة غضب". وعنوان في الصفحة الثالثة "اعتقال ألف ناشط ومراكز حقوقية تصف ما حدث بالمجزرة".

تحاول الجريدة، من ضمن الإعلام المصري غير التابع مباشرة للدولة، أن تُضخِّم تدريجيًا أدوار الأحزاب والنشطاء والحقوقيين وبعض النخب. مثل علاء الأسواني والإعلامي محمود سعد. فيما يبدو محاولةً لتأطير للثورة بعيدًا عن الانفلات. أو كيلا تتصور الجموع أنها قادرة على عمل ما تريده. بينما يأتي وائل قنديل ليطرح العكس؛ "الأجمل أن ما جرى بالأمس، (يقصد غالبًا يوم 25 يناير)، كان مصريًا وفقط، بعيدًا عن أي تصنيفات فئوية أو حزبية أو طبقية أو عمرية". بما يعني أنه متاح للجميع، داخل وعاء "مصري" خالص.

وهو ما يعكس تناقض الرؤى داخل الجريدة نفسها. وهو التناقض الذي سيصيب بعض مفاصل السردية النخبوية التي تم تسييدها عن الثورة، ويتسبب في بعض نواحي ضعفها؛ من ناحية نفي السياسة والتحزّب عن الثورة، والتأكيد على عدم وجود قيادة لها، ومن ناحية أخرى إبراز النخب السياسية والثقافية وأدوارها فيها.

ذروة الغضب

"جمعة الشهداء توحد صفوف الغاضبين في مواجهة الأمن". إنه المانشيت الرئيسي للشروق، بالأحمر، في صدر الصفحة الأولى، صباح يوم الجمعة 28 يناير. بينما المانشيت التالي له في الأهمية، مع الصورة الرئيسية، عن وصول البرادعي إلى القاهرة، وحديثه مع وسائل الإعلام في المطار. مع عدد من العناوين متفاوتة الأحجام "البرادعي عقب وصوله للقاهرة: مطلوب تغيير فوري وشامل"، "الشعب المصري كسر حاجز الخوف ولا مجال للتراجع"، "أدعو النظام إلى التوقف عن استخدام العنف لأن نتائجه عكسية".

المانشيت الرئيسي لصحيفة الشروق، 28 يناير 2011

يتحدث البرادعي ذلك اليوم بطلاقة، ودون مواربة، عن دوره الطبيعي كرأس للسلطة في المرحلة الجديدة. يؤكد أن الشباب يريدون التغيير، لكنه بمعنى أو بآخر يرهن هذا التغيير به هو، كونه الوجه الوحيد المتاح والمناسب "مبارك خدم البلاد لثلاثين عامًا وحان الوقت لتقاعده"، "أعمل منذ عام في توعية الشعب المصري وجمع التوقيعات"، "مهمتي هي إدارة التغيير سياسيًا".

هذا العدد من الجريدة، بكل سخونته وانحيازه لما يحدث في الشوارع والميادين، يحمل بذورًا لبعض محددات التفكير التي شكلت عبئًا على الثورة وعلى المخيلة الجماعية لاحقًا، وعائقًا أمام تشكل مخيلات أكثر اقترابًا من جوهرها. وهو ما يتجسد في الخطوط العامة التالية.

القاهرة.. ثم القاهرة.. ثم القاهرة

كانت السويس في أوج اشتعالها من قبل يوم 28 يناير، جمعة الغضب. بل بالإمكان القول إنها كانت بؤرة الاشتعال منذ البداية؛ المولوتوف والرصاص الحي في أيدي بعض المنتفضين في مواجهة الشرطة، الذين احتلوا أماكن حكومية، وغيره.

صحيح أن الجريدة تخصص الصفحة الخامسة لتغطية السويس، وبعض تفاصيل ما حدث في الجانب الشرقي من مصر، كاستخدام الآر بي جيه في مواجهات سيناء، إلا أن القاهرة تكتسب الأهمية القصوى والتغطيات التفصيلية، بالذات مع وصول البرادعي إليها. وهو ما يساهم لاحقًا في إنتاج هذه المخيلة التي تحصر الثورة في التحرير. أو: "ياااه يا الميدان.. كنت فين من زمان؟!".

كليشيه الناشطين القادمين من كوكب آخر

"ملابس واسعة وحذاء مريح.. اختيارات أي ناشط سياسي". هذا هو عنوان التقرير الأساسي للصفحة الحادية عشرة، كأننا نتعرف للمرة الأولى على النشطاء/المناضلين السياسيين. يُستخدم تعبير "ناشط سياسي" لوصف نوع معين من الناس يتميز عن الآخرين، لا يشبههم إلا في القليل، وكأنه آتٍ من كوكب آخر. حتى على مستوى الملابس، فهو واع لنوعية ما يرتديه، على عكس أغلب البشر، وكأنه محترف مظاهرات، أو أن التظاهر بالنسبة له ممارسة حياتية يومية.

تقرير صحيفة الشروق عن الملابس الأنسب للتظاهر، عدد 28 يناير 2011

يعلم أي انسان، أيًا كان جنسه أو ثقافته، أن هناك قواعد منطقية للملبس؛ بحسب المكان نرتدي ما يناسب. فيكون المنطقي أن يعرف المتظاهر/المتظاهرة، محدثين أو مخضرمين، أنهم سيسيرون أوقاتًا طويلة، وربما سيجرون هربًا من الشرطة ومخبريها، لذا لن يحتاجوا نصيحةً بضرورة ارتداء أحذية وملابس مريحة، مثلما حاول أن يفعل هذا التقرير.

يبدأ التقرير بالإشارة لناشطة سياسية اسمها ماهيتاب الجيلاني، تُعرَّف بأنها تنشط في حركة 6 أبريل وعضوة بالجمعية الوطنية للتغيير. تذهب لشراء حذاء، تعشق الأحذية ذات الكعوب العالية، لكنها تشرح لشابة أخرى ترافقها فلسفتها؛ تحتاج المظاهرات أحذية مريحة. التقرير مليء بكليشيهات إضافية محببة للطبقة الوسطى. على سبيل المثال أنها محجبة، لكنها ذهبت للاحتجاج بعد تفجير كنيسة القديسين، ورفعت بنفس اليد الصليب والمصحف، ليطمئن المسيحيون أنها معهم.

تقول ماهيتاب إنها لا تستطيع ارتداء الملابس التي ترتديها نانسي عجرم ومريام فارس. لو تجاهلنا تطرف نموذجي المغنيتين بعض الشيء؛ كون أغلب النساء والفتيات العربيات لا يستطعن ارتداء ملابسهما، يبدو من التقرير وكأنه ليست هناك منطقة وسطى بين الحجاب وملابس نانسي عجرم ومريام فارس. وقد اختارت ماهيتاب أن تكون داليا البحيري من فيلم السفارة في العمارة (2005)، حسب قولها.

يكتمل كليشيه الناشطة السياسية بحديث فتاة أخرى، وهي نهال حسن، التي تُقدَّم باعتبارها عضوة في تيار التجديد الاشتراكي. تقول نهال "لا وقت للمكياج، حينما تختار الفتاة أن تكون ناشطة سياسية لا تهتم بمتابعة آخر صيحات الموضة والماكياج، الهم السياسي هو شغلها الشاغل فقط". وهي تصورات تقترب من مناطق السخرية في أفلام عادل إمام. أو على الأقل تعود إلى أزمان بعيدة، كان متاحًا فيها تنميط صورة المناضلة السياسية أو النسوية، وهو ما يختلف في تقديري بدرجة كبيرة عن واقع 2011.

يُختتم التقرير بكلام لمهندس وعضو في جماعة الإخوان المسلمين، يستخدم اسمًا مستعارًا. يخبرنا أنه حين يذهب إلى مظاهرة "كمشارك عادي"، يرتدي "كاجوال". أما إذا كان مُكلَّفًا في هذه المظاهرة بمهمة تنظيمية/قيادية، فيرتدي بدلة ورابطة عنق ليعرفه المشاركون ويستجيبون لـ"أوامره".

احتقار السياسيين للسياسة

الصفحة الحادية عشرة من عدد الشروق يوم 28 يناير 2011

يتواجه في الصفحة الثانية عشرة السياسيون. يتحدث يوسف القرضاوي بصفته رجل دين، وليس سياسيًا قريبًا من جماعة الإخوان المسلمين، لدعم التظاهر. بينما يكتب عمرو حمزاوي في الصفحة نفسها مقالًا بعنوان "نعم ستتغير مصر.. وطن أفضل لنا جميعًا". لكن محتوى المقال يخرج عن لغة أستاذ للعلوم السياسية. فهو يتحدث عن الثورة باعتبارها ثورة شباب وفقط، ويكرر هذا التأكيد أكثر من مرة في مقاله. وأنه ليست لها أي علاقة بالسياسيين أو بالقوى السياسية أو بأي قيادة، وأنها لا تحتاج إلى كل هؤلاء أصلًا. وفي منتصف المقال يغمز حمزاوي للبرادعي الذي احتل الصفحة الأولى بعودته وتصريحاته، قائلًا "واختفى البرادعي كالعادة".

يظهر في هذا العدد خطان متوازيان، لا يلتقيان، وكأنهما ينتميان لعالمين لا صلة لأحدهما بالآخر؛ عالم المواجهات والمظاهرات التي تحدث في الكثير من الأماكن، وأغلب أبطالها ينتمون للطبقات الفقيرة، وهو العالم الحاضر في التقارير الإخبارية، وهناك عالم الآراء والمقالات واستطلاعات آراء المشاهير من الحركات السياسية، وبعض الشباب الجدد ممن سيتحولون لاحقًا لمشاهير الفضائيات.

.. وتجاهل الفقر

هناك تقرير وحيد وصغير في نهاية صفحة "مال وأشغال" عن حالة شاب فقير من السويس، يتحدث فيه عن الفقر كدافع أساسي للثورة. عنوان التقرير "الفقر والمظاهرات على خريطة واحدة"، وكأنهما منفصلان، لا يفجر أحدهما الآخر. وفي مواجهة الفقير السويسي، هناك تقرير قصير، مع صورة لشاب ممن فقدوا عيونهم يوم 25 يناير. ومن مجرد العنوان، وقبل قراءته، تُرسم هويته الطبقية "وائل ترك راتبه الكبير في السعودية وعاد ليفقد عينه في مظاهرة الثلاثاء". وفي السطر التالي من العنوان؛ "والدته: ابني دفع عينه ثمنًا للحرية في أول مظاهرة يشارك فيها بحياته".

بقراءة التقرير نكتشف أن العنوان ليس دقيقًا. فوائل لم يعد خصيصًا من السعودية ليشارك في التظاهر. بل عاد قبل الثورة بسنة للاستقرار والحياة في مصر. لكن المعنى المزدوج الذي يحملنا إليه التقرير هو نفسه؛ تأكيد على الهوية الطبقية للثورة باعتبارها ثورة الطبقة الوسطى، ومن ضمنها شرائحها العليا. ومن ناحية أخرى انفصال أبطالها عن أي شيء سابق لها، فقد كانت المظاهرة الأولى التي يشارك فيها وائل، مثل مازن، طيلة حياتهما.

على التوازي مع وائل ومازن، ابني الطبقة الوسطى، نجد في عدد اليوم التالي، اللاحق ليوم 28 يناير، خبرًا صغيرًا جدًا عن مشاركة مئات السيدات في حصار أحد أقسام شرطة السويس، مطلقات الزغاريد. دون أن يُخصَّص لهن تقريرٌ يرسم بعض شخصياتهن الفريدة، فظللن على الهامش كمجرد مفارقة طريفة، أو "إيفيه".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.