
سرديات يناير الصحفية| أيام التفاوض والقلق
دأب الصحفي والكاتب كارم يحيى، خلال الأيام الثمانية عشر الأولى من ثورة يناير، وكلما امتلأ ميدان التحرير بالحشود، أن يكتب مقالات، ويطبعها، ويوزعها يدويًا في الميدان. في أحدها، نقدٌ لمانشيت الأهرام الشهير في اليوم التالي لخلع مبارك؛ "الشعب أسقط النظام".
نبَّه كارم يحيى في مقاله إلى خروج الأهرام عمَّا درسوه في كلية الإعلام، وعن العرف الصحفي السائد، بأن تُكتَب العناوين والمانشتيات في زمن المضارع حتى وهي تنقل حدثًا في الماضي. كان التوجه السياسي السلطوي للجريدة واضحًا، يستطيع أن يلتقطه كل قراء الأهرام، حتى وإن لم يتوقفوا أمامه بانتباه؛ الثورة نجحت وانتهت، والنظام سقط، فليعُد الجميع لمنازلهم.
وأنا أكتب هذه السلسلة التي تتناول التشكل التدريجي لسردية الثورة الصحفية، تذكرت مقال كارم يحيى، حين انتبهت إلى أن الشروق، وقبل سقوط مبارك ومانشيت الأهرام بأيام، استخدمت نفس الصيغة في المانشيت الرئيسي لعدد الخامس من فبراير/شباط. فبالأحمر، وفي زمن الماضي، احتلت رأسَ الصفحة كلمتان مُحمَّلتان بالتفاؤل بانتهاء المهمة، ووضع ما يشبه بنقطة الختام المبكرة لها؛ "مصر تغيرت"، وليس "مصر تتغير".
هيكل من النخبوية للاستبدالية
بالإضافة للعنوان الاحتفالي في الصفحة الأولى، كان هناك مانشيت إضافي، خاص بحوار أجراه فهمي هويدي مع محمد حسنين هيكل؛ "وقال الشعب كلمته في الثلاثاء العظيم". نجد في الحوار نفسه، بعناوينه الأساسية، أن الروح الاحتفالية/المتفائلة لم تتملك هيكل تمامًا. فيشير إلى أن "ثورة الشباب حددت ما لا يريده المصريون والعقلاء عجزوا عن الاتفاق حول ما يريدونه".
ما يطرحه هيكل مفعم بالتناقضات. من ناحية يصف الثورة بأنها ثورة الشباب، ولكنه أيضًا يُجرِّد هؤلاء الشباب، والشعب المصري، من سمة العقل. هم حددوا ما لا يريدونه، غير أن "العقلاء" لا يتفقون.
لم يوضح هيكل من هم هؤلاء العقلاء. ولم يوضح كذلك لماذا يصفهم بالعقلاء بينما هم عاجزون عن الاتفاق. ولم يوضح معيار فصلهم عن عموم الشعب المصري. أو لماذا لم يرَ من المطالب المطروحة في الشارع المُحتج إلا ما لا يريده الشعب، دونًا عمَّا يريده. رغم أن الشعارات المرفوعة بعد عشرة أيام من بداية الثورة كانت على درجة من الوضوح في تحديد الطرق التي ينبغي السير فيها، وفي توضيح ما يريده القطاع الثائر من هذا الشعب.
يتكرَّر التناقض حين يجيب هيكل عن سؤال لفهمي هويدي حول تقييمه لهؤلاء الشباب، فيقول إنهم "نجحوا في أن يعلنوا على الملأ ما لا يريده الشعب المصري، وتركوا للعقلاء والنخبة أن يحددوا ما يريده الشعب". النخبوية في حديث هيكل ظاهرة بوضوح ومباشرة. لكنه يتجاوز النخبوية، ليصل لمنطق استبدالي. أن دور الشباب هو الحديث نيابة عن الشعب المصري للتعبير عما يرفضه الشعب. وهو المستوى الأول من الاستبدالية. لندخل في مستواها الثاني؛ على النخبة/العاقلة صياغة ما عبَّر عنه الشباب، نيابة عنهم.
نفس هذا العدد مليء بهذه "الاعتمادات النخبوية" لما سمَّته الجريدة بـ"الانتفاضة". فمن ضمن المانشيتات الرئيسية لتغطية أحداث اليوم السابق، يوم الجمعة المُسمى بـ"جمعة الرحيل"، نجد هذا العنوان؛ "موسى والحكماء يزورون الميدان لدعم الانتفاضة". موسى المقصود هو عمرو موسى بالطبع، الذي تستمر الجريدة في طرحه هو والبرادعي باعتبارهما متنافسين، منافسة النخب على حكم الشعب.
يُفهَم من التغطيات المختلفة التي تقدمها الجريدة للأجواء، وردود الفعل النخبوية، أن كليهما؛ موسى والبرادعي، يلتقيان في نقطة الخروج الآمن لمبارك، دون إهانة وبشكل يليق به. بينما كان أحد الشعارات التي تتردد في الشوارع وقتها، ومنذ يوم 29 يناير/كانون الثاني، بعد مقتلة جمعة الغضب، "دم الشهدا علينا حق.. الخروج الآمن لأ". أما لجنة الحكماء، التي أصبح عمرو موسى عضوًا بها فـ"تدعو الجيش في بيانها الثالث لتحقيق الانتقال الآمن نحو الديمقراطية". وعلينا أن نلاحظ هنا استخدام تعبير "تحقيق"، لا أن يكون "الضامن لتحقيق".
صدرت في الأيام التالية لموقعة الجمل بيانات من جهات كثيرة تنتمي، أو تدعي الانتماء، لميدان التحرير، تتضمن مطالب وبرامج انتقالية، وتصورات حول ما يجب أن يحدث. بعض هذه البيانات صدرت عمَّن يُسمُّون بـ"الشخصيات العامة" أو "النشطاء" أو "المثقفين" أو "السياسيين". ومن بينهم من كان على علاقة وثيقة بنظام مبارك في الأصل. وهناك تغطيات لزيارات هذه النخب للميدان، والتصريحات التي يدلون بها بعد هذه الزيارات أو خلالها.
لا تتجاهل جريدة الشروق ائتلاف شباب الثورة، الذي بدأ يحظى بالاعتراف والقبول، باعتباره جهةً صالحةً للمشاركة في بعض الحوارات. فعلى سبيل المثال المانشيت الرئيسي للصفحة الثامنة؛ "6 مطالب لائتلاف شباب الثورة أولها رحيل مبارك، إلغاء الطوارئ.. وحل الشعب والشورى.. وحكومة وحدة وطنية". مع صورة كبيرة ليافطة "ارحل".
ربما يكون هذا التقرير، بمساحته الواسعة، الأهم عن الائتلاف حتى هذه اللحظة. وبالعودة لهيكل، نجد أن مطالب الائتلاف المطروحة في هذا التحقيق، إن اكتفينا بها وتجاهلنا مطالب أخرى كثيرة مرفوعة في الميدان وخارجه، كافية لنفي تصوراته عن أن الشعب لم يحدد ما يريده، وأنه تَرَك تحديد ذلك للعقلاء الذين لا يتفقون.
التوجه النخبوي البادي بقوة في هذا العدد، سواء في التقارير أو المقالات، يدفعني للعودة قليلًا للوراء، لاستعادة ملاحظة خاصة بالتغطية التي أفردتها الجريدة لموقعة الجمل والليلة التي تلتها. فبينما تتحدث الجريدة عن شركة سياحة توجد بها قيادة من أسماء معروفة، وتنتمي لحركات سياسية، تتجاهل تمامًا دور أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة في التصدي وحماية الميدان. وهنا، وحين تتطرق التغطية للشباب ودورهم، يتم "نخبنتهم" أيضًا، باستخدام تعبير "النشطاء"؛ "خارج الميدان المحاصر، كان النشطاء يستكملون كشف باقي خيوط المؤامرة". المؤامرة المقصودة هي الهجوم على الميدان بالبلطجية.
مبارك نعم.. مبارك لا
الحسم بأن الطبقة الوسطى هي الطبقة التي ثارت، ينبع في تقديري من قناعات حقيقية عند أغلب من يتبنَّون هذا الطرح، لا علاقة لها بأي أهداف سلطوية لاختزال واختصار الثورة. فهي تصورات تتقاطع مع مركزية ميدان التحرير في كثير من السرديات، وبالذات المهيمنة، التي تختصر الثورة في الميدان وفي طبقة محددة. وهي قناعات لا يمكن تفسيرها بمجرد خطاب إعلامي يُكرَّس تدريجيًا لمصلحة جهات ما. بل إنها تشكلت أيضًا نتيجة إحساس من هم خارج العاصمة بأن الحدث يُصنع في هذا الميدان القاهري.
تلعب التغطية الإعلامية بالطبع دورًا في خلق هذا الإحساس وهذه المخيلة عند من هم خارج العاصمة. لكنهما، الإحساس والمخيلة، يُفهمان أيضًا كنتيجة طبيعية لحجم المشهد الاستعراضي المبهر في الميدان. وهو مشهد جاذب لأي شخص يريد التغيير في مصر، وأيقوني لمن هم خارج العاصمة. فعلى سبيل المثال، هناك خبر في نفس اليوم، عن أن رمز السويس الشيخ حافظ سلامة، انتقل من مدينته لميدان التحرير.
في اليوم التالي تتواصل مفاجآت النخب، لتتصاعد مشاعر القلق عند من يقفون في الشوارع والميادين. ففي عدد السادس من فبراير لا نعلم ما حدث بالتحديد. لكن النخبة التي أكدت مرات عديدة، وحتى اليوم السابق، أنها لن تتفاوض مع النظام إلا بعد رحيل مبارك، غيرت فجأة موقفها. يطالعنا العدد بأخبار عن بدء حوار بين السلطة ونخب سياسية. ومن ضمن الأخبار والعناوين الرئيسية للصفحة الأولى "الإخوان يقبلون بالحوار قبل تنحي الرئيس بشرط أن يحقق إرادة الجماهير ومطالبها". بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الإشارة لجماعة الإخوان المسلمين في تقارير ومواضيع متفرقة.
تحت هذا المانشيت توضيح لبعض الجديد؛ لقاء رئيس جهاز المخابرات ونائب مبارك الجديد، عمر سليمان، بكلٍّ من يحيى الجمل ونجيب ساويرس عضوي لجنة الحكماء، وممثلين عن أحزاب الوفد والتجمع والناصري. بينما التقى رئيس الوزراء، الفريق أحمد شفيق، بالدكتور محمد أبو الغار القيادي بالجمعية الوطنية للتغيير، وعبد الرحمن يوسف المنسق السابق للحملة الشعبية المستقلة لدعم البرادعي.
"بقاء مبارك في الحكم معناه رحيلي عن الدنيا واعتقال الثوار قبل عودتهم إلى بيوتهم.. فقدنا الثقة في النظام تمامًا.. لدينا استعداد للتعاون مع النظام بشرط تنحي الرئيس". صاحب هذه الكلمات التي اُختِيرت في عناوين أحد التقارير وتحمل توجهًا للتعاون مع النظام، في تناقض مع شعار إسقاطه المرفوع منذ 25 يناير، لا ينتمي للقيادات السياسية النخبوية، بل إنه شاب اسمه أحمد نجيب.
هذا الشاب هو بطل التقرير الرئيسي للصفحة السادسة الذي جاء تحت عنوان "نجيب الذي خرج من بيته في 25 يناير مواطنًا فتحول إلى قائد ميداني في التحرير". قد يبدو الفارق الذي يضعه العنوان بين هويتين؛ المواطن في مقابل القائد الميداني، حيلةً بلاغيةً تستهدف إثارة الاهتمام، لكنه ليس كذلك.
ففي التقرير نفسه يتضح الأهم. يوصف نجيب في المقدمة بأنه أشبه بالسوبرمان؛ "يتكفل بالحديث لوكالات الأنباء العالمية والصحف الأجنبية، ينظم لجانًا إعلامية وأمنية من المواطنين لحماية الميدان، يطمئِن بين الحين والآخر على إحكام السيطرة على المداخل المؤدية للميدان، يتحرك على فيسبوك وتويتر لنقل أحداث الثورة للعالم والتواصل مع الشباب، إنه أحمد نجيب (33 عامًا) الذي يفضل تعريف نفسه بـ'شاب مصري فقط'، خرج من بيته يوم 25 يناير عازمًا ألا يعود إلا بعد تحقيق مطالبه في التغيير. نجيب لا ينتمي لأي حركات أو تيارات سياسية لكن لديه وعي سياسي ومعرفة بمجريات الأمور فاقت وعي بعض رؤساء الأحزاب. بعد أن أطلق مع ألاف الشباب شرارة الثورة في 25 يناير، قضي نجيب الذي يبدو انتماؤه للطبقة فوق المتوسطة أكثر من 10 أيام بالشارع".
من ضمن ما قاله نجيب في هذا الحوار "لسنا حركة سياسية وليس لنا أي ممثل"، و"مبارك سيسقط من الميدان"، و"هناك مطلب أساسي وهو رحيل مبارك، وبتلبيته سيتعاون الجميع حتى مع النظام"، و"خرجنا كشباب عادي مشارك في الثورة ولكن الأزمة فرضت علينا أن نكون قادة في الميدان".
ربما لن يكون موفقًا أن أسأل القراء إن كانوا يعرفون من هو نجيب البادي فعلًا كسوبرمان قادرٍ على فعل كل شيء. سوبرمان غير متواضع على الإطلاق، يرى نفسه قائدًا بعد أن بدأ التظاهر بعشرة أيام فقط، تحول خلالها من مواطن، أو من "شاب مصري فقط" حسب تعبيره، إلى قائد ميداني. بينما يؤكد في الوقت نفسه على أن لا أحد يمثل المتظاهرين، بينما دور القائد كما نعرفه هو تمثيل فئة أو مجموعة ما، وليس فقط إلقاء الأوامر.
الأهم في هذا التقرير هو الإشارة إلى طبقته الاجتماعية فوق المتوسطة، واحتقاره للسياسة بنفيه عن نفسه، وعن غيره، تهمة الانتماء لأيٍّ من تياراتها، مع تأكيد كاتب التقرير على أن نجيب يمتلك وعيًا يفوق وعي بعض رؤساء الأحزاب. وكذلك فصله بين مبارك والنظام في حديثه باسم الجميع، الذين سيتعاونون مع النظام بمجرد خلع مبارك. فيصبح نجيب نموذجًا مثاليًا لأبناء المؤسسات السيادية في النظام، أو ممثلها في الميدان، أو أن يكون تطويرًا لنموذج مازن الذي تحدثت عنه في المقال الثالث من هذه السلسلة.
هذه القصة من ملف سرديات يناير الصحفية.. جريدة الشروق نموذجًا
سرديات يناير الصحفية| الغاضبون قادمون
تشكَّلت سردية الشروق عن الثورة بالتدريج، وبشكل أقرب للعفوية أو التلقائية. وهو ما يظهر في انحيازها المبكر للثورة من زوايا فكرية مختلفة، وابتعادها المفترض عن كثير من دوائر السلطة.
سرديات يناير الصحفية| البدايات الساخنة للغضب
تتشكل هنا لغة جديدة؛ "نشطاء"، "احتجاجات"، شرطة "تتضامن" مع من يفترض أنها ستقمعهم، مع تركيز النظرة على الأحزاب.
سرديات يناير الصحفية| غضب الطبقة الوسطى
في هذا العدد تبدأ الجريدة وضع "لوجو" مخصص وثابت للتغطية، مثبت في أعلى بعض صفحاتها، لصورةِ يدٍ مرفوعة بعلامة النصر، وفي خلفيتها جموع متظاهرين. وعنوان البرواز هو "مصر الغاضبة".
سرديات يناير الصحفية| هيكل يظهر في الوقت المناسب
إطلالة الفقر والبطالة بوجهيهما، واقترانهما بالمولوتوف، دفع السياسة وخطاباتها وحكماءها للظهور أكثر، فيما يبدو رد فعل على اقتران الفقر بالعنف الثوري، ومحاولةً لتحجيم هذا الأخير وحده.
سرديات يناير الصحفية| نخبنة الثورة
يكتمل التناقض بين تهميش الشباب وتجهيل أسمائهم، والاعتراف بريادتهم في الوقت نفسه، بمنح الأهمية للحكماء وللنخب السياسية، مع بداية الحديث عن ائتلاف شباب الثورة، باعتباره قائد الميدان.
سرديات يناير الصحفية| أيام التفاوض والقلق
ما يطرحه هيكل مفعم بالتناقضات. من ناحية يصف الثورة بثورة الشباب، ولكنه أيضًا يجرد هؤلاء الشباب، والشعب المصري، من سمة العقل. هم حددوا ما لا يريدونه، غير أن "العقلاء" لا يتفقون.
سرديات يناير الصحفية| أيام الملل والانتظار
نغمة الأجر، ونفي الفقر عن الثوار وربطهم بالطبقة الوسطى، أمورٌ تنسجم مع نغمة أخرى سادت دون منازع منذ الأيام الأولى، وهي نغمة "ثورة الشباب"، التي لا يكاد يخلو منها أي تقرير أو مقال.
سرديات يناير الصحفية| سقط النظام بخلع الرئيس.. فانتهت الثورة
في ربيع 2011، شهدت مدينة إسبانية صغيرة محاضرة للصحفي والمفكر البارز إغناثيو رامونت، نبه فيها إلى أن القنوات التليفزيونية ولأنها مملوكة لرجال أعمال، ستُعببر عن مصالحهم في النهاية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.