برخصة المشاع الإبداعي: جيجي إبراهيم، فليكر
متظاهرون في ميدان التحرير، 25 يناير 2011

سرديات يناير الصحفية| البدايات الساخنة للغضب

منشور الأحد 26 يناير 2025

في المقال السابق، الأول من هذه السلسلة التي تتناول كيف تشكَّلت تدريجيًا سردية جريدة الشروق، كنموذج للصحافة المصرية، عن ثورة يناير 2011، أشرت لتذييل صورة الصفحة الأخيرة من عدد يوم 24 يناير/كانون الثاني، بقصة بدا عنوانها وكأنه دعوة مباشرة للنزول للتظاهر في اليوم التالي؛ "التعبير عن الغضب يؤجل قرار الانتحار لدى الفئات المحبطة".

تتطور هذه الدعوة في اليوم التالي، لتحتل المانشيت الرئيسي للجريدة في عددها الـ724، صباح يوم 25 يناير، وتصبح أكثر صراحةً في تعبيرها عن الانحياز. فبالأحمر، وبخط عريض جدًا، جاء المانشيت؛ "يوم الغضب".

وكأن القائمين على الجريدة كانوا على ثقة بأنه سيكون يومًا تاريخيًا فاصلًا، وليس بضع مظاهرات قابلة للقمع السريع مثل كل ما سبقها. فيركز التقرير الرئيسي على تحضيرات النشطاء من القوى السياسية، في مواجهة تحضيرات الأمن والحزب الوطني. ويشير إلى أن عدد الداعمين لفكرة التظاهر في اليوم الذي بات يوصف بـ"يوم الثورة على التعذيب والفساد والبطالة" بلغ على فيسبوك نحو مائة ألف شخص.

المانشيت الرئيسي لصحيفة الشروق، 25 يناير 2011

تبدأ هنا، صبيحة 25 يناير، لهجةُ الاختصار المكاني للثورة، والبحث عن علاقة النخبة بها. فعلى صعيد استعدادات الشرطة يبدو وكأن يوم الغضب المجتمعي سيقتصر على "وسط البلد" في العاصمة. ويمتد التقرير إلى استطلاع مواقف النخب السياسية.

على سبيل المثال، سامح عاشور، نائب رئيس الحزب الناصري، يُبرر رفض الحزب المشاركة بأنه ليس صاحب المبادرة، وعليه ألَّا ينصاع لدعوات لا يعلمون مَن يقف وراءها. وحزب التجمع لن يُشارك، رغم إعلان أمانات الحزب في بعض المحافظات نيّتها المشاركة. توزّع حركة 6 أبريل 15 ألف نسخة من منشور في بعض أحياء القاهرة. والحملة المستقلة لدعم البرادعي تدعو الشرطة للتضامن مع النشطاء في احتجاجاتهم.

مفردات جديدة تشكل جملًا جديدة

خبر قيادة كمال أبو عيطة وقفة احتجاجية لموظفي الضرائب العقارية، إلى جوار عمود الكاتب وائل قنديل، في الصفحة الرابعة من عدد صحيفة الشروق يوم 25 يناير 2011

تتشكل هنا لغة جديدة؛ "نشطاء"، "احتجاجات"، شرطة "تتضامن" مع من يفترض أنها ستقمعهم، مع تركيز النظرة على الأحزاب. ففي الصفحة الأولى، نجد خبرًا عن عقد جماعة الإخوان المسلمين اجتماعًا سريًا، اتخذت خلاله قرارًا بمشاركة الشباب، والقيادات كأفراد.

ربما كان الاستثناءان الوحيدان لهذا التركيز على النخب خبرين؛ أحدهما عن دعوة مختصرة صادرة عن أمانة الجيزة بحزب التجمع، بتشكيل لجان شعبية تقود الحراك الجماهيري، كي يتحول من النخبوية إلى الجماهيرية. والثاني، عن قيادة كمال أبو عيطة وقفةً احتجاجيةً لأعضاء النقابة المستقلة للضرائب العقارية.

للمفارقة، سيتحول أبو عيطة لاحقًا لأحد أهم النخب، عندما يصبح وزيرًا بعد 3 يوليو 2013.

وفي سياق تغطية ما يحدث في المحافظات، تحصر الصحيفة استعدادات للتظاهر في شمال سيناء والفيوم وبنها والسويس. وتصريحات من منسق الجمعية الوطنية للتغيير في محافظة البحيرة، بأنهم قسموا أعضاء الجمعية بالمحافظة لثلاث مجموعات؛ مجموعة ستتجه للتظاهر في القاهرة، وأخرى ستتظاهر في الإسكندرية، أما الثالثة فستبقى في البحيرة.

وفي العدد أيضًا ما كتبه "الوائلان"؛ وائل قنديل ووائل جمال. لا يخرج عمود الأول عن سياق نخبنة الثورة قبل أن تبدأ، بنسبِها للنشطاء السياسيين، وبأن مطلبها "الإصلاح"، بكل ما يحمله هذا التعبير من عمومية. والأهم أن مقاله يوحي بأن قمع الشرطة مسألة حديثة، لا أن الجهاز الشرطي قمعي بطبيعته، وبحكم وظيفته، وأصبح أشد قمعية خلال العقود الطويلة الأخيرة.

مقال الكاتب وائل جمال في الصفحة 11 من عدد صحيفة الشروق يوم 25 يناير 2011

أما مقال وائل جمال، فمضمونه يبتعد تمامًا، ليس فقط عن اللهجة السائدة في الجريدة، بل وعن أغلب الصحافة المصرية وقتها؛ في رفضه نخبنة الثورة، وحصرها في سياق احتجاجات الطبقة الوسطى. وعنوانه "التنفيس والتغيير في مصر"، ويرد فيه على كلام صحفيي و"مفكري" الحزب الوطني الزاعمين بأن مصر ليست تونس، ويتحدث فيه عن تراجع الطبقة الوسطى، وعن الفقراء، وعمّن هم قادرون على التنفيس ومَن ليسوا بقادرين.

يُشير وائل جمال إلى أن الفقراء المصريين هم المحتجّون حاليًا، والمنتحرون أيضًا. هذا المقال تحديدًا هو أول خطاب سياسي واضح، يرد في الشروق، جوهره أن الحراك المتوقع ليس حكرًا على النشطاء والطبقة الوسطى، وأن له جذورًا اجتماعية واقتصادية، وطبقية أيضًا.

يتماس مقال وائل جمال مع كاريكاتير لوليد طاهر، منشور في الصفحة التالية، لثمانية وجوه لمواطن يفكر. يكسر عبره وليد طاهر بعضًا من الكليشيهات التي بدأت تظهر كعناوين للمرحلة الجديدة "أنا ممكن أقوم أعمل ثورة.. بس أنا مين؟.. أنا مش إخوان.. ولا من عمال المحلة.. مخنوق بس مش عايز أنتحر.. أنا بحب الكورة بس مش ألتراس.. أنا معنديش فيسبوك.. أنا مش مثقف.. أنا لوحدي".

مانشيت صحيفة الشروق في 26 يناير 2011

الجموع تُنهي الشعور بالوحدة

شعورا الوحدة والارتباك اللذان يعبر عنهما كاريكاتير وليد طاهر يتغيران مع عبارة "مصر 'الغاضبة' في الشارع"، التي تتصدر الصفحة الأولى لعدد 26 يناير. مانشيت كبير، بالأحمر، تحته المانشيت الفرعي بالأسود؛ "عشرات الآلاف خرجوا في مظاهرات حاشدة يطالبون بالتغيير والحرية والعدالة".

تتطور لغة الجريدة، وتكتسب سخونة ملحوظة. لكنها عبر هذه العناوين، وبصور لميدان التحرير، مُلتقطة غالبًا من شرفة شقة بيير سيوفي، التي حضَرَت في بعض مشاهد الأفلام التسجيلية المصنوعة عن الثورة، تعتمد تعبير "الغاضبون" كتوصيف أساسي للمتظاهرين، من سيُسمّون لاحقًا بالثوار، بينما ترصد الجريدة ردود الفعل، شديدة التنوع، لما حدث في اليوم السابق.

تأتي في مقدمة ردود الفعل، الأحزاب المصرية، ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، والداخلية، والإخوان. والتقرير الرئيسي لتغطية الحدث يبدأ بجملة "انفجر بركان الغضب الشعبي في شوارع القاهرة وعدد كبير من المحافظات"، مع الصورة الأساسية، مرة أخرى، لميدان التحرير.

تغطية صحيفة الشروق لسقوط أول "شهيدين" للثورة في السويس، عدد 26 يناير 2011

لم تنحصر عملية رصد "الغضب" في وسط البلد القاهري، الذي يحتكر الصورة الأساسية، بل تمتد التغطية إلى الإسكندرية، والسويس التي سقط فيها، وفق تغطية الجريدة، شهيدان سقطا برصاص مطاطي. تستخدم الشروق هذا التوصيف؛ "شهيدان"، وليس "ضحيتان"، لوصف من ستحتل مدينتهما على مدار عدة أيام لاحقة، بؤرة المواجهات الدموية الأكثر سخونة. وبالإضافة للإسكندرية والسويس، نجد تغطية للأحداث في بورسعيد والإسماعيلية وطنطا وكفر الشيخ وبلطيم ودمياط.

من ضمن ردود الفعل، نلاحظ إرهاصات تأييد تعلنه بعض نخب القوى السياسية، ممن لم تكن مرحبةً بدعوات التظاهر. فعصام العريان على سبيل المثال، الذي نفى في اليوم السابق نية الإخوان المسلمين المشاركة، وأكد أن 25 يناير ليس يومًا للاحتجاج، يُعلن أنهم مستمرون في الاعتصامات، وأن هذا هو شأن مصر الغاضبة عن بكرة أبيها.

بالإمكان ملاحظة تواضع المطالب المرفوعة في اليوم الأول؛ حل مجلسي الشعب والشورى، تعهد مبارك بعدم الترشح مجددًا، إلغاء حالة الطوارئ، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني. بالإضافة إلى مطلب إقالة العادلي، باعتباره كان من المطالب المرفوعة من قبل 25 يناير، ومتضمن تلقائيًا فيها.

لكن تصريفات "الغضب"، بتنويعاتها البلاغية، ستتكرر وتسود، وتبدو مؤشرًا على التوسع المستقبلي لهذه المطالب نفسها. فالصفحة الثالثة، التي تلي الصفحة الأولى في الأهمية، عنوانها الرئيسي "بركان الغضب يجتاح شوارع القاهرة وينفجر في ميدان التحرير". تكثيفًا للمركزية المكانية، رغم التغطية الواسعة للمحافظات الأخرى، مع تكرار لما ينتمي لمركزية أخرى، هي مركزية الجيل، في تأكيدات لحوحة على أن أغلب المتظاهرين من الشباب، كبداية لسردية "ثورة الشباب" التي ستسود لاحقًا.

تبدأ بعض ملامح ما يمكن تسميته بـ"محدودية الطموح"، عند النخب السياسية والمجتمعية، في تعاملها المبكر مع "الغضب"، الذي لم يتوقع أغلبها انفجاره. تتبدى على سبيل المثال في تصريح المستشار محمود الخضيري، أثناء مشاركته في مظاهرات الإسكندرية، "هذا الاحتجاج ظاهرة صحية لتفريغ طاقة غضب الشعب المصري وتوجيهها بشكل صائب تجاه إحداث التغيير".

أضاف المستشار الخضيري أنه يتوقع أن تعود هذه الاحتجاجات بفائدة كبيرة على المناخ الديمقراطي. على اعتبار أن هناك مناخًا ديمقراطيًا قائمًا فعلًا، وعلى اعتبار أنها أحداث للتنفيس عن طاقة الغضب. هناك أيضًا إشارة من الجريدة إلى أن الصحفي إبراهيم عيسى كان من ضمن الموجودين في ميدان التحرير، مساء اليوم السابق، فتجمع حوله عدد من الشباب، فخطب فيهم قائلًا "إللي عايز التغيير ييجي على ميدان التحرير"، داعيًا، حسب محرري الشروق، إلى أن تتجمع كل المظاهرات في التحرير.

بالإضافة إلى اسم ابراهيم عيسى، تبدأ أسماء بعض المشاهير في الظهور، ولو بشكل عابر، ويجري ربطها مباشرة بالثورة، أو بالميدان، أو بالغضب، لإكساب الحراك الجديد مصداقية نابعة من وجود بعض المشاهير والنجوم. من ضمنها اسم الممثل عمرو واكد، كأحد المعتصمين بالميدان، وخبر عن اعتقال أخيه محمد واكد. وظهور اسم عمرو سلامة، الذي كان أيضًا في الميدان بصحبة محمد دياب؛ مخرجان سيشاركان مع آخرين، فيما بعد، في تحويل سردية الثورة السائدة إلى سينما.

هذه القصة من ملف  سرديات يناير الصحفية.. جريدة الشروق نموذجًا


سرديات يناير الصحفية| الغاضبون قادمون

باسل رمسيس_  تشكَّلت سردية الشروق عن الثورة بالتدريج، وبشكل أقرب للعفوية أو التلقائية. وهو ما يظهر في انحيازها المبكر للثورة من زوايا فكرية مختلفة، وابتعادها المفترض عن كثير من دوائر السلطة.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.