برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي، فليكر.
صورة من ميدان التحرير يوم 29 يناير 2011 بعد أحداث جمعة الغضب

سرديات يناير الصحفية| هيكل يظهر في الوقت المناسب

منشور الأحد 2 فبراير 2025

على الأغلب، أُرسل عدد الشروق الصادر في 29 يناير 2011، اليوم التالي لجمعة الغضب، إلى المطبعة مبكرًا، قبل أن تكتمل وقائع اليوم التاريخي الطويل. فلا نجد معلومات حول أعداد الشهداء، أو المواجهات الليلية أمام وزارة الداخلية في لاظوغلي، أو القناصة، أو احتلال الميدان، أو فتح السجون.

مانشيت العدد الرئيسي "الشعب يريد التغيير". أما الشعار الذي كان سائدًا وهادرًا في الشوارع وقتها، هو "الشعب يريد إسقاط النظام"، وليس مجرد التغيير. مع صورة ضخمة بالألوان لإحدى المظاهرات. أما العنوان الرئيسي للصفحة الخامسة، ورغم التغطية الواسعة للأحداث في الكثير من المحافظات والمدن، فهو "قنابل الشرطة تفشل في منع مظاهرات وسط البلد".

التغطية التي يُركز عنوانها على "وسط البلد" القاهري، بينما الأحداث أوسع منه بكثير، تُجاور تقريرًا طويلًا يرصد الحركات الشبابية وينسب لها الفضل في صناعة جمعة الغضب، تحت عنوان "إنترنت ودعوات افتراضية.. و9 حركات صنعت يوم الغضب". هذه الحركات بناءً على التقرير، هي شباب من أجل العدالة والحرية، والحركة الشعبية للتغيير-حشد، وشباب 6 أبريل، والجبهة الحرة للتغيير السلمي، وتيار التجديد الاشتراكي، ومركز الدراسات الاشتراكية، والحملة الشعبية المستقلة لدعم البرادعي، وحملة دعم حمدين صباحي مرشحًا للرئاسة، وحركة كفاية.

الصفحة الأولى من جريدة الشروق، 29 يناير 2011

في المقال السابق، الثالث من هذه السلسلة التي أتناول فيها التشكُّل التدريجي لسردية صحيفة الشروق عن ثورة يناير 2011، تحدثت عن تجاهل الفقر باعتباره أحد الدوافع الأساسية للثورة. لكنَّ تجاهل الفقراء لم يحدث بالكامل. فمن حين لآخر، يُطل الفقر برأسه على صفحات الجريدة، كأحد أسباب الانفجار. ففي الصفحة الأخيرة تقرير عن شاب سويسي اسمه خالد، كان واقفًا الساعة الثانية عشر من منتصف الليلة السابقة لجمعة الغضب، في الصفوف الأمامية من شارع الأربعين، منهمكًا في تجهيز قنابل المولوتوف، قائلًا: عندي 30 سنة وعاطل.. وكل الناس اللي بتتظاهر دي زيي.

حكماء وجماهير

تقرير الشروق عن تصاعد الغضب في السويس من خلال الشاب السويسي خالد. 29 يناير 2011

إطلالة الفقر والبطالة بوجهيهما، واقترانهما بقنابل المولوتوف في حالة الشاب السويسي خالد، دفع السياسة وخطاباتها وحكماءها للظهور أكثر في الصحافة المصرية عمومًا، فيما يبدو ردَّ فعلٍ على اقتران الفقر بالعنف الثوري، ومحاولةً لتحجيم هذا الأخير وحده. فيزدحم عدد الشروق الصادر يوم 30 يناير بالتطورات السياسية، ضمن استكماله لتغطية ما وقع من أحداث في جمعة الغضب، بعد إرسال عدد 29 يناير إلى المطبعة.

من ضمن طوفان التطورات السياسية، تعيين عمر سليمان نائبًا للرئيس وأحمد شفيق رئيسًا للوزراء، وأنباء عن هروب علاء وجمال مبارك إلى لندن، وجهة سيادية تُخبر العادلي ألَّا يغادر منزله، وطرد أحمد عز من الحزب الوطني، وغيرها مما تكدست به الصفحة الأولى، حيث نُشرت رسالة من العالم المصري الحائز على جائزة نوبل، أحمد زويل، جاءت على غرار مقال عمرو حمزاوي منزوع السياسة قبل يومين، وبنفس النفور منها ومن الأيديولوجيات، لينفي عن الشباب المصري الذي يتظاهر أي علاقة بالحركات السياسية أو الأيديولوجيات. وكأن هذه العلاقة تهمة، وليست شيئًا إيجابيًا يتباهى به أي مجتمع.

التناقض الواضح بين هذه التصورات التي تنزع عن الثورة تسييسها، رغم أنها الفعل السياسي بامتياز، والإغراق في الوقت ذاته في "النخبنة السياسية"، يبدو في الصفحة التالية مباشرة، التي خُصصت لما تطالب به النخبة من أحزاب وشخصيات. لدرجة أن الجهادي وضابط المخابرات السابق، المسجون في قضية اغتيال السادات، عبود الزمر، نال نصيبه من طرح المطالب، من داخل محبسه.

الصفحة الأولى من جريدة الشروق، 30 يناير 2011

ثم يبرز مرة أخرى وائل جمال صوتًا منفردًا في الجريدة، وهو يُرجع الانتفاضة المصرية لجذورها الاجتماعية والاقتصادية، ويطرح تطويرها سياسيًا، منتقدًا الكلام الذي يُبعد عنها "شبهة" السياسية، في مقال يبدو أنه استكمال لمقاله السابق المنشور يوم 25 يناير. هذه المرة بعنوان "الجماهير.. كقوة لا يمكن إيقافها".

لا تتجاهل التغطيات الإخبارية جماهير الأقاليم والمحافظات المختلفة. إلا أن التركيز مستمر على القاهرة، مع ربط المحافظات بتعبيرات من نوعية "الحريق"، وذلك في المانشيتات والعناوين الفرعية. على سبيل المثال: "غرب الإسكندرية يحترق". مع كثافة في أخبار المنشآت التي احترقت، سواء كانت أقسام شرطة، أو مقرات للحزب الوطني، أو مقرات المحافظات وإدارات الحكم المحلي، أو بعض المحاكم ودواوين الأحياء ومجالس المدن. وهناك أيضًا خبر عن اقتحام سكان منطقة عشوائية في بورسعيد وحداتٍ سكنيةً خاليةً، لكنها مُباعة ومدفوع ثمنها، واحتلالهم إياها.

الحكماء في اللجان والجماهير خارجها

رسالة زويل إلى المصريين بشأن تشكيل لجنة حكماء لصياغة دستور جديد. الصفحة الأولى من صحيفة الشروق 30 يناير 2011

"أكد دكتور أحمد زويل العالم المصري الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء أنه سيشارك في لجنة الحكماء التي اقترحها أمس الأول، مشيرًا إلى أنه سيعود إلى مصر غدًا الثلاثاء ليباشر مهامه في اللجنة لوضع دستور جديد، والتي انضمت إليها بعض الشخصيات العامة مثل يحيى الجمل، وأحمد كمال أبو المجد، وسامح عاشور، وأيمن نور، ومنصور حسن".

يَرِد هذا الخبر مقتضبًا في الصفحة الأولى من عدد يوم الاثنين 31 يناير، أما تفاصيله فتحت مانشيت الصفحة الثالثة، التي تلي الأولى دائمًا من حيث الأهمية، وكان في هذا العدد؛ "زويل في رسالة للمصريين: مطلوب لجنة حكماء لوضع دستور جديد". يؤكد الدكتور زويل بالطبع على أن الثورة شبابية، لا علاقة لها بالأيديولوجيات، وأن الشباب لا يتظاهر تحت لواء أيديولوجيات سياسية أو دينية، وإنما يعبر عن رغبته في وطن يمنحه الحرية والعدالة والمساواة.

اللافت للانتباه في مسألة ظهور الدكتور زويل واشتباكه مع السياسة من خلال لجنة الحكماء التي اقترحها، بالإضافة إلى الإصرار على عزل الشباب عن السياسة في خضم صراع سياسي تاريخي ومفصلي، أن دور هؤلاء الشباب هو تقديم المطالب، لينفذها هؤلاء الحكماء، دون أن يشاركوا في هذه العملية، ما سيكرره محمد حسنين هيكل. وأيضًا أن هذه اللجنة، التي عينت نفسها وحددت مهامها ووصفت أعضاءها بالحكماء، قوامها نخبة لم يكن لها أي علاقة بهذا الحراك. بل إن من بينهم من أعلنوا مبكرًا عدم مشاركتهم فيه لعدم معرفتهم بمن يقف وراءه، مثل سامح عاشور، بتصريحاته التي نشرتها الشروق في عدد 24 يناير، وأشرت لها في المقال الأول من هذه السلسلة.

تغطية الشروق لاعتصام ميدان التحرير، عدد 31 يناير 2011

يتزامن الحديث المكثف عن لجنة الحكماء مع تركيز بالغ على ميدان التحرير، المنضبط وقتها مقارنة بـ"الحرائق" المندلعة في مناطق أخرى، فيحتل المساحة الرئيسية من التغطيات، وتتراجع كل الفاعليات والتطورات خارجه، سواء في القاهرة أو في المحافظات، لمساحات هامشية. تتوسع تغطية القاهرة، التحرير أساسًا، في الصفحات الأولى، لتُترك أخبار المحافظات للصفحات المتأخرة، بداية من الصفحة الثامنة بتغطية الإسكندرية، وتليها بقية المحافظات. وبداية من هذا العدد يتراجع تدريجيًا، وليس تمامًا، تعبير "الغاضبون". ليحتل مكانه تعبيرا "متظاهرون" و"ثوار". ربما لانتباه الإعلام وقتها إلى أن تعبير "الغضب" يبرِّر الانفلات، ويمنح شرعية ما للعنف الثوري الناتج عن الفقر، مثلما هي حالة الشاب السويسي العاطل خالد.

تلميع الميدان "المنضبط"، أو المتحضر، في مواجهة الحرائق الصغيرة والكبيرة خارجه، تظهر في تقرير مطول يصف مرور الليل على المعتصمين في ميدان التحرير. حيث ترد هذه العبارة ذات الدلالة فيما يخص هذه المخيلة الآخذة في التشكل بعيدًا عن الأيديولوجيات والسياسة والصراع والعنف، لكنها لا تستطيع التخلص من بعضها تمامًا "إخواني أو يساري أو ليبرالي، لا يهم التوجه الفكري فكلنا سواء.. كلنا مصريون. يقولها أحد المعتصمين ليصف اللوحة الفنية التي تضافرت عناصرها الجمالية لتخرج مشهدًا لا يستطيع أبرز مخرجي السينما إخراجه بهذه الروعة".

عقلاء لضبط الانفلات

محمد حسنين هيكل يكتب عن تطورات الأحداث في مصر أثناء ثورة يناير. عدد 1 فبراير 2011

مع عدد يوم الأول من فبراير، يستمر ظهور النخب السياسية من الصفوف الأولى. فهو غالبًا الظهور الأول لعمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، منذ بداية الأحداث. وهو الظهور الذي يحدث في الصفحة الأولى من الجريدة، وداخل برواز ملون بعنوان "عمرو موسى: يجب أن تكون هناك طريقة سلمية للانتقال من عهد إلى عهد". وفي متن تصريحه، يُلمح إلى أنه سيخوض غمار السياسة، ففترة أمانته لجامعة الدول العربية تنتهي بعد يومين.

لكن الظهور الأبرز، والذي سيتكرر كثيرًا لاحقًا، وبلهجة يقينية وحاسمة، فكان للزاهد في لعب دور سياسي، بحكم السن والنجاح والمكانة والتاريخ؛ محمد حسنين هيكل، لمنح الثقل لكفة الجيش في المعادلة الجديدة، وتكرار تصويره باعتباره اللاعب الرئيسي والحاسم.

في الصفحة الخامسة، وبالمانشيت العريض، الحلقة الأولى من "محمد حسنين هيكل يتكلم عمَّا يجري في مصر الآن: سقوط خرافة الاستقرار". من ضمن ما يطرحه هيكل في هذه الحلقة الأولى، وسيطوره ويكرره لاحقًا، أن الحوار الآن بين طرفين؛ أحدهما يمثل الطموح وهو الشباب، والآخر يمثل القدرة وهو الجيش. ويختتم هذه الحلقة بجملة "إن عقلاء هذا الشعب لا بد لهم أن يتحركوا، وأن يوجِدوا صلة حوار ما بين الشباب والجيش".

تستمر الاختزالات. ليس فقط في نخب محددة، وطبقة محددة، بل تتصاعد نغمة تعظيم التحرير، ليكتسب مساحات جديدة من الجريدة، كانت مخصصة خلال الأيام السابقة للمحافظات، أو لما هو خارج التحرير. على سبيل المثال، هناك مقال لمحمد عصمت عنوانه "جمهورية ميدان التحرير". بينما تستمر النخب، من الصفوف الأولى، باحتلال مساحات بارزة. ليس فقط عمرو موسى أو هيكل، بل أيضًا الأطياف المختلفة من المعارضة. ففي الصفحة الثالثة "المعارضة تجتمع على حكومة ائتلاف وطني وتختلف على تولي البرادعي رئاستها... جبهة الرفض تضم الإخوان والوفد والتجمع والكرامة.. ودعوات شبابية تصف البرادعي بأنه الأصلح".

يكتمل هذا التكثيف النخبوي، بتغيير بعض النخب لمواقفها السابقة. فكمال زاخر، على سبيل المثال، الذي هاجم الثورة قبل أن تبدأ، باعتبارها تحركات للغوغاء، يقول بصفته مؤسس التيار العلماني القبطي إن: "تصريحات الأنبا شنودة يجب ألا تؤخذ في عين الاعتبار، فالبابا ومبارك دفعة واحدة، ظهرا على الساحة في وقت متزامن، ويفكران بنفس الطريقة وسيساند كل منهما الآخر حتى آخر لحظة في سقوطهما".

مسألة إسقاط السلطة الكنسية، ممثلة في البابا شنودة، لم تراود المخيلة الشعبية المسيحية المصرية لحظتها، أو في أي لحظة أخرى. ما كان يشغل المخيلة الجماعية، المسيحية وغيرها، الجديد تمامًا؛ اللجان الشعبية التي بدأت في التشكل مساء يوم الجمعة 28 يناير، بعد فتح السجون، وبمبادرات شعبية تمامًا. لكن، ومنذ يوم 29 يناير، وكل الصور التي تظهر في الجريدة للجان شعبية تقوم بحماية الأحياء، هي للجان موجودة في أحياء الطبقة الوسطى أو الأحياء الراقية.

يأتي وائل جمال مرة ثالثة ليطرح تصوراته الأقرب للواقع. لا يحصر الثورة في هذه الطبقة الوسطى ونخبها، ويشير في مقال بعنوان "في التبطر على نعمة الاستقرار" إلى اللعبة التي يلعبها نظام مبارك مؤخرًا، محاولًا جعل الناس يختارون بين الفوضى أو الاستقرار، باعتبارها لعبة تستهدف بشكل أساسي إعادة جذب الطبقة الوسطى المصرية من جديد إليه. لكنه يتنبأ بأن هذه اللعبة لن تفلح كثيرًا، حيث إن الطبقة الوسطى مجرد طبقة واحدة من بين الطبقات المختلفة المشاركة في الثورة. ويرصد جوانبَ من الفوضى المجتمعية الأعمق، التي أصابت مختلف جوانب حياة المصريين الفقراء خلال العقود الأخيرة.

مع تتابع الأيام، يبدأ نجم البرادعي في الصعود على صفحات الشروق، كونه المعبِّر عن أحلام هذه الطبقة الوسطى بامتياز، وباعتباره طرفًا أساسيًا ورمزًا للمرحلة الانتقالية. لكن مع وجود منافسين مثل حمدين صباحي وعمرو موسى، يطرحون أنفسهم إعلاميًا باعتبارهم رموزًا بديلة لقيادة هذه المرحلة الجديدة المفترض أن تبدأ، وأن يكونوا على رأس السلطات الانتقالية بأشكالها المختلفة.

هذه القصة من ملف  سرديات يناير الصحفية.. جريدة الشروق نموذجًا


سرديات يناير الصحفية| الغاضبون قادمون

باسل رمسيس_  تشكَّلت سردية الشروق عن الثورة بالتدريج، وبشكل أقرب للعفوية أو التلقائية. وهو ما يظهر في انحيازها المبكر للثورة من زوايا فكرية مختلفة، وابتعادها المفترض عن كثير من دوائر السلطة.

سرديات يناير الصحفية| غضب الطبقة الوسطى

باسل رمسيس_  في هذا العدد تبدأ الجريدة وضع "لوجو" مخصص وثابت للتغطية، مثبت في أعلى بعض صفحاتها، لصورةِ يدٍ مرفوعة بعلامة النصر، وفي خلفيتها جموع متظاهرين. وعنوان البرواز هو "مصر الغاضبة".

سرديات يناير الصحفية| نخبنة الثورة

باسل رمسيس_  يكتمل التناقض بين تهميش الشباب وتجهيل أسمائهم، والاعتراف بريادتهم في الوقت نفسه، بمنح الأهمية للحكماء وللنخب السياسية، مع بداية الحديث عن ائتلاف شباب الثورة، باعتباره قائد الميدان.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.